16-ديسمبر-2021

"لا حقيقة سياسية اليوم سوى الإجماع الواسع على مواجهة الانقلاب وإيقاف نسقه التدميري وغلق قوسه" (صورة أرشيفية/الشاذلي بن ابراهيم/Nurphoto)

 

مقال رأي

 

لا أذكر أنّني استعملت جملة "الحقيقة وحدها ثورية"، ولا يمكن أن أذكر السبب. فقد يكون العزوف عن إسقاط "معنى مطلق" على وقائع متغيّرة لا يُنظر إليها من الزاوية نفسها، إلى جانب أنّ الاحتماء بالمطلقات من مثل "الحق منتصر لا محالة" غالبًا ما تستدعيه لحظة إحباط ورغبة في التغطية عليه وتجاوزه بكل السبل، في الآن نفسه.

لكن جملة الحقيقة وحدها ثورية نطقت بها وقائع ومواقف تتالت منذ الانقلاب على الدستور والديمقراطية في 25 جويلية/يوليو 2021 في تونس. وكأنّي أقرؤها على صفحة المشهد السياسي بخطّ جميل مضيء. بدا لي الانقلاب والموقف منه الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن نقارب بها المواقف المختلفة والمتحوّلة من الإجراءات الاستثنائية في ذكرى عيد الجمهورية. وتأكّد هذا بعد خطاب رئيس الجمهورية يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2021.

الموقف من الانقلاب قبل حدوثه

من المثير أنّ الموقف، من الانقلاب، رفضًا وقبولًا، سبق الانقلاب. فقد بلغت الأزمة السياسية في ظل الأزمة المالية الاقتصادية المتدحرجة أوْجَها، ولم تكن الأزمة الصحية والوباء المهدّد للأرواح والمعاش سببًا كافيًا لاجتماع الكتل البرلمانية والقوى الاجتماعية وسائر الطيف السياسي لتأجيل المنازعات السياسيوية العبثية.

كان صعود الحزب الدستوري الحر إلى البرلمان وقيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية عاملاً مهمًّا في تحويل الصراع الديمقراطي تحت سقف البرلمان وبمرجعية الدستور إلى صراع ضد الديمقراطية

وكان صعود الحزب الدستوري الحر إلى البرلمان وقيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية عاملاً مهمًّا، كثيرًا ما يقع التغافل عنه في تحويل الصراع الديمقراطي تحت سقف البرلمان وبمرجعية الدستور إلى صراع ضد الديمقراطية. فمثلما لم يُخْفِ الرئيس مناهضته للدستور الذي أقسم عليه وبموجبه صعد إلى سدّة الرئاسة، ورفضه الالتزام بما ضبطه له من مهام وصلاحيات، لم تدّخر عبير موسي، رئيسة الدستوري الحر، في تعطيل أشغال المجلس النيابي من خلال بلطجة لا تتوقّف جرّت إلى مشاهد أزرت بالمؤسسة ورذّلت صورتها.

ومن اللافت للانتباه أنّ القوى الديمقراطية لم تَتّحد على هذا العامل الجديد الطارئ المهدّد للديمقراطية ومؤسساتها مع انتخابات 2019. وكان لملابسات تشكيل حكومة الفخفاخ وسقوطها، إلى جانب الاختلافات الإيديولوجية وتنابز من اشتركوا في عهدتها التي لم تدم أكثر من ستة أشهر بالفساد، تأثير كبير على تأجيج النزاع. وهو ما جعل من بعض هذه القوى المشكلة للحكومة ترضى بدور وظيفي يخرجها عن مرجعيتها الديمقراطية ويجعلها في خدمة أجندات كانت تناهضها وتصنفها ضمن الثورة المضادّة.

إنّ تاريخ الانتقال الديمقراطي الممتدّ على عشر سنوات كان في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال

فالموقف من الانقلاب كان سابقًا بلا شك عن حدث الانقلاب. بل إنّ تاريخ الانتقال الديمقراطي الممتدّ على عشر سنوات كان في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال. فعبارة "الانقلاب على المسار" ظهرت بعد سنتين من هروب بن علي، وبعد سنة على انتخابات 24 أكتوبر 2011 التأسيسية.

