17-ديسمبر-2021

(صورة من احتجاجات معارضة لقرارات سعيّد في سبتمبر 2021)

 

تابع التونسيون خطاب رئيسهم الاثنين الماضي، 13 ديسمبر/كانون الأول 2021، وقد كانت كلمة منتظرة في "أسبوع الاحتفال بعيد الثورة"، وهو الخطاب الذي أعلن فيه سعيّد عن خارطته للمرحلة القادمة، وقد طالبه الكثيرون بها داخليًا وخارجيًا وكان قد سخر من هذه المطالب حينها، قائلًا في أحد خطاباته "ابحثوا عنها في كتب الجغرافيا". 

يٌخفي سعيّد أوراقه كما فعل منذ توليه كرسي قرطاج وحتى بعد 25 جويلية فيما تحاول المعارضة دفعه للتحرك ورد الفعل من خلال توسع دائرتها وحجمها وتكثيف ضغطها عبر الشارع وتحركات أخرى

لكن سعيّد في الحقيقة لم يكشف عن الكثير بل ربما لم يكشف شيئاً جديدًا ما عدا التواريخ، فقد كانت المنهجية المعلن عنها معلومة، بثت سابقًا بشكل مشوّش في خطابات سابقة له أو في مداخلات لمستشاره وليد الحجام. 

يٌخفي الرجل أوراقه كما فعل منذ توليه كرسي قرطاج في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وحتى بعد 25 جويلية/يوليو الماضي، فيما تحاول المعارضة دفعه للتحرك ورد الفعل من خلال توسع دائرتها وحجمها، رغم انقسامها المتواصل، وتكثيف ضغطها عبر الشارع وتحركات أخرى. 


في البداية، نذكر أن أهم ما ورد في كلمة الرئيس التونسي وشكل خارطته القادمة كان التالي:

ـ الإبقاء على المجلس التشريعي (يقصد بالتسمية البرلمان) معلقًا إلى تاريخ تنظيم انتخابات جديدة 

ـ تنظيم استشارة شعبية/استفتاء إلكتروني بداية من الفاتح من جانفي/يناير 2022 

ـ تنظيم استشارات مباشرة في المعتمديات مع الشعب على أن تنتهي الاستشارة في الداخل والخارج في 20 مارس/آذار 2022

ـ تتولى لجنة سيتم تحديد أعضائها وتنظيم اختصاصاتها التوليف بين مقترحات التونسيين على أن تنهي أعمالها قبل موفى جوان/يونيو 2022

ـ عرض مشاريع "الإصلاحات الدستورية" على الاستفتاء يوم 25 جويلية/ يوليو 2022

ـ انتخابات تشريعية وفق قانون انتخابي جديد يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022 

ـ وضع مرسوم خاص يتعلق بالصلح الجزائي

ـ محاكمة كل الذين أجرموا في حق الدولة التونسية وفي حق شعبها "وعلى القضاء أن يقوم بوظيفته في إطار الحياد التام".

اقرأ/ي أيضًا: هل يكون الاستفتاء على تعديل النظام السياسي وجهة قيس سعيّد القادمة؟

القارئ في هذه الإجراءات ينتبه إلى غياب الإيضاح حول آليات تطبيق عدد منها كالهيكل الذي سينظم الانتخابات التشريعية أو الاستفتاء، خاصة أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (هيئة عمومية مستقلة سبق أن نظمت جميع الانتخابات في تونس إبان الثورة) لم تقع استشارتها حول التواريخ المذكورة وسبق للرئيس التونسي أن انتقدها مؤخرًا مشككًا في أعمالها وقد وصفها بـ"اللا عليا" و"اللا مستقلة".

القارئ في خارطة سعيّد ينتبه إلى غياب الإيضاح حول آليات تطبيق عدد منها كالهيكل الذي سينظم الانتخابات التشريعية أو الاستفتاء والغموض حول الصيغة التي سيكون عليها الاستفتاء وما سيتم الاستفتاء عليه تحديدًا

المتابع لهذه الإجراءات أيضًا يلاحظ الغموض حول الاستفتاء المذكور والصيغة التي سيكون عليها وما سيتم الاستفتاء عليه تحديداً، إضافة إلى الغموض حول "محاكمة كل الذين أجرموا في حق الدولة التونسية وفي حق شعبها" خاصة أن هياكل القضاء في تونس تتهم الرئيس بمحاولة الضغط والتدخل في سلطة قائمة بذاتها، بينما نعتها الرئيس التونسي مؤخرًا بـ"الوظيفة داخل الدولة"، نافيًا أن يكون القضاء سلطة.

