مقال رأي
الشعب يريد.. شعار قابل للتصرف والتوسعة فهو مفتوح بمصطلحات النحويين في مستوى نقاطه المتتابعة على متممات ومفاعيل وظروف وأحوال وأدوات ومركبات جزئية شتّى، ومنه تتناسل أسئلة عديدة، ماذا يريد؟ متى؟ كيف؟ كم؟ أين؟، لماذا؟ على هذا النحو قد نهتدي إلى المقاصد المستترة والمعاني المبهمة والضوابط المضمرة في "الشعب يريد.." لكن الأمر ليس هيّنًا كما سيتضح.
فقد تركت نقاط الفراغ "…" غموضاً في المضامين والمسالك والروافد جعل المؤمنين بشعار "الشعب يريد..." والمدافعين عنه، يعمرون الفراغات في أذهانهم وأنفسهم و"على الجدران الواقعية والافتراضية" كلٌّ على هواه ومذهبه وذوقه وثقافته وفهمه وتجربته ورؤيته واختصاصه وجهته، وأفضى هذا التعدّد إلى اختلاف الانتظارات وتباينها وتعارضها وتغيرها أحيانًا.
تركت نقاط الفراغ "…" غموضاً في المضامين والمسالك والروافد جعل المؤمنين بشعار "الشعب يريد..." يعمرون الفراغات كلٌّ على هواه وأفضى هذا التعدّد إلى اختلاف الانتظارات وتباينها وتعارضها أحيانًا
اقرأ/ي أيضًا: متشائل: منعرج انقلابي أم فاصل ديمقراطي؟
قيس سعيّد و"المسؤولية الكاملة"
الشعب يريد...هو الملفوظ السحري الذي ارتكز عليه قيس سعيّد رئيس الجمهورية في حملته التفسيريّة والانتخابيّة سنة 2019، وقد تعزز هذا الشعار الدعائيّ بعناصر أخرى جعلت أستاذ القانون الدستوري ينال أعلى درجات الثقة منها ما أبداه من طهارة وصدق وتفرّد في لغته وهيئته ممّا يبشّر بقطيعة مع الموروث السياسيّ القديم القائم على الكذب والمغالطة في الخطابات والتسويات والوعود.
لم يَقس الشعب كثيرًا على قيس سعيّد حينما اكتشف بعد الانتخابات الرئاسيّة ندرة تدخلاته وعجزه عن التغيير في الوضع العامّ الاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ، فقد كان الرجل محصّنًا بحجتين تجعلانه أبعد ما يكون عن الاتهام بالتحيّل على الناخبين والتنكر للعهود، الأولى تتمثّل في ضعف صلاحياته التي منحها له الدستور ممّا جعل إمكانيات التدخل للإصلاح محدودة جدًّا، والثانية تتّصل بأداء البرلمان ورؤساء الحكومات ووزرائها الذي اتصف بالفوضى والمحسوبية والفساد رغم الصلاحيات الواسعة. لذلك تطلع طيف كبير من التونسيين بحماسة حالمة إلى تطبيق الفصل 80 من الدستور راغبين في تحقيق الكثير من الانتظارات، وحسبوا الأمر يسيرًا وفاتهم أنّ المسار حافل بالتعقيدات والمطبات القانونية والإجرائيّة.
الثابت أن قيس سعيّد أصبح بإعلانه تفعيل الفصل 80 هو مرجع النظر وهو المسؤول الأول وتنتهي الحيرة خول "من يحكم تونس منذ عشر سنوات" حينما كان منطق التوافق وتداخل الصلاحيات يستعمل شماعة للتملص من المسؤوليات
لكن الثابت بالنسبة إليهم أن قيس سعيّد رئيس الجمهورية سيصبح بهذا الإجراء هو مرجع النظر وهو المسؤول الأول، فتنتهي الحيرة التي يعبر عنها سؤال "من يحكم تونس منذ عشر سنوات" حينما كان منطق التوافق وتداخل الصلاحيات يستعمل شماعة للتملص من المسؤوليات السياسية والجنائية وحينما كان المواطن التونسي مفرقًا دمه. الفصل 80 سيجعل قيس سعيد "يتحمل المسؤولية كاملة" على حدّ تعبيره، ولطالما أعلن عن استعداده لحمل هذا الوزر الثقيل كلفه ذلك ما كلفه.