اقرأ/ي أيضًا: تونس: الدولة والسياسة والليبرالية المعطّلة

كيف عزل قيس سعيّد نفسه؟

سهّلت جذور الانقلاب العميقة في سياق الانتقال الديمقراطي عملية الانقلاب. وسبقت سردية الانقلاب حدث الانقلاب نفسه، فاكتملت إدانة سنوات الانتقال العشر حتى سهُل نعتها بعد 25 جويلية بـ"العشرية السوداء".

ورغم أنّ المشاركين في الأحداث في كامل تراب الجمهورية لم يتجاوز عشرة آلاف متظاهر. ولم يتجاوز عدد المتظاهرين في أضخم المظاهرات، وكانت بمدينة سوسة، الألفين. فإنّ أحداث 25 جويلية اعتبرت "خروج الشعب التونسي بأسره" ليقول كلمته في منظومة حكم فقدت كلّ أسباب التواصل. وهي في هذه السردية عملية حسم شعبي جذري في الإسلام السياسي وممثله حركة النهضة.

لم يناهض الانقلاب إلاّ قلّة قليلة من الديمقراطيين، ومع ذلك بدأ الجدل حول الانقلاب وعلاقته بالدستور والمؤسسات التي بنتها الديمقراطية يتّسع

لم يناهض الانقلاب إلاّ قلّة قليلة من الديمقراطيين، ومع ذلك بدأ الجدل حول الانقلاب وعلاقته بالدستور والمؤسسات التي بنتها الديمقراطية يتّسع. وكانت هناك ثلاثة عوامل أساسية ساعدت على عزل قيس سعيّد بالتدريج، في داخل البلاد وخارجها:

أ - شخصية قيس سعيّد وبرنامجه الشعبوي، فالرئيس قيس سعيّد، لم يكن يتقدّم على أساس أنّه تصوّرٌ سياسي، من بين عدة تصورات في المشهد. قيس سعيّد كان يرى فيما يحمله من تصور غائم عن "الديمقراطية القاعدية" أو "الديمقراطية المباشرة" بديلاً عن "الديمقراطية التمثيلية" التي أثبتت فشلها في العالم، وتمثّل "سنوات الانتقال العشر السوداء" في تونس بروفة على هذا الفشل المحلّي وعيّنة عمليّة منه.

ب - رفض كل الأيادي التي امتدت إليه من قوى المنظومة القديمة سليلة نظام الاستبداد والدولة العميقة، ومن قوى وظيفية تنكرت للمرجعية الديمقراطية، ومجاميع إيديولوجية انتهت إلى أنّ الديمقراطية بما هي اختيار شعبي حرّ، باتت تمثّل عملياً تهديداً وجودياً.

ج - انطلاق حركة ميدانية مناهضة للانقلاب، بعد حوالي شهرين على حدوثه. فرغم الجدل القانوني الذي أطلقه حدث الانقلاب حول علاقته بالدستور وخروجه عن صريحه، وشططه وتفرّده في فهم الفصل 80 الشهير منه، فقد خيّم صمتٌ على البلاد لم يخرقه غير مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، وقد طرحت على نفسها مهمة "إسقاط الانقلاب". وأمكن لهذه المبادرة المواطنية التي أطلقها ثلة قليلة من الناشطين السياسيين مختلفي المشارب الإيديولوجية من الجامعيين وكوادر الدولة والمجتمع المدني جمع بينهم طوال العشرية الفارطة الدفاع عن شروط الديمقراطية المتناقصة، ونقدٌ جذري لهذه العشرية للوقوف على أسباب تعثرها.

ونجحت هذه المبادرة المواطنية في وقت قياسي في كسر هذا الصمت وخلخلة السردية الشعبوية ودحض أسطورة التفويض الشعبي. وأمكن لهذه القلة من المناضلين وبروح كفاحية عالية من الدفاع عن شروط الديمقراطية ومن تفجير "شارع ديمقراطي". وتحوّلت الديمقراطية إلى "مطلب سياسي ترفعه النخبة في سياق متوتّر قام على "ترذيل الديمقراطية" وإدانة جذرية لـ" العشرية السوداء".

وكان التأثير الأقوى للأزمة المالية الاقتصادية وسذاجة ما طرحه قيس سعيّد لتجاوزها، وتشديدُ الصناديق المانحة على أن يكون شريكها ديمقراطيًا ومستودعًا بمؤسسات تشريعية وتنفيذية ممثلة.

