25-أكتوبر-2020

صورة من إحياء الذكرى التاسعة لانطلاق الثورة التونسية (الشاذلي بن ابراهيم/Nur photo)

 

مقال رأي

 

تقترن كلمة الأفيون في ذهن المتلقّي بمرجعيّتين على الأقل، الأولى واقعيّة سلوكيّة إجراميّة تتّصل بالانتشار المفزع للمخدرات في تونس ترويجًا واستعمالاً، وهو ما تكشفه التقارير الأمنية وتؤكده اللجنة الوطنية للوقاية من الإدمان من خلال أرقام وإحصائيات مثيرة، أمّا المرجعية الثانية التي تحيل إليها كلمة أفيون فهي نقديّة تتمثّل في إحدى المقولات الماركسية المأخوذة من كتابه "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيقل" ونصّها وفق إحدى الترجمات "إنّ الدين هو الزفرة يصعدها المخلوق الذي هدّه الشقاء، هو الروح في عالم بلا روح، هو الفكر في عصر لا فكر له، إنه أفيون الشعب" هذه العبارة يتناقلها عامّة المثقفين في جملة مختصرة لا تخلو من تصرّف حدّ التحريف "الدين أفيون الشعوب".

الجامع بين المرجعيتين المذكورتين هو دلالة "السُّكْرِ" في معناه المعجمي، فسَكر في اللسان العربيّ أي حال بينه وبين عقله شيء مّا، بصرف النظر إن كان هذا الشيء خمرة أو أفيونًا أو فكرًا خرافيّاً أو جنونًا أو تعصّباً أو غيرها ممّا يتعارض من التعقّل والفكر النقديّ والحكمة والتخطيط وحسن التعبير.

"الثورة ما جابتلنا حتّى شي".. إحدى أكثر العبارات السوداوية انتشارًا في الشارع التونسي وهو قول ينطوي على بنية نفسية مطلبية تتشكل في علاقة بكل من يملك القدرة والسلطة والمصير

إضافة كلمة أفيون إلى الثورة التونسيّة فيه تأكيد على مصادرة عامّة ومقاربة مخصوصة، المصادرة مفادها أنّ الثورة التونسيّة إمّا أن تكون قد فشلت في تحقيق مقاصدها أو أنها تسير إلى الانحراف عن أهدافها الأصلية وفي مقدّمتها الكرامة والعدالة الاجتماعيّة.

الدفاع عن هذه المصادرة يحتاج إلى حيّز أرحب وأطول لعرض الحجج والأمثلة، وهو ما قد لا يتّسع له هذا المقام، ورفعاً للحرج يمكن الاستناد إلى الانطباع العام لدى غالية التونسيين ذاك الذي تجسّده إحدى أكثر العبارات السوداوية انتشارًا "الثورة ما جابتلنا حتّى شي" ( الثورة لم تحقّق لنا شيئًا) وهو قول ينطوي على بنية نفسية مطلبية تتشكل في علاقة بكلّ من يملك القدرة والسلطة والمصير، فيتجه خطاب الاستجداء والاستعطاء في الغالب إلى الله أو السلطان (المسؤول) وها قد تحولت الثورة إلى ملجأ ثالث يقصده شحّاذو المصالح ومتسولو المكاسب، ولمّا عزّت عليها الاستجابة إلى تلك المطامع رموها بالفشل والخيبة. 

اهتمّ العديد من الباحثين بالبحث في الأسباب التي جعلت الثورة التونسيّة تترنّح ثمّ تنحرف وتسقط في وحل التناقضات والخيبات. هذه الأسباب عديدة ومتنوّعة فيها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والفكريّ والسياسيّ وفيها الداخليّ والخارجيّ وفيها العَرضيّ الطارئ وفيها المزمن المتأصّل.

ما يعنينا من هذه الأسباب المتفرعة في مقاربتنا الخاصّة هو ما نعتناه بأفيون الثورة التونسية أي العوامل الذي طعنت الثورة في مقتل وأصابتها في عقلها ورُشدها وذكائها الفطريّ الجِبليّ، ففقد صانعوها والمؤمنون بها روح المبادرة وتحوّل حُماتها والمتحمسون لها إلى غُلاة ودعاة صدام ومغامرة، فتسرب إلى "بنية العقل الثوريّ" في تونس الدجل والكذب وانتشرت الأوهام والمغالطات التي يعرضها محترفوها عرضًا مثيرًا يتسرّب إلى عقول البسطاء والسذج، فينتهي الأمر إلى حالة شعورية وذهنية وسلوكية عامّة أقرب إلى فوضى الخواطر والأحاسيس واضطراب الأفكار والتصورات، فلا يستطيع المرء أن يتخذ موقفًا واضحًا صارمًا، فيغدو من فرط الغموض والالتباس بلا اختيار ولا إرادة ولا عزم، وينزل شيئًا فشيئًا إلى قاع اليأس والتسليم والقنوط أو التعزّي بمقولة "ليس في الإمكان أفضل ممّا كان".

