كانت تفصل بين الثورات المتعاقبة في تونس، القرون وأحيانًا العقود، وعادة ما يكتب التاريخ ذلك المنتصر، فيخطّ بالحبر والدواة ما يروم كتابته، وتضيع الحقيقة بين الذاكرة وحفر البعير.. وكم تقلبت حقيقة الثورات في الزمن! ومن ذلك كان "فن التاريخ" حتى نقلّب الظاهر من الباطن.
تونس.. تتردّد على مسامع المؤرّخين أنها "قاصمة ظهور الجبارين".. منذ ما قبل ميلاد المسيح، نشبت ثورة ما يعرف بالمرتزقة واللوبيين على قرطاج بسبب معاملة القرطاجنيين القاسية للسكان الأفارقة.. وثورة تاكفريناس على روما، وهو بطل نوميدي عمل بالجيش الروماني ثم انشقّ عنه جامعًا حوله الصعاليك.. ثم تلاحقت ثورات البربر الذين تعاظم نفوذهم خلال الحكم البيزنطي.
تتالت الثورات في تونس من ثورة" العبيد"، وثورة الدراهم، وثورة صاحب الحمار، وثورة الدايات، وثورة جبل وسلات، وثورة علي بن غذاهم، وصولًا إلى ثورة 1952 ضد المستعمر الفرنسي، حتى بلغنا ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي
وتتالت الثورات في العهد الإسلامي إلى العصر الحديث من ثورة العبيد السودان، وثورة الدراهم، وثورة صاحب الحمار، وثورة الدايات، وثورة جبل وسلات، وثورة علي بن غذاهم، وصولًا إلى ثورة 1952 ضد المستعمر الفرنسي، حتى بلغنا ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 - 14 جانفي/ يناير 2011.
17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، علامة فارقة في تاريخ تونس الحديث، إذ اندلعت فيه شرارة ثورة قلبت كيان الشرق، وتوّجها -الهروبُ الثالث في تاريخ تونس- هروب رأس السلطة زين العابدين بن علي، إلى العربية السعودية في 14 جانفي/ يناير 2011، وقد امتلأت خزائن البنوك الأجنبية بما نهب من أموال.
وكان الهروب الأول في تاريخ تونس "لزيادة الله الثالث إلى مصر، ومعه ألف عبد، كل عبد متمنطق بحزام فيه ألف دينار ذهب، أما الهروب الثاني فكان لأبي زكريا ابن اللحياني السلطان الحفصي، الذي هرب إلى مصر ومعه 24 قناطر ذهب وجرابين من الدر والياقوت" وفق ما ذكره الدكتور صحبي بن منصور في إحدى مداخلاته حول الثورة التونسية.
اقرأ/ي أيضًا: تغيير سعيّد تاريخ الاحتفال بالثورة.. جدل على منصات التواصل
14 جانفي/ يناير 2011، كان تاريخ الانعتاق من دكتاتور ولكنه لم يكن تاريخ انعتاق من الدكتاتورية، تاريخ لم يحسم حتى في بعده الرمزي! فمن أصّل مفاهيم الثورة، اصطدم بتاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول، حتى قُدّر لهذه الثورة أن تنقلب إلى أنثى "الثور" في فقه البعض، وكما قُدر لـ17 ديسمبر/ كانون الأول أن توصف بثورة "البرويطة"، وقُدرّ للتاريخين القريبين أن تتنازعهما رغبة السلطة في تطويعهما لصالحها، فبعد أن ألبسهما الحاكم لباس المقدّس، ألبسوهما المدنّس، وأعاروهما ما نحن فيه من بؤس سياسي واقتصادي واجتماعي وألصقوا بهما ما يسمّى بفشل "العشريّة الأخيرة".
لم تكن ثورة عنيفة كما الثورات السابقة في تاريخ تونس، ولم تكن قاطعة مع الماضي، كما لم تكن جذرية بالشكل الكافي حتى سمحت بالتلاعب بأهدافها، فرضت الثورة التونسية سؤال التغيير وحتمية التكيف مع الواقع المتحول وكان لعنصر المفاجأة الدور الأكبر في تجربة الحكام الجدد.
هو اختبار الحكم نفذت إليه النخب السياسية دون مراجعات جذرية، فلم تقطع الأحزاب مع تموقعها التاريخي في المعارضة رغم ارتمائها في أحضان انتخابات أوصلت بعضها إلى الحكم.