اقرأ/ي أيضًا: الشعبوية في تونس.. بين الخطاب والأداء

"الحقيقة وحدها ثورية"

ظلّ قيس سعيّد يراوح مكانه، بخطابه السياسي المنَمْذج والمتميّز بروح الإقصاء والإمعان في تقسيم الشعب إلى خيّرين وأشرار، ووطنيين نبلاء وخونة عملاء. وتواصل هدم المؤسسات الدستورية فاجتمعت كل السلطات بيد سعيّد وغدا حاكماً بأمره. 

وظلّت الأزمة المالية الاقتصادية تستفحل وتتوسع أمام عجز قيس سعيّد وحكومته غير الشرعية، وخطابه الذي يدور حول نفسه ليصل الوضع إلى درجة من التعفّن تهدد وحدة الدولة واستمرارها.

وبدأت تتعالى أصوات معارضة الانقلاب من القوى الاجتماعية والسياسية التي وقفت معه بقوّة. وفي مقدمتها الاتّحاد العام التونسي للشغل ونهجه في "الخط الثالث" المطالب، من داخل 25 جويلية، بشراكة فعلية في رسم خارطة طريق تُخرج المشهد مما تردّى فيه. وكانت بعض هذه القوى الحزبية والسياسية تنكر على "مواطنون ضدّ الانقلاب" تحرّكها في وجه الانقلاب على الدستور والديمقراطية، وأنّها في نهاية المطاف لا تعدو أن تكون أداة من أدوات حركة النهضة التي كانت إلى جانب حزبي قلب تونس وائتلاف الكرامة، تمثّل الحزام السياسي.

كانت سردية اتحاد الشغل والقوى الحزبية الوظيفية تقوم على أنّ 25 جويلية فرصة، دون أن تكشف عن تصوّرها الحقيقي لهذه الفرصة، ولكن أطوار الصراع أفصحت أنّه "ديمقراطيّة بلا إسلاميين"

كانت سردية اتحاد الشغل والقوى الحزبية الوظيفية تقوم على أنّ 25 جويلية فرصة، دون أن تكشف عن تصوّرها الحقيقي لهذه الفرصة، ولكن أطوار الصراع أفصحت شيئًا فشيئاً عن أنّه يُرسي عند "ديمقراطيّة بلا إسلاميين".

ومن جهة أخرى تبرر هذه القوى السياسية والاجتماعية التحاقها بمعارضة الانقلاب بالأمر الرئاسي 117 بتاريخ 22 سبتمبر. وتعتبره انقلابًا فعليًا على الديمقراطية وجمع سعيّد لكل السلطات بين يديه. ولكن ما يواجه هذه القوى هو أنّ هذا الأمر الرئاسي في حقيقته كان تدوينًا لما ورد مشافهة في كلمة قيس سعيّد وهو يعلن عن الإجراءات الاستثنائية مساء يوم 25 جويلية.

ثمّ إنّه لا شيء يمنع النهضة التي استفادت من مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" أن تستفيد من مبادرة الملتحقين بمناهضة الانقلاب إلاّ إذا كانت حزب النهضة لم تعد موجودة بعد 22 سبتمبر. فيتأكّد تهافت هذه السردية أمام "مواجهة الانقلاب" باعتبارها "الحقيقة الثوريّة الوحيدة" التي تجرّ تحت سقفها قوى اجتماعية وسياسية ظلّت على طمعها في ما يمكن أن يمنحها إياه الانقلاب، وما يمكن أن يسعفها به من إزاحة خصم سياسي عجزت عن تحييده بالانتخابات.

لذلك تتوسع دائرة مواجهة الانقلاب، وتبيّن أنّ خندق مواجهة الانقلاب وإنقاذ البلاد من أزمتها واستعادة المسار الديمقراطي يسع كل القوى المدافعين عن الدستور والديمقراطية.

تتوسع دائرة مواجهة الانقلاب في تونس بعد أن تبين أن إنقاذ البلاد من أزمتها واستعادة المسار الديمقراطي يسع كل القوى المدافعين عن الدستور والديمقراطية

خطبة الوداع

كان منتظرًا أن يكون 17 ديسمبر ذكرى اندلاع ثورة الحرية والكرامة وانتفاض الهامش المواطني موعدًا يعلن فيه قيس سعيّد عن إجراءاته الحاسمة وقراراته الفاصلة وانطلاق آخر صواريخه من منصّاتها، بعد أن طال انتصابها.