خيبة انتظار "النهضويين"
حينما أعلن قيس سعيّد يوم 25 جويلية/ يوليو 2021 عن لجوئه إلى تطبيق الفصل 80 من الدستور، وفق تقديره، اتجه الاهتمام في البداية إلى الشارع لتحسّس ردود أفعال أنصار قيس سعيّد من جهة والمتمسكين بالبرلمان من جهة ثانية، لم يكن الطرف الأولّ في حاجة إلى تقليب النظر، فخروج المواطنين ليلاً تعبيرًا عن الفرح هو امتداد للتحركات الاحتجاجية التي بدأت صباحا في عدد من المدن.
حركة النهضة المزهوة باستعراض 27 فيفري/ شباط 2021 بدت واثقة في البداية من القدرة على قلب الطاولة واسترجاع "الشرعية البرلمانية" وتعالت الدعوات إلى الاحتجاج والاعتصام لكن الاستجابة لم تكن في حجم الانتظارات إذ كانت متناغمة مع الموروث التاريخي والشروط الموضوعية، فأبناء الاتجاه الإسلامي وأحفاده في تونس قد هجروا منذ عقود ثقافة الاحتجاج العلني وخلت تجربتهم بعد 2011 من المواقف الرافضة، فدأبوا على التسويات وظل حضورهم في الشوارع والساحات منذ عقد تقريبًا ذا ملمح احتفالي أقرب إلى "رفاهية التظاهر" منه إلى عفوية الاحتجاج وحماسته وصدقه.
الجانب الموضوعيّ الذي جعل النهضة عاجزة يوم 26 جويلية على إعادة "تشغيل البرلمان" هو بلا شك تفكّك قياداتها واقتناع فئة من أنصارها بوجاهة ما أقدم عليه قيس سعيّد بل إن الكثيرين منهم يتناقلون بينهم قراءة مفادها أن رئيس الجمهورية قد أنقذهم من انتفاضة تستهدف طيفًا سياسيًا واسعًا على رأسه حركة النهضة وما الأحداث العنيفة التي اندلعت صبيحة يوم 25 جويلية إلا مؤشرًا على شرارة الإعلان عن ثورة ثانية، وفق رأي البعض.
الخيبة السياسيّة لأكبر كتلة برلمانية جعلت مواقف قياداتها تتخبّط وتعلن بين الفينة والأخرى عن الموقف وضدّه من إظهار العداء إلى التفهمّ وإبداء الرجاء إلى التصدّي لمن يعتبر الأمر انقلابًا محضًا
هذه الخيبة السياسيّة لأكبر كتلة برلمانية جعلت مواقف قياداتها تتخبّط وتعلن بين الفينة والأخرى عن الموقف وضدّه من إظهار العداء إلى التفهمّ وإبداء الرجاء إلى التصدّي لفئة من أنصارها وقياداتها المتمسكين برفض ما يعتبرونه انقلابًا محضًا.
خيبة انتظار الاستئصاليين
يبني الاستئصاليون عداءهم لحركة النهضة على سرديّات الإرهاب والرجعية والمتاجرة بالدين والنفاق السياسي، ويصرّون على اعتبار هذا الجسد السياسيّ لا يصلح ولا يقبل الإصلاح مهما حرصت قياداته على إظهار التسامح والانفتاح، ويرى الاستئصاليون أنّ ما يسميه الإسلاميون مراجعة واعتدالاً هو مجرّد "تكتيك" في انتظار "التمكين".
هذه الفئة التقطت آيات الصراع والعداء بين النهضة وقيس سعيّد فسجلت آمالها وانتظاراتها في سجل الفراغ الذي أوحت به النقاط المقترنة في عبارة "الشعب يريد...."، خيبة انتظار هذا الشق الإيديولوجي مردها عدم مراعاة العنصر الجوهري في مشروع قيس سعيّد وهو محاربة الفساد في وجهه الماليّ والتشريعيّ والأخلاقيّ.
"خوانجي" ومتدين ورجعي تهمٌ قديمة يعتمدها الاستئصالي في محاربة عدو أزلي ويستفيد منها بعض الإسلاميين في التملّص من تهم المساهمة في الفساد وتبريره والمشاركة فيه فيتمادون في الادعاء بأنهم مستهدفون بالإقصاء والسجون وغيرها من أساليب القمع للتعتيم على التقصير والجرائم الحقيقية ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي.