عديدة هي العوامل التي طعنت الثورة في مقتل ففقد صانعوها والمؤمنون بها روح المبادرة وتحوّل حُماتها والمتحمسون لها إلى غُلاة ودعاة صدام ومغامرة

اقرأ/ي أيضًا: هل يمكن صناعة الثورة والحركات الاجتماعيّة مخابراتيًا؟

دول الجوار ووهم الانتصار

من الانحرافات التقييمية التي تتصدر أصناف الأفيون الثوري مقارنة الأوضاع المحلية بما حصل ويحصل في بعض الأقطار العربية المجاورة قوميًا وتاريخيًا وجغرافيًا وثوريًا، كأن يقول القائل إنّ الخلافات والصراعات في تونس بعد 2011 لم تتسبّب في حرب أهلية كما الشأن في اليمن وسوريا وليبيا، ولم تفض إلى انقلاب دمويّ وحكم عسكريّ على النحو الذي جرى في مصر.. هذه العبارة ومثيلاتها تكرّرت على ألسنة العديد من السياسيين والمحللين في سياق التباهي بنجاح "ثورة الياسمين"، فحملت في ثناياها طاقة حجاجية مقنعة، غير أنّ الناظر في بنيتها واجد معادلة قائمة على مغالطة مقصودة الغاية منها الإيهام بالنصر، فقد انبنت على ضرب من التزوير، فطرفا المقارنة الأصليين هما مقاصد الثورة التونسية ومساراتها أو نتائجها الراهنة، فإذا بنا في مناظرة أو سباق مع دول الجوار الفائز فيه هو الخارج من الثورة بأخف الأضرار من فساد ودمار. بهذا اللون من المغالطات والإيهامات تمّ إقناع المواطنين بتشريعات جائرة في علاقة بالفاسدين ورموز النظام السابق منها قانون المصالحة.

هذا الصنف من الأفيون الثوري مترسب في الثقافة التونسية يردّد صدى مثل شعبيّ مفاده "اغزر لغيرك واستراح"، فلا تكون الراحة سليلة النجاح ولا يكون الشعور بالاكتفاء متولدًا عن المواجهة والظفر والتفوق إنما تكون هذه السكينة والطمأنينة مصدرها الخوف ممّا هو أشنع، شعار أصحاب هذه العقيدة المعطلة للحماسة والهمّة " شِدْ مشومك لا يجيك ما أشوم منو" ( كُن حامدًا راضياً بالسيء حتى لا يأتيك الأسوأ).

من القدر الغيبي إلى القدر الغربيّ

من معطلات الإرادة والتصميم الإيمان بالقضاء والقدر دون الأخذ بالأسباب، وتعتبر المعتزلة من أشهر الفرق الإسلامية التي تصدّت لهذا التأويل المحبط للعزائم كما يعدّ أبو القاسم الشابي أحد الشعراء الذين دعوا إلى تحرير إرادة الشعوب في بيت شعري جرى مجرى الشعارات الثورية، قال فيه: 

إذا الشعب يومًا أراد الحياة *** فلا بدّ أن يستجيب القدر.

المذاهب الدينية التي ترى الإنسان مسيرًا في أقواله وأفعاله لا حول له ولا قوّة لا تقلّ خطورة عن أصحاب التصور الذي يرى واقع العرب وأحوالهم ومصيرهم رهين ما ترسمه الدوائر الاستخباراتية في أوروبا والولايات المتحدة، ونتيجة لما يجري ترتيبه في عدد من مراكز البحوث. لا فرق عندي بين هؤلاء الذين سلبوا الإنسان الإرادة والاختيار والمسؤولية وجعلوه رهين الأقدار الغيبية وأولئك الذين جعلوا المؤامرة الغربية عقيدة يستأنسون بها في تفسير كلّ التحوّلات من خيبات متواترة أو انتصارات آنية تنطوي في ظنهم على هزائم استراتيجية.

