30-ديسمبر-2021

مثّل إضراب الجوع نقطة جذب قويّة لقوى فرّقها الانتقال الديمقراطي في سنوات تعثّره العشرة وجمعتها مواجهة الانقلاب

مقال رأي

 

يتواصل إضراب الجوع الذي دعت إليه "مواطنون ضدّ الانقلاب" والذي انطلق منذ 23 ديسمبر/كانون الأول 2021. ويأتي هذا الحراك الحقوقي السياسي ضمن فعاليات في مواجهة الانقلاب عرفت انطلاقتها بعد ما يقرب من الشهرين على انقلاب 25 جويلية. ومثّل إضراب الجوع نقطة جذب قويّة لقوى فرّقها الانتقال الديمقراطي في سنوات تعثّره العشرة وجمعها الانقلاب رغم اختلافها حول الإجراءات الاستثنائيّة التي لم تتّضح غايتها للبعض إلاّ بعد الأمر الرئاسي عدد 117 الصادر بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2021.

  • مسار المواجهة

كان أوّل ردّ على إجراءات 25 جويلية/يوليو 2021 الاستثنائية يوم 18 سبتمبر/أيلول 2021 مع قيام المبادرة المواطنيّة "مواطنون ضدّ الانقلاب". في وقت لم تتجاوز ردود الأفعال الموقف من دستوريّة هذه الإجراءات. وقد اختلفت بين مؤيّد ومعارض لها في علاقة بالدستور وروح الفصل 80 ومقاصده (موضوع الخطر الداهم).

ومثّل غياب ردّ فعل سياسي ميداني فوري على الانقلاب على الدستور والديمقراطيّة استفهامًا كبيرا في الداخل والخارج. وهو استفهام لا يجد إجابته إلاّ فيما صوّره الإعلام المناهض للثورة والمسار الديمقراطي من ابتهاج شعبي بالإجراءات الاستثنائيّة، واعتبارها طيًّا لصفحة "عشريّة سوداء"، وإنهاءً لمنظومة حكم فاسدة.  

يقترن إضراب الجوع في تقاليد النضال الحقوقي بانسداد سبل التعبير عن الرأي وغياب الحد الأدنى من مربعات الحرية. ويكون هذا النوع من الانسداد نتيجة مباشرة لأنظمة الاستبداد وسياساتها في كبت الحريات

 بعد 5 أشهر على الانقلاب صار بإمكاننا أن نتبيّن مسار المواجهة بين الانقلاب و"مواطنون ضدّ الانقلاب". وقد اجتهد إعلام الانقلاب وروافده في مواقع التواصل الاجتماعي في أن يعطي المواجهة عنوانًا هوويًا. لكنّ مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" المواطنية رسمت عنوانًا واضحًا يُوقِفُنا على أنّ حقيقة الصراع إنّما هي بين القوى المناهضة للدستور والديمقراطيّة والقوى المدافعة عن مرجعيّة الدستور ومسار تأسيس الحرية.

يمكن الانتباه إلى مراحل ثلاثة قطعها الصراع الذي تخوضه "مواطنون ضد الانقلاب" في مواجهة سعيّد وانقلابه. وتمثّلت المرحلة الأولى في كسر الصمت بتظاهرات في شارع الثورة انطلقت يوم 18 سبتمبر/أيلول 2021 وبلغت أوجها في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021.

وأمكن لهذه المرحلة أن تحقّق ما رُسِم لها من أهداف، فقد كسرت التظاهرات الجماهيرية المتواسعة السردية الشعبوية وأسطورة التفويض الشعبي التي استند إليها الانقلاب، وأبانت التظاهرات التي قادتها "مواطنون ضدّ الانقلاب" عن شارع ديمقراطي واسع ضمّ نخبَ البلاد النوعيّة. وهي النخب التي مثّلت جمهور قيس سعيّد الناخب، وكانت التقت، قبل 2011، على مواجهة الاستبداد. ولعلّ من أهمّ المفارقات السياسيّة بروز الديمقراطيّة "مطلبًا سياسيًّا" في أجواء انقلابيّة بلغ فيها ترذيل الديمقراطيّة ذروته.