ولكن بعيدًا عن عناصر الغموض المتعددة في خارطة طريق سعيّد وإمكانيات التطبيق من عدمه، فإن استقبال ما صار يطلق عليه "خارطة طريق سعيّد" للمرحلة القادمة لاقى ردود فعل مختلفة بين الداخل والخارج التونسي.

ويفسر ذلك لدى الكثيرين بأن "الخارطة" كانت أساسًا موجهة للدول الغربية، في ربط ببيان سفراء مجموعة "السبع الكبار" في تونس، يوم 10 ديسمبر/كانون الأول الماضي، والذين طالبوا الرئيس التونسي بـ"تحديد سقف زمني واضح يسمح بعودة سريعة لسير عمل مؤسسات ديمقراطية بما في ذلك برلمان منتخب يضطلع بدور هام".

اقرأ/ي أيضًا: رؤساء بعثات دبلوماسية غربية: يجب تحديد سقف زمني يسمح بعودة سريعة لبرلمان منتخب

  • داخليًا: غضب واحتجاج المعارضة وأصوات قليلة داعمة

أجمعت معارضة الرئيس قيس سعيّد داخليًا، رغم عجزها للآن عن التجمع في موقف واحد، لكنها أجمعت على رفض خطاب 13 ديسمبر وما ورد فيه، كأمثلة نذكر أحزاب التيار الديمقراطي والتكتل والجمهوري (تصنف ضمن الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية)، التي رفضت الخطاب في شكله ومضمونه وقالت إنه "جاء مشحونًا بالاتهامات وحافلاً بتصورات فردية مسقطة وخاليًا من الاستجابة لمقتضيات معالجة الأزمة المالية والاجتماعية الخانقة".

ورفضت حركة النهضة الخطاب أيضًا، معلقة من خلال رئيسها راشد الغنوشي، في بيان حمل توقيعه كرئيس للبرلمان وركز على قرار "تمديد تعليق أعمال البرلمان إلى تنظيم انتخابات جديدة" بالقول "إنه إجراء غير دستوري وغير قانوني" و"جاء لمزيد تمديد الخروج عن الدستور والحكم الفردي".

واعتبر حزب العمال (يساري) أن سعيّد أعطى نفسه "تفويضًا كاملًا باحتكار السلطة لمدة عام ونصف خارج أي مشروعية"، وفقه.

من النقاط المشتركة في بيانات بعض الأحزاب التونسية المعارضة لسعيّد تمسكها بالدعوة لحوار وطني منطلقًا للنقاش حول الحلول الممكنة للأزمة

من النقاط المشتركة في بيانات بعض هذه الأحزاب، تمسكها بالدعوة لحوار وطني منطلقًا للنقاش حول الحلول الممكنة، في هذا الصدد، يقول أحزاب التيار والجمهوري والتكتل في بيانهم المشترك "التمسك بحوار وطني يؤسس لدولة عادلة تخلق الثروة وتحقق المساواة وتدمج جميع الفئات ويقطع مع سنوات الفساد ورموزه ويحصّن البلاد ضد الحكم الفردي والتفريط في سيادتها".

ويقول الغنوشي، في البيان الذي حمل توقيعه، "الخروج من الأزمة التي تعمقت في البلاد لن يكون إلا بالإلغاء الفوري للإجراءات الاستثنائية والدخول في حوار وطني شامل للتحديد الجماعي لمستقبل البلاد".

تجتمع الأحزاب المذكورة سابقًا أيضًا في رفض أي مساس بالدستور التونسي الحالي، المعروف بدستور 2014 أو دستور الجمهورية الثانية، خارج ما ينص عليه وقبل إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية.

أما حزب العمال فتميز رده على قرارات سعيّد بالإشارة إلى أن الخطاب "خلا من تقديم أيّ تصوّر ملموس لمحاربة الفساد والفاسدين" وهو الذي بنى على هذه الفكرة برنامجه، مشيرًا إلى "اكتفاء سعيّد في خطابه بصياغة الرزنامة السياسية لتنفيذ مشروعه دون الخوض فيما تفرضه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد..".

حزب العمال: "فكرة الصلح الجبائي مع الفاسدين طوباوية وغير قابلة للتنفيذ وهي إعادة صياغة لمشروع المصالحة الاقتصادية وتطبيع مع الفساد"

وتعرض الحزب اليساري، الذي يقوده السياسي والكاتب حمة الهمامي، إلى "فكرة الصلح الجبائي مع الفاسدين"، التي تضمنتها خارطة طريق سعيّد، معتبرًا أن الأخير "لم يجد بعد السبيل لتنفيذها بما يؤكد طوباويتها وعدم قابليتها للتنفيذ، إضافة إلى كونها إعادة صياغة لمشروع المصالحة الاقتصادية وتطبيعًا مع الفساد الذي يزعم مناهضته..".