لا شكّ أنّ الثورات العربية لا سيما الثورة التونسية قد تعرّضت ولا تزال إلى أشكال شتّى من التعطيل من أطراف داخلية وخارجية مصلحتها موصولة بالأنظمة المستبدة والعميلة، وهو مسار منطقي وواقعي منتظر كان ينبغي التعامل معه باعتباره من مخلفات النظام القديم ومن الواجب التصدي له بمنتهى اليقظة والحزم، فلا يحقّ بأيّ حال من الأحوال إخراج تلك المؤامرات في صورة القوة الخارقة التي تقتضي الرضوخ والاستسلام ولا تحتمل المقاومة والصمود والمناورة.  

التآمر الداخلي والخارجي على الثورة لا ينبغي أن يتحوّل إلى حجة لتبرير الأخطاء التشريعية والتنفيذية التي ارتكبتها الأحزاب والمنظمات والحكومات والمجالس البرلمانية

هذا التآمر الداخلي والخارجي لا ينبغي أن يتحوّل إلى حجّة لتبرير الأخطاء التشريعية والتنفيذية التي ارتكبتها الأحزاب والشخصيات الوطنية والهيئات والمنظمات والحكومات والمجالس البرلمانية منذ الثورة، إنّ الإمعان في تبرير الإخفاقات بمقولة المؤامرة هو المؤامرة عينها ضدّ النهوض والإصلاح بل هو لون آخر من ألوان الأفيون الذي يحثّ على التسليم ويفضي إلى التملص من المسؤولية.

اقرأ/ي أيضًا: تعرّف على أبرز الكتب حول الثورة التونسية

مذهبي سليم و"الآخر جحيم"

من وجوه التملّص من المسؤولية تبرئة الذات الحزبية واعتبار الآخر جحيمًا سياسيًا خاليًا من الفضائل والمزايا، الغريب في الأمر أنّ مجادلة واحدةً قد تفضي إلى تجريد المنافس من كل الأوسمة النضالية ورميه بالعمالة و"القوادة" واللصوصية، للتحققّ من ذلك يمكن مراجعة، على سبيل المثال، المشاحنات بين حركة الشعب والتيار الديمقراطي من جهة وحركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة مقابلة. فقد تحوّلت هذه الأطراف بين عشية وضحاها من الانسجام الثوريّ قبل انتخابات 2019 إلى الخصام المصلحي عند أوّل محطّة من محطات تجسيد الوعود الانتخابية من داخل القبة البرلمانية. 

هذا اللون من السجال ينطوي في رأيي على أزمة في الوعي السياسيّ مردّها إحساس حادّ  بالفشل في التأسيس وإدارة الشأن العام وشعور بالذنب إزاء التقصير في تقديم الحلول والمبادرات المنقذة وعجز عن الاعتراف بالضعف والجهل والارتباك، وهو ما يدفع كلّ طرف بحثًا عن استعادة التوازن إلى تناول أفيون ثوريّ فريد يُخرج "الأنا الحزبي" في صورة البريء الطاهر ويسم الآخر بالفساد والدهاء وحتّى تكون الصورة مستساغة مقبولة في اللاوعي السياسيّ الفردي والجماعي يعمد المنتشي بـ"أفيون الآخر جحيم" إلى سجلات إيديولوجية قديمة دفينة تؤكّد نزاهته الثورية وعمالة خصمه وخيانته، ويتمّ في هذا المقام الاستنجاد بعناوين سريعة الالتهاب في عقول الجماهير السياسية وعواطفهم.

ورغم انكسار الأنساق الإيديولوجية وانفجار التحالفات التقليدية وانتهاء الهويات السياسية المتفاصلة "النقية" فإنّ العديد من مستعملي هذا اللون من الأفيون الثوري ومروجيه لا يزالون مصرين على عرض بضاعاتهم الصنمية المتكلسة في معلبات تصنيفية مهترئة من قبيل إسلامي ويساري وتقدمي ورجعي وكافر وخائن.. هذه التقسيمات التقليدية يلجأ إليها من اختار الكسل النقدي والفكري فتورث في متعاطيها راحة وانتشاء يضاهي أو يكاد ما يناله مستنشق بعد أنواع المخدرات. 