اقرأ/ي أيضًا: خارطة طريق قيس سعيّد: مأزق آخر أم هبوط من الشجرة؟

وأمّا المرحلة الثانية، فكانت مع الندوة الصحفيّة يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وقد مكّنت رغم عقدها بالشارع بجهة باب سعدون بسبب المنع والتضييق، من عرض خارطة طريق دقيقة ترسم سبل تجاوز حدث الانقلاب والخروج من الأزمة والتقدّم نحو بناء الديمقراطيّة بمرجعيّة دستور الثورة. فبعد تشخيص الحالة لا بدّ من المرور إلى معالجتها.

مثّل إضراب الجوع نقطة لقاء لجلّ القوى الديمقراطية والأحزاب الوطنية ومركز اشتباك مع الانقلاب بأفق تحوّل إضراب الجوع إلى إضراب سياسي عام يمتدّ تدريجيًّا إلى الجهات

وأمّا المرحلة الثالثة فقد انطلقت بتنزيل هذه الخطّة والبدء ببندها الأوّل، فثبّتت تظاهرة باردو التي تمّت محاصرتها بشارع "20 مارس" لمنع الوصول إلى ساحة البرلمان "معركة البرلمان" عنوانًا سياسيًّا لهذه المرحلة. ويأتي إضراب الجوع حلقة متقدّمة من هذه المرحلة في مواجهة الانقلاب.  

  • إضراب الجوع  

يقترن إضراب الجوع في تقاليد النضال الحقوقي بانسداد سبل التعبير عن الرأي وغياب الحد الأدنى من مربّعات الحريّة. ويكون هذا النوع من الانسداد نتيجة مباشرة لأنظمة الاستبداد وسياساتها في كبت الحريّات، أو نتيجة انقلاب سياسي على سقوف حريّة عالية مثلما عليه الحال في انقلاب قيس سعيّد في 25 جويلية.

لإضراب الجوع الذي أطلقته "مواطنون ضدّ الانقلاب" وجه حقوقي بلا أدنى شكّ، لكنّ اندراجه ضمن خطّتها في مواجهة الانقلاب يجعل منه إضرابًا سياسيًّا وعنوانًا كفاحيًّا. وقد مثّل الإضراب المنعقد بمقرّ حزب حراك تونس الإرادة بالمنزه السادس نقطة لقاء لجلّ القوى الديمقراطيّة والأحزاب الوطنيّة، ومركز اشتباك مع الانقلاب بأفق تحوّل إضراب الجوع إلى إضراب سياسي عام يمتدّ تدريجيًّا إلى الجهات من خلال إضرابات جوع محليّة مجاورة لعدد غير قليل من التوتّرات الاجتماعيّة.

 اقرأ/ي أيضًا: تونس سنة 2021.. ديمقراطية معيبة تهددها الشعبوية

كان في تكوين "مواطنون ضدّ الانقلاب" بذرة المشترك، ولعلّ هذا البعد التكويني جعل تحرّكاتها في كلّ الاتجاهات تدفع نحو بناء مشترك وطني. ومن جهة أخرى مثّل إضراب الجوع نقطة استقطاب للقوى السياسيّة والاجتماعيّة. فقد زار المضربين عن الطعام جلُّ زعامات العمل الحقوقي والسياسي زمن الاستبداد ومن صاروا قيادات حزبيّة وكوادر في دولة الثورة وصانعي سياسات. ومكّن الإضراب من قرب أكثر من "مواطنون ضدّ الانقلاب" ومبادرتهم الديمقراطيّة. فكانت الزيارات منطلقًا لحوارات سياسيّة وفكريّة جادّة بُثّ بعضها على المباشر ولقاءات سياسيّة حول الموقف من الانقلاب وكيفيّة تجاوزه وما سيكون بعده.

مثّل مقر إضراب الجوع قبلةَ عديد القيادات السياسية والشخصيات الوطنية، ومما لوحظ أنّ جل المشاركين في إضراب الجوع سنة 2005 في إطار "حركة 18 أكتوبر" الرائدة كانوا من زوار المضربين عن الطعام

النخبة التونسيّة نخبة سيزيفيّة تنقُض غزْلها في أوّل منعرج. فمثلما جمعهم الاستبداد فرّقتهم الحريّة وتنابزوا بالمنظومة القديمة قبل أن ينصّبوها حكمًا بينهم وبعد أن أمْهَلوها بين 14 جانفي/يناير و23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 لكي ترتّب صفوفها والمشهد ولتجعل الانتخابات المنتظرة مشروطة بهذه الترتيبات أيًّا كانت نتائجها. وإنّ ما عرفته محاولة التأسيس التي انطلقت مع انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 من تعثّر لم تكن بعيدة عن الترتيبات المذكورة. وهذا ما يمكن اعتباره أحد أسباب التعثّر في سنوات الانتقال العشرة إلى جانب أسباب أخرى منها من تمّ تفويضهم لقيادة مرحلة التأسيس.