اقرأ/ي أيضًا: من قرطاج إلى الثورة.. حفر في تاريخ دساتير تونس
الثورة المضادة وعودة النظام القديم بكل مكوناته الفاسدة، شبح تلك المرحلة التي شهدت حالة من التململ غذّتها الأحقاد الحزبية والاصطفاف الإيديولوجي. اضطرابات اجتماعية واعتصامات سياسية تلت عمليتي الاغتيال وبلغت حركة النهضة -التي كانت قاطرة الحكم- مرحلة ألزمتها بجملة من التنازلات، وضعتها بين خيار تماسك تنظيمها، وضرورات التوافقات السياسية في ظل تحالفات جديدة أضرّت بالمسار الثوري، وأحالت الوضع الانتقالي إلى الإنعاش.
وحلّ تاريخ 25 جويلية/ يوليو الذي أطاح بـ14 وضخّ نفسًا جديدًا في 17، ولكن اختنقت البلاد بعد أن فقدت "روح الثورة وأهدافها" من شغل وكرامة.. واستعاد "الحرس القديم" موقعه بعد التراجع الحاد في الحريات والانتقال إلى حكم المراسيم بدل المؤسسات، التي عُلّقت اختصاصاتها باعتبارها "الخطر الداهم" الذي أدى إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور وألحقه الأمر 117 الذي أتى على ما بقي من إنتاج ثورة مبتورة.
في تونس فقط، تنازعت التواريخ الوطنية أهواء السياسيين.. فبجرّة قلم كان تاريخ "14 جانفي/يناير" عيدًا للثورة ويوم عطلة رسميّ (رغم اختلاف العائلات السياسية حوله)، فتحول بأمر رئاسي إلى تاريخ "17 ديسمبر/ كانون الأول" في ظل وضع سياسي غامض وباهت لا روح فيه للثورة.
تنازعت التواريخ الوطنية أهواء السياسيين في تونس.. فبجرّة قلم كان تاريخ 14 جانفي عيدًا للثورة ويوم عطلة رسميّ، فتحول بأمر رئاسي إلى تاريخ 17 ديسمبر في ظل وضع سياسي غامض وباهت لا روح فيه للثورة
الناشطة في المجتمع المدني سوسن الجعدي، اعتبرت أن "الصراع القائم بين 17 ديسمبر/ كانون الأول و14 جانفي/يناير، لا يتعلق فقط بمسألة تأريخ للثورة بقدر ما هو قراءة للثورة ومكتسباتها، فرؤية 17 ديسمبر، تتشبث بأنها التاريخ الفعلي لاندلاع الثورة وأن 14 جانفي وقع الاستيلاء عليه من قبل الأحزاب والنشطاء السياسيين، ويتبنون مقولة أنصار الرئيس سعيّد أنه وقع الالتفاف على الثورة، فالإشكالية تتمثل في أن السلطة السياسية لا تسطو فقط على هذه التواريخ من أجل القراءات الخاصة بها، بل من أجل الرؤى والبرامج المستقبلية التي يريدون تحديدها وهنا يكمن الإشكال".
اقرأ/ي أيضًا: تعرّف على أبرز الكتب حول الثورة التونسية
وترى الجعدي أن المؤرخين يجب أن يتدخلوا لتحديد التواريخ، "وإن كنت أرى أن المزج بين 17/14 يكون الأفضل، لأن تغليب تاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول هو تغذية للفرقة والجهويات.. فالمتمسكون بتاريخ 17 يعتبرون أن الثورة انطلقت من تلك الرقعة الجغرافية ثم وقع الاستيلاء على مطالب الثورة واستحقاقاتها والتي تتمثل أساسًا في التفاوت الجهوي والحقرة والبطالة وهي بوصلة الثورة".
وتضيف سوسن الجعدي أن هناك تلاعبًا بعاطفة جزء من التونسيين لأجندات انتخابية، فاختيار التواريخ هو رغبة للتقرب من الشعب التونسي الغاضب لأن ما بعد الثورة لم يكن في مستوى انتظاراته من تنمية وكرامة وتشغيل".
سوسن الجعدي (ناشطة في المجتمع المدني): لن تغير التواريخ اليوم مستوى المعيشة والمؤشرات الاقتصادية للتونسيين، والمزج بين 17 ديسمبر و14 جانفي يكون أفضل من هذا الصراع القائم
كما اعتبرت الجعدي أن "المسألة تُختزل في أنها خصام سياسي ضيّق ولن تغير هذه التواريخ اليوم مستوى المعيشة والمؤشرات الاقتصادية للتونسيين، وأن مشاكل التونسيين الحقيقية بعيدة عن هذا التجاذب، وهذا يكشف انقسامًا موجودًا بين الأحزاب والمنظمات والجمعيات وعموم الناس".