لا يزال البعض مصرًا على عرض بضاعة صنمية متكلسة في معلبات تصنيفية مهترئة من قبيل إسلامي ويساري وتقدمي ورجعي وكافر وخائن..وهذه التقسيمات التقليدية يلجأ إليها من اختار الكسل النقدي والفكري 

الكلّ أو لا شيء

الكسل النقديّ لا يبيح للمتورط فيه القدرة على التنسيب والمراجعة والبحث والتقليب، وهو ما يفضي في الغالب إلى مواقف في ظاهرها حماسة واندفاع حدّ التطرّف وفي باطنها بحث عن سبب يستأنس به صاحبها عند التراجع والاستسلام أو تخيّر وجهة متطرفة.

هذا ما أعتبِره أخطر أنواع أفيون الثورة التونسية، وقد تجسد من خلال فئة اختارت خلال السنوات الماضية "تشفير الواقع" أي الإعراض عنه تمامًا وعدم الالتفات إلى الخلافات والصراعات ومحاولات المراجعة والإصلاح.

هذه الفئة كان لها حضور لافت بُعيد الثورة في المنابر والمجالس والاعتصامات، خاصّة سنتي 2011 و2012 وقد اتّسمت خطاباتها بالتطرف والحدّة وبدت انتظاراتها متصفة بالمثالية والمغالاة، فيها تجد الحالم والطوباوي واليساري والإسلاميّ، كانوا جميعًا يدفعون بالمطالب إلى منتهاها تراهم يوسعون في دوائر الأزلام حتّى تكاد تشمل جلّ التونسيين، وفيهم من يدفع بمشاريع القصاص والانتقام إلى درجة الإصرار على نصب المشانق في الساحات العامة، وفيهم من يرى كلّ شيء قد أصابه الفساد، فنزعته إلى الهدم واقتلاع الجذور لا حدود لها ولا رشاد.

هؤلاء كانوا ينتظرون أوّل ارتباك أو تردّد في المسار الثوري حتّى يعلنوا انصرافهم كاشفين عن رفضهم أنصاف الحلول، فمنهم من زهد في الشأن السياسيّ، ومنهم من احترف السخط متهمًا الكلّ مخوّنًا الجميع، ومنهم من كشف عن حنينه إلى العهد البائد بعد أن مارس ما شاء من "المزايدة الثورية" أيّام الفوضى والغوغائية، ومنهم من التحق بالجبال يحترف الإرهاب متسترًا بالدين، وهو ما أحدث تشويشًا أمنيًّا وماديّاً جعل طاقة الدولة في عنفوانها الثوري تتجه إلى مقاومة المتشدّدين الدمويين، فأصبح هذا المسلك الموضوعيّ الوطني الحيويّ في مقدمة الأولويات، فساهم ذلك في إحداث انقسام بين الأحزاب وأفضى إلى الحدّ من الاعتمادات المخصصة للتشغيل والتنمية وكلّ المشاريع المنضوية ضمن مطلب الكرامة الذي تاق إليه الشباب المنتفض في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2020.

كان البعض ينتظر أوّل ارتباك أو تردّد في المسار الثوري حتّى يعلن انصرافه عن الشأن العام كاشفًا عن رفضه أنصاف الحلول ومتجهًا نحو تطرف ما 

وقد اعترف الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية السابق بدور الإرهاب في تعطيل أحد مقاصد الثورة فقال في ندوة صحفية عقدها بقطر سنة 2016 "إنّ مقاومة الإرهاب قد كلفت تونس 4 مليار دولار كان يمكن توظيفها في مجال الاقتصاد" وفي سبتمبر/ أيلول 2015، أقرّ المعهد العربي لرؤساء المؤسسات بأنّ مقاومة الإرهاب تلك السنة قد بلغت تكلفتها في تونس 1.125 مليار دينار، هذه الأرقام تتناغم مع الزيادة الملحوظة في ميزانية وزارتي الداخلية والدفاع. 

يمكن القول إنّ التشدّد الديني قد مثّل أحد أظهر أصناف أفيون الثورة التونسية فأوهام التكفيريين الإرهابيين قد أربكت المسار الإصلاحي بعد 2011، فتظافر هذا العامل مع أوهام أخرى ثقافية وإيديولوجية كان لها دور فعّال في التشويش على "العقل الثوريّ" وتعطيله وجعله عاجزًا عن التخطيط، غير قادر على تقديم حلول علمية وعملية واقعية، فلجأ في البدء إلى تبرير العجز، ثمّ مال إلى التملّص من المسؤولية متهمًا "الآخر"، ولم يبق له هذه الأيّام غير بيع الأوهام. 

  

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس: تحوّلات السياسة وملامح تفكّك الدولة

أزمة النظام السياسي أم أزمة القوى الديمقراطيّة؟