  • ملامح جبهة سياسيّة

مثّل إضراب الجوع المتواصل بمقرّ حزب حراك تونس الإرادة قبلةَ عديد القيادات السياسيّة والشخصيّات الوطنيّة والمنظّمات الاجتماعيّة. وممّا لوحظ أنّ جُلّ المشاركين في إضراب الجوع سنة 2005 في إطار "حركة 18 أكتوبر" الرائدة كانوا من زوّار المضربين عن الطعام وإنْ لم يجتمعوا معًا في الوقت نفسه. وفي هذا رسالة قويّة على تتابع الأجيال في الدفاع عن الحريّة حين تضيق مربّعاتها. ولعلّ ما انعقد من حوارات حول المرحلة وسنوات الانتقال والانقلاب ومسؤوليّة القوى الديمقراطيّة مثّل مقدّمة إلى لقاءات أخرى منها ندوة سياسيّة حول بناء مشترك في مواجهة الانقلاب.

اقرأ/ي أيضًا: تونس: سعيّد يتجنب كشف أوراقه والمعارضة تتجهز لشهر من الضغط والاحتجاجات

وإذا كان قيام الجبهة السياسيّة من أجل الدستور واستعادة الديمقراطيّة ضرورة فإنّ شروطها تبدو غير مجتمعة رغم توزّعها على كامل مساحة المشهد السياسي. ومع ذلك فإنّ وجودها بالقوّة يجعل من وجودها بالفعل مسألة وقت أمام عجز الانقلاب عن الأدنى من تسيير الدولة وإمعانه في هدم ما بقي قائمًا من مؤسساتها.

ومن اللافت للانتباه أنّ مقرّ إضراب الجوع صار مركزًا للحياة السياسيّة. وبلا مبالغة اجتمعت فيه رموز الدولة والثورة وشخصيّاتهما في العشريّة الماضية وما قبلها. فزار الإضراب الرئيس والوزير والمستشار وكاتب الدولة، وزاره رموز النضال الديمقراطي والحقوقي والحركة الثقافية وعناوين الأكاديميا والبحث العلمي ومديرو مراكز البحث.

مما لا شك فيه أنّ تجربة "مواطنون ضد الانقلاب"، مثلما نجحت في معركتها ضد الانقلاب وفرضت عنوان المعركة الحقيقي (انقلاب/شارع ديمقراطي)، تخطو خطوة مهمة نحو إفراز القوة السياسية والشرط الوطني الذي لا يمكن تخطّيه 

أمران بصدد التشكّل: المجتمع المدني التونسي الجديد وهو يجتهد في الخروج من انقسام مدني/أهلي الموروث عن الدولة الجهويّة وملامح قوّة سياسيّة هي أقرب الحزب الوطني الديمقراطي (العلماني). بعد أن تخلّص من مواد سياسية تركها لَبناتٍ في بناء قوة سياسية ليبرالية محافظة.

لا يختلف اثنان في أنّ ترتيبات تجري الآن لمستقبل الدولة والسياسة والديمقراطية في تونس، وهي ترتيبات بشروط دولية لِما بعد الانقلاب. وتبدو الشروط المحلية شبه غائبة بسبب ما كان من تجريف على مدى عشريّة الانتقال لشروط الموقف السيادي وما تلاه من تدويل الانقلاب لملفّ الانتقال الديمقراطي بتونس أوصل البلاد إلى الدرجة الصفر للسيادة. وسيكون كلّ ذلك انعكاسًا مباشرًا على ملامح الحياة الديمقراطيّة المستعادة.

ومما لا شكّ فيه أنّ تجربة "مواطنون ضدّ الانقلاب" مثلما نجحت في معركتها ضدّ الانقلاب وفرضت عنوان المعركة الحقيقي (انقلاب/شارع ديمقراطي)، تخطو خطوة مهمّة نحو إفراز القوّة السياسيّة والشرط الوطني الذي لا يمكن تخطّيه في ظلّ ترتيبات دوليّة لمستقبل تونس والمجال المغاربي...

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

مواجهة الانقلاب: "الحقيقة الوحيدة" في مشهد متقلّب

خريطة طريق سعيّد: هل يمكن أن تسقط؟