كما وصفت سوسن الجعدي أن "خارطة الطريق التي يطرحها الرئيس خالية من التشاركيّة، وفي بلادنا لمّا تتصاعد وتيرة النزاع، تلتجئ الأطراف المختلفة لإيجاد أرضية مشتركة، ولكن الجدول الزمني المقترح أحادي الجانب ونتائجه غير مضمونة بسبب عدم القبول بها" وفق تقديرها.
اقرأ/ي أيضًا: الثورة التونسية.. الأسئلة الدائمة لثورة الألفية الثالثة
واعتبر رئيس جمعية "أولادنا" رضوان الفارسي من جهته "أن التواريخ الوطنية ضمن مسار شعبي مواطني، لها صورة عند الشعب.. فنعتبر مثلًا أن 17 ديسمبر/ كانون الأول، هو تاريخ اندلاع شرارة الثورة وتاريخ مناصرة للقضايا التي أطلقت في سيدي بوزيد، ولعل اختصار الثورة في تاريخ 14 جانفي/ يناير، هو اختزال لتاريخ النضال الذي صار قبل هذا التاريخ، لذا نرى أن الربط الزمني بين التاريخين ضروري جدًا" وفق رأيه.
رضوان الفارسي (رئيس جمعية أولادنا): النأي بالتواريخ الوطنية واجب فهي ملك للشعب وحده، والسياسي الذي يقترب من هذه التواريخ يريد تطويعها لصالحه، فالسياسيون زائلون والثورات باقية
ويضيف رضوان الفارسي "هذه التواريخ لها أثر عند المواطن الذي يعيش في خضم الحراك المجتمعي، والتواريخ الوطنية سواء في أفريل/ نيسان ومارس/ أذار وجويلية/ يوليو، هي تواريخ جوهرية.. والسياسي الذي يقترب من هذه التواريخ يريد تطويعها لصالحه، فالسياسيون زائلون والثورات باقية، ولن تبقى تلك التواريخ التي تُستغل لتسويق سياسي فردي، فالنأي بالتواريخ الوطنية واجب، فهي ملك للشعب وحده".
الجامعي والناشط السياسي شهاب دغيم تساءل من جانبه حول مدى "سعي سعيّد إلى طمس تواريخ الدولة التونسية الوطنية.. فتاريخ 25 جويلية/ يوليو يعتبر تاريخًا مقدسًا للدولة الوطنية، وهو يوم إعلان أول جمهورية بعد قرون من الحكم الحسيني".
شهاب دغيم (ناشط سياسي): موجة الشعبوية التي رافقت الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية، لا يمكن أن تمحو من ذاكرة التونسيين ذكرى عيد الجمهورية الذي يمثل تاريخًا راسخًا وثابتًا
واعتبر دغيم أن "موجة الشعبوية التي رافقت الإجراءات الاستثنائية وبداية الحكم الواحد بعد تعليق البرلمان وإيقاف عديد النواب، لا يمكن أن تمحو من ذاكرة التونسيين والتونسيات عيد الجمهورية، إذ هو تاريخ راسخ ثابت، تعلن فيه الدولة منذ تأسيسها أهم قراراتها التقدمية في سبيل تطعيم كيانها".
وأضاف دغيم "ركوب تواريخ الجمهورية لا بدّ وأن يكون في إطار حركة طمس معالم الدولة الوطنية وتفكيكها.. سياسيًا، سعى الإسلام السياسي إلى تطويع الدولة واختراقها، لكن الحركة التي أعلنها سعيّد تسعى في جوهرها إلى تفكيك الدولة الوطنية وتواريخها".
ويقول شهاب دغيم "من 25 جويلية/ يوليو إلى 20 مارس/ أذار، عيد الاستقلال الوطني، الذي أعلنه سعيّد، يعيد تاريخ إعلان نتائج استشارة شعبية معقدة تؤسس الحكم الأهلي والجمهورية الجماهيرية التي يريدها منظّرو الرئيس".
اقرأ/ي أيضًا:
السلطة والثورة والمكان.. قراءة في توزّع السلطة بعد الثورة