وكان رد أحزاب وائتلافات أخرى على خطاب الرئيس بالدعوة للتظاهر يوم ذكرى اندلاع الثورة، 17 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ومن بينهم أحزاب التيار والجمهوري والتكتل التي دعت للتظاهر "إحياء لذكرى اندلاع الثورة ودفاعًا عن الديمقراطية ورفضًا للحكم الفردي"، كما دعت المبادرة الديمقراطية "لمواجهة انقلاب 25 جويلية/ يوليو - 22 سبتمبر/ أيلول"، وفق ما جاء في بيانها، والمبادرة الديمقراطية متكونة من حراك "مواطنون ضد الانقلاب" ونشطاء سياسيين وحقوقيين آخرين.

وتميزت كتلة حركة النهضة بالبرلمان بإصدارها بيانًا هو الأول منذ فترة ومنذ أن تم تعليق أعمال البرلمان، وقد علقت من خلاله على قرارات الرئيس، داعية "جميع الكتل البرلمانيّة والشخصيات المستقلّة والقوى الوطنية ومختلف المبادرات القائمة لتوحيد الصف والتعالي عن الخلافات والتجاذبات السياسية للدفاع عن قيم الجمهورية والديمقراطية". 

لكن اللافت وهو أمر متواصل منذ 25 جويلية/ يوليو الماضي أن معارضة الرئيس سعيّد بقدر توسعها عددًا ومن حيث التشكيلات المتكونة فإنها في انقسام لافت وتشرذم شديد حتى بالنسبة لشخصيات وأحزاب عُرفت بانتمائها لذات المدرسة الفكرية أو الإيديولوجية. 

كتلة حركة النهضة: "الاستفتاء الإلكتروني محاولة للمغالبة والنزوع نحو الإقصاء عبر إلغاء مختلف الوسائط السياسية والمدنية"

وتعرضت كتلة حركة النهضة في بيانها لموضوع "الاستفتاء الإلكتروني الذي طرحه سعيد ضمن خارطته لتعتبره "محاولة للمغالبة والنزوع نحو الإقصاء عبر إلغاء مختلف الوسائط السياسية والمدنية"، مشددة أنه "غير قابل للتطبيق على أرض الواقع بل هو مُحاولة للهروب إلى الأمام والزيغ بالمسار والانحراف به عن الأولويّات الحقيقيّة للتونسيين"، وفقها. 

اقرأ/ي أيضًا: إلغاء دستور 2014 في تونس.. المعارضة تندد وتحشد دفاعًا عنه

في الجانب الآخر داخليًا، تبقى حركة الشعب (قومية) وحزب تونس إلى الأمام (يساري) وائتلاف صمود (يضم عددًا من أساتذة القانون التي يلتقي بهم الرئيس التونسي الفترة الأخيرة)، من القلائل ضمن الفاعلين على الساحة الداخلية التونسية ممن يبدون تحمسهم لخارطة طريق سعيّد. 

رحبت حركة الشعب بالقرارات، مؤكدة ضرورة تثبيت الضمانات المرافقة لها بما يعطيها المقبولية اللازمة لدى عموم الشعب والفاعلين السياسيين و يؤمنها ضد كل إمكانية التشكيك في مشروعيتها.

واعتبر حزب تونس إلى الأمام أن "تحديد تواريخ مضبوطة قرار هام لدرء مخاطر الانزلاق بأنواعها"، معتبرًا أن "تجميد أشغال البرلمان حتى الانتخابات التّشريعية في ديسمبر 2022 هو إعلان عن حلّه".

حركة الشعب: ترحيب بقرارات سعيّد مع ضرورة تثبيت الضمانات المرافقة لها بما يعطيها المقبولية اللازمة 

ودعم الحزب مراجعة دستور 2014 مطالبًا بـ"تشريك عموم الشعب في إبداء الرأي في مقترحات التّنقيح وضرورة اعتماد مسار تشاركي يشمل الأحزاب السياسية والمنظّمات والجمعيات الداعمة لمسار التصحيح"، وفقه.

  • خارجيًا: ترحيب حذر ودعوات لتدعيم الديمقراطية والحريات والعمل التشاركي

من الآراء المتواترة إبان إعلان سعيّد لخارطة الطريق للفترة القادمة، القول إنه قدمها تجاوبًا مع الدعوات الخارجية لذلك، وآخرها بيان سفراء مجموعة السبع الكبار يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2021، والذي وردت فيه المطالبة بـ"تحديد سقف زمني واضح يسمح بعودة سريعة لسير عمل مؤسسات ديمقراطية بما في ذلك برلمان منتخب يضطلع بدور هام". 