اللافت أنّ البعض قد بنى تصوره لفكرة الاستئصال على عينة من الإيقافات التي طالت عددًا من قيادات ائتلاف الكرامة الحزب الأكثر عفوية وتمسّكاً بالمنحى الديني، هذا التصورّ مردود لأنّ التضييقات قد طالت أطرافًا عديدة ومتنوعة المرجعيات صلتها أبعد ما تكون عن الإسلاميين ممّا يساهم في استبعاد فكرة استهداف شقّ إيديولوجي مخصوص.
خيبة انتظارات القوى المدنية
لم تشكّك العديد من القوى المدنية في نوايا قيس سعيّد الإصلاحيّة بعد اتخاذه إجراءات استثنائيّة يوم 25 جويلية بناها على فهم مخصوص للفصل 80 للدستور، غير أنّ الإعلان عن التمديد في الإجراءات الاستثنائية يوم 24 أوت/ أغسطس 2021 جعل عددًا هامًّا من هذه القوى يعلن عن خيبة انتظاره بسبب ما يمكن أن يتهدّد أحد أفضل مكتسبات الثورة وهي الحريات العامّة والخاصّة، يتضح هذا من خلال بيان صدر يوم 26 من نفس الشهر توافقت عليه كبرى المنظمات الوطنية منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وجمعية القضاة التونسيين والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات فضلاً عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية.
الإعلان عن التمديد في الإجراءات الاستثنائية جعل عددًا هامًّا من القوى المدنية يعلن عن خيبة انتظاره بسبب ما يمكن أن يتهدّد أفضل مكتسبات الثورة
هؤلاء أجمعوا على مساندة التوجه نحو "إنهاء منظومة الحكم الفاسدة وأجهزتها المنقلبة على شعارات الثورة التونسية في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية" في المقابل استنكروا "سياسة التردّد والضبابية وغياب برنامج عمل واضح وشفاف للفترة القادمة ومحدّد بسقف زمني" ونبهوا إلى خطورة "بعض الممارسات التعسفية التي تهدّد قيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان" وعدّدوا أمثلة تؤكّد هذا الانحراف الإجرائي المخيّب للآمال، منها وفق نصّ البيان "التقييد من الحق في التنقل دون اعتماد إجراءات قانونية واضحة ومقيّدة في الزمن" و"إجراء تعيينات على رأس بعض الخطط السامية في وزارة الداخلية لإطارات لها ملفات قضائية جارية ..".
اقرأ/ي أيضًا: منظمات تونسية: شهر من الإجراءات الاستثنائية قد شابته ممارسات تعسفية
خيبة انتظارات الإصلاحيين
مقاومة الفساد شعبة من شعب الإصلاح التي يتمسك بها شقّ كبير من أنصار قيس سعيّد، ولأنّ الفساد واسع الانتشار واضح بيّن مُلقى على الطريق لا يحتاج إلى بحث طويل استبشر هؤلاء الإصلاحيون بعدد من الإيقافات التي طالت رجال أعمال ونواب وقضاة لكن فاجأهم بطء الإجراءات وندرتها قياسًا إلى حجم التجاوزات فقد تهيأ لهم أن السجون ستغصّ في بضعة أسابيع بالمرتشين والمزورين ومبيضي الأموال وبارونات الفساد المعروفين لدى القاصي والداني اسمًا ولقبًا وسيرة وموطنًا.
استبشر الإصلاحيون بعدد من الإيقافات التي طالت رجال أعمال ونواب وقضاة لكن فاجأهم بطء الإجراءات وندرتها
اللهفة إلى قطف ثمار المحاسبة وبطء هذا المقصد الثوري جعل المتطلعين إلى الإصلاح موضوع تندر وسخرية في مواجهة خصومهم المشككين في قدرة قيس سعيّد على الاقتراب من "الحيتان الكبيرة" ولم تسعف المتمسكين بحسن نوايا سعيّد وشجاعته غير حجة البيرقراطية المعطِّلة وتعقد الإجراءات، فيدعون إلى الصبر والانتظار في ثقة لا تخلو من شعور بالأسف وخوف من ضياع الفرصة الأخيرة للانقضاض على المتلاعبين بآمال التونسيين وأموالهم وآلامهم.
خيبة انتظار المفقرين
جلّ المفقرين في تونس لم تكن تعنيهم الخلافات الإيديولوجية، فإذا حدثتهم عن حركة النهضة على سبيل المثال وجدتهم قد أعرضوا تمامًا عن تلك السرديات السياسيّة والدينية إجابتهم تكاد تقتصر على القول إن هذا الحزب قد ساهم في تفقير التونسيين وبناء عليه فإن تصحيح المسار بالنسبة إلى هؤلاء يتمحور حول مطلب واحد هو تخفيض الأسعار.