ولكن من خلال خطابه يوم 13 ديسمبر تبيّن أنّه ليس له ما يقول يوم 13 ولا يوم 17. وأنّ هذه الكلمة قد تكون آخر خطبة، وهي ليست خطبة وداع حين لم يبق حوله من سيودّع بمن فيهم الذين حرّضوا على الانقلاب ثمّ ابتهجوا بتنفيذه واعتبروا 25 فرصة لينتبهوا إلى أنّ 22 سبتمبر 2021 فرصتهم الوحيدة للتراجع عن وظيفية حمقاء.

كانت الخطبة رتيبة لا تنطق بجديد، وقد أعاد ترتيب العناصر التي كان يرددها في كل خطبه المتشنّجة حول الاستفتاء والعلاقة بالدستور والمنصات الإلكترونية…الخ. ولعل الجديد الوحيد في هذه الخطبة هو الإيهام بتسقيف الإجراءات الاستثنائية، ولا تسقيفَ. فسكوته عن الانتخابات الرئاسيّة واكتفاؤه بالحديث عن الانتخابات التشريعية يجعل منه رئيسًا مدى الحياة.

ولا يمكن لشركاء تونس أن يروا في هذه الخطبة صورة لشريك ديمقراطي مطلوب. وقبل هذا كانت ردة الفعل قوية هذه المرة من القوى السياسية الحزبية والاجتماعية. وهي ردة فعل قابلة للتوسع والتحول إلى حالة شعبية ستعجّل، إلى جانب تفاقم الأزمة المالية الاقتصادية واستفحالها، بسقوط الانقلاب والدخول إلى مرحلة انتقال مختلف بمداها وشكلها ولكنها لن تفضي في كل الأحوال إلى استعادة مسار بناء الديمقراطية في شروط جديدة أفضل مما سبق.

إنّ تظافر العوامل الداخلية والخارجية سيعجل برحيل الانقلاب، ولكنه لن يسعف لاستعادة الديمقراطية بشروط وطنيّة

إنّ تظافر العوامل الداخلية والخارجية سيعجل برحيل الانقلاب، ولكنه لن يسعف لاستعادة الديمقراطية بشروط وطنيّة. أي أن نستعيد انتقالنا الديمقراطي وكل ما سنستعيده هو "انتقال ديمقراطي آخر" بشروط أخرى على صلة بالترتيبات الدولية الجديدة من حوض المتوسط إلى آسيا الوسطى.

فإذا كانت الحرب العالمية الثانية انتهت إلى حرب باردة بين ما كان يُعرف بالمعسكرين الرأسمالي والاشتراكي (اشتركا في محاربة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية)، فإنّه يبدو وكأننا ننطلق في إعادة إنتاج حرب باردة جديدة بين معسكر الديمقراطية التمثيلية المأزومة ومعسكر الديمقراطية الشعبوية البديلة (قوى اليمين القومي، ظاهرة ترامب، وروسيا والصين…). حرب باردة هي مقدمة لحرب ساخنة قد تطبع هذا القرن الأول من الألفية الثالثة وتعيد تشكيل العالم.

بدت خطبة قيس سعيّد في أسلوبها كأنها نداء حرب واستحثاث إلى عظائم الأمور (يا شعب تونس العظيم!!) ولكن نسقها المتثاقل ونبرة صاحبها المنكسرة يجعلان منها خطبة وداع، وقد غطّيا على ما كان من قرارات انتهت إليها ولم تكن تَخفى لكثرة ما ترددت على لسان صاحبها. خطبة مكرورة بلهجة ذاوية، هي لهجة من يغادر الدولة، وقد أحكم إغلاقها، بعد أن هشّم أهمّ مؤسساتها الدستورية.

ولا حقيقة سياسية اليوم سوى الإجماع الواسع على مواجهة الانقلاب وإيقاف نسقه التدميري وغلق قوسه، والمرور إلى محو آثاره تحت سقف الدستور والديمقراطية في شروط جديدة. لذلك سيكون يوم 17 ذكرى الثورة محطة قد لا تشبه محطات الاحتفال منذ 2011. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

خارطة طريق قيس سعيّد: مأزق آخر أم هبوط من الشجرة؟

قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..