وهو ما يفسر ترحيب عدة دول غربية بخارطة الطريق المذكورة، وإن كان الترحيب دائمًا "حذرًا"، وملحقًا بدعوات للحفاظ على الديمقراطية والحريات وإشراك مختلف الطيف السياسي والمدني في الإصلاحات..الخ.

في هذا السياق، ورد عن الخارجية الأمريكية "تطلعها إلى عمليّة إصلاح شفّافة تشمل رؤى المجتمع المدني والسياسي المتنوّعة" ودعم "حكومة فعالة وديمقراطية وشفافة تحمي الحقوق والحريات". 

كانت المواقف الأجنبية مرحبة بخارطة الطريق المقدمة من سعيّد مع دعوات لتدعيم الديمقراطية والحريات والعمل التشاركي على "الإصلاحات" المقترحة

أما الخارجية الإيطالية فهي "تأمل أن يتوج المسار بانتخابات تشريعية جديدة"، داعية السلطات التونسية إلى "إعادة إرساء سيادة القانون والعودة إلى الديمقراطية بشكل كامل من خلال حوار شامل وشفاف وجوهري مع جميع المكونات السياسية والاجتماعية في البلاد، مما يضمن الاحترام الكامل للحقوق الأساسية وتعزيز الاستقرار والنمو الاقتصادي".

واعتبر الاتحاد الأوروبي القرارات "خطوة مهمة نحو استعادة الاستقرار المؤسسي والتوازن"، مشددًا على أن "نجاح هذه العملية سيعتمد على الطرائق الملموسة لتنفيذها، ولا سيما ترسيخها في القيم والمبادئ الديمقراطية بالإضافة إلى شموليتها وشفافيتها"، ومذكرًا "بأهمية احترام المكتسبات الديمقراطية، وفصل السلطات، وسيادة القانون والحقوق والحريات الأساسية للجميع".

  • سعيّد يحاول ربح الوقت والمعارضة تكثف الضغط..

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 جويلية/ يوليو الماضي عن قرارات أحدثت رجة في المشهد السياسي التونسي وسقفها بشهر واحد ثم أعلن التمديد فيها إلى أجل غير محدد، وتلى ذلك إعلان الأمر 117 في 22 سبتمبر/أيلول الماضي وهو الذي مكنه من صلاحيات مطلقة، ومع قرب مرور 5 أشهر منذ تعليقه البرلمان وإسقاطه حكومة المشيشي، يقدم تصورًا مسقفًا بسنة أخرى تقريبًا.

من الواضح أن سعيّد غير متسرع للإجابة عن عديد الأسئلة بل تقوم استراتيجيته على التقدم بخطوات بسيطة وبطيئة ربحًا للوقت وتجنبًا لكشف أوراقه الذي قد يزيد من أعداد معارضيه وأيضًا تجنباً للضغط المتزامن والمكثف

هذا التصور/خارطة الطريق تطرح أكثر من سؤال لعل أبسطها ممن ستتكون اللجنة التي سيكلفها سعيّد بإعداد الدستور الجديد؟ هل سيحرص على تضمينها أسماء من أساتذة القانون ممن عارضوه أو ستقتصر على داعمين له؟ كيف سيتم تنظيم الاستفتاء على الدستور؟ هل سيكون ذلك من قبل وزارة الداخلية كما كان الحال سنوات حكم بن علي؟ وفق أي قانون انتخابي ستجرى الانتخابات التشريعية الجديدة؟ هل سيكون القانون الجديد مكرسًا لمشروع سعيّد في الديمقراطية القاعدية مما يعني تصويتاً على الأفراد وتهميشًا تامًا للأحزاب ودورها؟.. 

ومن الواضح أن سعيّد غير متسرع للإجابة عن هذه الأسئلة بل تقوم استراتيجيته على التقدم بخطوات بسيطة وبطيئة ربحًا للوقت وتجنبًا لكشف أوراقه مما قد يزيد من أعداد معارضيه (البعض ممن يدعمونه حاليًا يعارضون تمامًا فكرة الديمقراطية القاعدية) وأيضًا تجنباً للضغط المتزامن والمكثف وهو ما تنتبه له المعارضة في تونس وتتجه في المقابل، كما تقول، إلى شهر من الضغط عبر تحركات احتجاجية تنطلق الجمعة 17 ديسمبر/كانون الأول وتتواصل إلى 14 جانفي/ يناير القادم وتقول إنها تتجهز لمزيد الضغط والتحرك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمر رئاسي يقر صلاحيات شبه مطلقة للرئيس في تونس وتعليق لمعظم أبواب الدستور

توجه نحو تعليق الدستور وتغيير النظام السياسي عبر استفتاء.. تخوّف وانتقادات