وقد التقط قيس سعيّد هذه الرسالة فدعا أطرافًا عديدة بلطف حينًا وحزم أحيانًا إلى التخفيض في أسعار المواد الأساسيّة والمدرسية لكن خيبة الانتظار كانت مدوية فقد تعنتت مقتضيات السوق وقوانين العرض والطلب على أوامر الرئيس ونداءاته فعلق مهدي المبروك وزير الثقافة الأسبق على هذه الخيبة قائلاً في تدوينة نشرها على حسابه بفيسبوك يوم 26 أوت/ أغسطس 2021 "المركز الوطني البيداغوجي يقرر ترفيع أسعار الكتاب المدرسي بنسبة 8.34 في المائة وهو مؤسسة عمومية ميزانيتها من دافعي الضرائب/الدولة .. عدد التلاميذ يفوق هذه السنة مليونين وثلاث مائة ألف تقريبًا ... فوتت الشعبوية على نفسها استمالة "شعب المدارس " والتخفيض في ثمن الكتاب أو الإبقاء عليه وذلك أضعف الإيمان غير أنها عجزت عن ذلك حين ارتطمت بالعقلانية الحسابية الصارمة للاقتصاد عمومًا التي لها معقوليتها الخاصة".
يمكن الانتهاء من خلال هذا العرض التحليلي إلى ثلاث نتائج:
الأولى مفادها أنّ تعدد الانتظارات والآمال وتنوعها بعد 25 جويلية قد ساهمت في تعدد الخيبات، غير أنّ ما يراه هذا الطرف مخيبًا للآمال يحسبه الأخر طبيعياً فالاستئصاليون مثلاً تطلعاتهم تختلف عن تطلعات الحقوقيين والإعلاميين وفقهاء القانون، والمفقرون تكاد انتظاراتهم تختلف في حجمها ومضامينها وأحكامها عن مقاصد سائر الأطراف الأخرى ومصالحهم ومعاييرهم التقييمية، وبناء على ذلك فإن عبارة الشعب يريد… يعز أن تفضي إلى الانسجام في مجتمع محمي من الاختلافات المذهبية غير أنه حافل بالتباينات الإيديولوجية والطبقية والمادية والجهوية والفكرية والذوقية والسلوكية.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أن قيس سعيّد "بملمحه الطاهر العفوي" قد استطاع الجمع في سلته الانتخابية بين اليساريين والليبراليين والإسلاميين والمثقفين والبسطاء ونخبة من المفكرين هؤلاء هويتهم هويات وإرادتهم إرادات، والشعب إذا تباينت مرجعياته اختلفت تطلعاته وتعاظمت خيباته، فكيف السبيل إلى صناعة إرادة وطنية جامعة يمكن أن يستوعبها شعار الشعب يريد حتى نُخلص هذا العبارة من مخاطر الشعبوية التي تفضي في الغالب إلى المفارقة بين الآمال الصادقة والواسعة والعفوية من جهة والآفاق والنتائج المحدودة حسابياً وواقعيًا ومنطقيًا من جهة معاكسة.
من مصادر الشعور بالخيبة وهو استعجال جني الثمار لكن هل يمكن بعد "عشرية فاشلة" الاعتراض على المستعجلين وإعادة تشغيل اسطوانة الصبر والانتظار؟
النتيجة الثانية تتصل بمصدر آخر من مصادر الشعور بالخيبة وهو استعجال جني ثمار ما يُطلق عليه البعض "تصحيح المسار"، لكن هل يمكن بعد "عشرية فاشلة" الاعتراض على المستعجلين وإعادة تشغيل اسطوانة الصبر والانتظار؟
النتيجة الثالثة ترتبط بالمفارقة التي وقع فيها بعض الحقوقيين، ففيهم من يقبل مبدأ الإجراءات الاستثنائية، ويتصدى في نفس الوقت لأي خرق للضوابط والقواعد الأساسية المتصلة بمنظومة الحقوق والحريات، ألا يعد الترحيب بالاستثناء مؤشرًا على قبول الإعراض عن القواعد؟
أخيرًا يمكن التنبيه إلى أن خيبة الانتظار لا تفيد بالضرورة الوقوع في موقف سلبي، فقد يتوقع البعض نهايات دموية عنيفة وصراعات استئصالية فيخيب ظنهم وتسقط حساباتهم وينتهي الأمر إلى مسارات سلمية مفيدة وناجعة أو العكس.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: