14-يناير-2020

حفر في حدث الثورة التونسية (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

لم يعد لسؤال "هل ما انطلق من تونس ثورة؟" من معنى حين ننتبه إلى أنّ ما عرفه ويعرفه المجال العربي والعالم من أحداث جسيمة وتحوّلات عميقة في العشرية الأولى من الألفيّة الثالثة إنّما كان منطلقه "حادثة البرويطة"، وهي الحادثة التي لا تتجاوز رفيف جناح فراشة في غابة مهجورة قياسًا إلى اتّساع عالمنا. ولا يمكن لأيّ باحث في سوسيولوجيا المجتمعات وتحوّلات السياسة ألاّ يقرّ بالصلة المباشرة حينًا وغير المباشرة حينًا آخر بين ثورة الحريّة والكرامة في تونس وما كان من انتفاضات متتالية وسقوط أنظمة وحروب أهلية وهجرات جماعية وقيام محاور ورهانات دوليّة.

اقرأ/ي أيضًا: في الصراع والتدافع أو جدل التأسيس والانتقال الديمقراطي

متى تحدث الثورة؟

حين نعود إلى الأدبيّات حول الثورة في مستوياتها السياسية والسوسيولوجية والفلسفية فإنّ أهمّ ما مبحث يستقطب اهتمام هذه الاختصاصات هو: متى تحدث الثورة؟ وعند هذا السؤال تتخارج المقاربات إيديولوجيًا ومنهجيًا ومعرفيًا. ولكن الانتباه إلى دورية الثورة في التاريخ قد يُمكّن من الظفر بإجابة تكاد تكون جامعة لعدم وقوعها في فكرة "العامل المُحدّد". فالثورة دوريّة كالنبوّة تأتي لتذكّر بالأخلاق.

الثورة تأتي عندما "تُحوّل الدولة كلّ الأخلاق إلى قوانين"، هذا ما نقترحه إجابة على سؤال "متى تقوم الثورة؟، وهي إجابة تجعل من المواجهة بين الأخلاق والقوانين هي عين المواجهة السياسية بين الدولة والثورة

ومن المهمّ الوقوف عند تخطّي الثورة للقانون الذي تمثّله الدولة، ولو توقّف الثوّار عند القانون لما حدثت في التاريخ ثورة. لذلك كان شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" الذي رفعته الشبيبة المنتفضة في سيدي بوزيد وبلداتها مثيرًا الجملة السياسيّة الفذّة التي عجزت المعارضة السياسيّة والديمقراطيّة عن صياغتها على مدى ستّة عقود من نضال راوح بين المطالبة والمغالبة.

الثورة تأتي عندما "تُحوّل الدولة كلّ الأخلاق إلى قوانين"، هذا ما نقترحه إجابة على سؤال "متى تقوم الثورة؟" المختلف في شأنه، وهي إجابة تجعل من المواجهة بين الأخلاق والقوانين هي عين المواجهة السياسية بين الدولة والثورة.

من نتائج تحويل كلّ الأخلاق إلى قوانين اتجاهُ الدولة إلى المركزيّة من جهة بنيتها وإلى الاستبداد من جهة تعاملها مع قوى المجتمع المختلفة. وقد كانت مركزيّة الدولة الموروثة عن حكم البايات والحقبة الاستعماريّة ومرحلة الاستقلال سببًا أساسيًا في عجزها عن تغطية كلّ المساحة الاجتماعيّة، وهو ما جعل منها "دولة جهويّة" رغم إصرارها على "صفة الوطنيّة". ومن ثمّ كان سببًا في الانقسام الاجتماعي الذي يعرفه البلد بين ساحل وداخل ومركز وهامش. وبقدر ما كان الانقسام الاجتماعي قادح الثورة فإنّ رأبه كان غايتها الأسمى.

الثورة في مهدها تونس

من مميّزات الثورة التي انطلقت من تونس أنّها لم تكن من فعل الطبقة السياسيّة التقليديّة في المجال السياسي الرسمي بأحزابه ونقاباته ومجتمعه المدني وإنّما فجّرها الهامش المفقّر في مجاله السياسي الأهلي، ثمّ تلقّتها الطبقة السياسيّة التقليديّة لتعيد من خلالها إنتاج صراعات لم يتسنّ حسمها في زمن الاستبداد. لذلك عرف مسار الثورة منذ اندلاعها إلى اليوم مرحلتين: مرحلة التأسيس ومرحلة الانتقال الديمقراطي.

وكانت الأولى بقيادة الهامش المفقّر حين شدّ شبابه الرحال في مسيرات تاريخيّة ضخمة إلى العاصمة، واستقرّوا بساحة القصبة مركز الحكم في القديم ورمز سلطتها التنفيذيّة حديثاً. ولم تُقرَأ عمليّة التأسيس إلاّ على أنّها بناءٌ جديد وتأسيسٌ ثان في مواجهة التأسيس الأوّل (1956 ـ 1959) الذي انبثقت عنه الجمهوريّة الأولى بقيادة الحبيب بورقيبة، وكأنّه ابتداء سياسي يعلن نهاية البورقيبيّة وموت إيديولوجيّتها الوطنيّة.

يمثّل خروج تجربة الثورة من التأسيس إلى الانتقال الديمقراطي تحولًا من واجب محاسبة منظومة الحكم القديمة على قاعدة العدالة الانتقاليّة إلى واقع منافستها على قاعدة التوافق

يمثّل خروج تجربة الثورة من التأسيس إلى الانتقال الديمقراطي تحولًا من واجب محاسبة منظومة الحكم القديمة على قاعدة العدالة الانتقالية إلى واقع منافستها على قاعدة التوافق. وهذا بدوره نتيجة لسببين: الشروط التي دارت فيها الانتخابات التأسيسيّة في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وهي شروط المنظومة القديمة، وقد تمكّنت في الفترة الفاصلة بين يوم هروب بن علي وموعد الانتخابات التأسيسية من أن تتصدّر مؤسسات الدولة الأولى باسم إنقاذ الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: أيّ مضمون لـ"صفة الثوريّة" في مرحلة الانتقال الديمقراطي؟

وقد استطاعت المنظومة ترويض "الصف الثوري" في مرحلة أولى بواسطة تقديم عناصرها المعتدلة ومن غاب منهم سنوات طويلة عن الحكم في مرحلة الاستبداد وتبنّي خطاب الثورة وأهدافها. وفي مرحلة ثانية تمكّنت من شقّ الصف الثوري من خلال النجاح في تأجيج الصراع الهووي، فصارت قطبًا تتداول القوى المحسوبة على الثورة على وضع اليد في يدها نكاية في خصومها الذين جمعتهم بها مسيرة مضنية في مواجهتها.

كان هذا في إجهاض عمليّة التأسيس حين وضع اليسار يده في يد الباجي قايد السبسي لإسقاط تجربة الترويكا بقيادة النهضة، وكان بعده انتخابات 2014 مع عودة القديم القويّة واعتلائه الرئاسات الثلاث، وتحالفه مع النهضة التي باتت تحت هاجس "مشكلها الوجودي". ويتواصل هذا اليوم، وفق ما يذهب تقدير، مع حكومة الحبيب الجملي التي تمّ إسقاطها بلقاء بين مكونات القديم الثلاث (قلب تونس، تحيا تونس، الدستوري الحر) وحركة الشعب والتيار الديمقراطي، وفي ذلك استعادة إعادة رسم جديد لحدود "السيستام".

الثورة في مجالها العربي

رفعت الثورة المنطلقة من تونس منذ لحظتها الأولى شعارين: "الشعب يريد إسقاط النظام" و"الشعب يريد تحرير فلسطين"، ويمكن اختزالهما في "إسقاط النظام" بما هو سلطة استبداديّة مذلّة وسلطة استيطانيّة محتلّة. والسلطتان صورة من نظام مادي ورمزي استعماري مهيمن على العالم.

وتلازم الشعارين أعطى الثورة بعدًا عربيًا، وتأكّد هذا البعد عندما وصلت الثورة إلى مصر. ومن أهمّ رسائل هذا الامتداد أنّ المجال العربي وحدة سياسيّة وثقافيّة ولسانيّة منعها من الاجتماع عاملان: الاستبداد والاحتلال. فكانت منطقة فراغ للتدخّل الإقليمي والدولي بسبب موقعها الاستراتيجي ولما تختزنه من ثروات في الطاقة هائلة. فكان حدس الجماهير لهذه العلاقة بين الاستبداد والاحتلال الصهيوني فذًا وملهمًا. وتواصل مع الموجة الثانية من الربيع في السودان والجزائر ولبنان والعراق ليتأكّد أنّه جزء من بنية وعي.

امتدت الثورة من تونس إلى الدول التي عرفت فيها النخبة السياسيّة المناهضة للاستبداد درجة وعي مهمّة نبّهت إلى درء الصراع الأيديولوجي فيما بينها وضرورة الالتقاء على مطلب الحرية ومقاومة الاستبداد

الثورة التي انطلقت من تونس امتدّت إلى الدول التي عرفت فيها النخبة السياسيّة المناهضة للاستبداد درجة وعي مهمّة نبّهت إلى درء الصراع الأيديولوجي فيما بينها وضرورة الالتقاء على مطلب الحريّة ومقاومة الاستبداد، وكان هذا مع "كفاية" في مصر و"ربيع دمشق" في سوريا و"الحراك الجنوبي" في اليمن و"18 أكتوبر" في تونس.

ورغم سقوط عديد الأنظمة فإنّ قطرين فقط عرفا انتقالًا ديمقراطيًا هما تونس ومصر. فقد نجحت الثورة المضادّة في السياق العربي في تحويل الثورة في اليمن وسورية وليبيا إلى حرب أهلية، وأمكن لها إسقاط عملية الانتقال الديمقراطي في مصر بواسطة الانقلاب الدموي على ثورة 25 يناير. ولم يثبت إلاّ الانتقال الذي عرفته تونس، لوجود إجماع على الدولة وحياد المؤسسة العسكرية التي لم يكن لها طموح سلطوي بالإضافة إلى وجود قوى من القديم والجديد قابلة لتقديم تنازلات والدخول في تسويات، مثلما أشار المفكّر عزمي بشارة في محاولة منه للبحث عن كليّات للانتقال الديمقراطي في المجال العربي.

وكان لتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي أثر بالغ على الانتقال الديمقراطي وتأثير سياسي متّصل بربط غير مؤسس بين الثورة والرفاه الاقتصادي عند أوسع القطاعات الشعبيّة، وعدم الانتباه إلى ما اطّرد من تلازم بين الثورة في سنواتها الأولى والانهيار الاقتصادي. 

جيل جديد من الثورات

هي ثورات إصلاحيّة، بعبارة عزمي بشارة، ويعني أنّها تثور على الأنظمة لتطالبها بإصلاح نفسها. وهذا يبدو أيضًا من مصطلح "الثورة الإصلاحيّة" نفسه، إذ يحتوي على مقابلة بين الثورة التي تعني الفعل الجذري وتصفية القديم وبين الإصلاح الذي يقوم على احتفاظ وتجاوز. وعبارة الثورة تبدو من العبارات القلقة في ثقافتنا القديمة، دون أن تنوب عنها عبارة الإصلاح التي لا تقلّ عنها قلقًا في ثقافتنا الحديثة.

ولكن هل تتقابل الثورة والإصلاح فعلًا؟

درس علم الأدب قد يساعد على فكّ هذا التقابل حين يشير إلى أنّ "لا يوجد نصّ بكر" بما في ذلك النص الديني، وقياسًا فإنّه "لا يوجد فعل بكر"، فالفعل الإنساني يؤثر سابقه في لاحقه، وفكرة القطيعة فكرة فلسفيّة سليلة الدرس الإبستمولوجي ومفهوم التناقض. ويبدو الأنبياء في هذا أكثر تواضعًا من الفلاسفة، حين يعترفون بتواصل الجهد البشري وتراكمه وتأثير بعضه في بعض ("إنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ").

من منطلق لساني يمكن القول إنّه "لا يوجد إلاّ الإصلاح"، ولكنّه إصلاح تختلف درجته باختلاف العلاقة بين القديم والجديد. ومن معاني الإصلاح بما هو استمرار وتواصل تأكيد صاحب الفلسفة الكليّة على أنّ الثورات تهدم الأنظمة السياسيّة ولا تسقط الدولة، وحتّى في حالة الحروب الأهليّة فإنّ لحظة إسقاط الدولة هي نفسها لحظة الشروع في بنائها، فالدولة عنده ضرورة خارجة عن وعي الجماعة البشريّة.

هي ثورات إصلاحيّة، بعبارة عزمي بشارة، ويعني أنّها تثور على الأنظمة لتطالبها بإصلاح نفسها، وهذا يبدو أيضًا من مصطلح "الثورة الإصلاحيّة" نفسه

في تاريخ الثورات، تمثّل ثورة الربيع العربي المنطلقة من تونس جيلًا جديدًا من الثورات انطلق مع العشريّة الأولى من الألفيّة الثالثة. وقد تخطّت المجال العربي لتنخرط فيه وفي ما أحدثته من أثر قُوًى إقليميّة ودوليّة إلى جانب رفع شعار "إسقاط النظام" في وول ستريت رمز النظام الرأسمالي المعولم وأداة الهيمنة الإمبرياليّة.

ضفّة المتوسّط الشماليّة أنصتت بإرهاف من خلال فلاسفتها وعاماء اجتماعها ومفكّريها إلى ما يحدث في ضفّة المتوسّط الجنوبية، وانتظروا من ثورة الحشود والميادين أجوبة على الأزمة التي تعرفها الدولة الحديثة. ولكنّ أسبابًا عدّة منها حالُ النخبة في الضفة الجنوبيّة وشعورها المستمرّ بالدونيّة وبتبعيتها لما يقال هناك من ناحية، وإصرار السياسة في ضفّة المتوسّط الشماليّة على تأبيد مصالحها التقليديّة من ناحية أخرى، حالًا دون التقاذ رسائل ثورة الحريّة والكرامة ومنها هويّة الانتظام السياسي، وعلاقة الديمقراطيّة بالحرية (الكرامة) وتاريخيّة الدولة مقابل فكرة "نهاية التاريخ"، وإدارة التعارف بديلًا عن إدارة الصراع والتوحّش.

هي ثورة الألفيّة الثالثة وفصلٌ من مسيرة الكدح الإنساني والبحث عن انتظام سياسي أعدل وأكثر حفظًا لكرامة الإنسان. عشنا عشريّتها الأولى، ونترسّم آفاقها البانيّة في الفكر والانتظام السياسي الإيجابي والرفاه الإنساني رغم ما قتامة المشهد وحدّة الصراعات واتساعها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التونسيّون ولحظة الهروب الجماعيّ من المسؤوليّة

حشّاد نبعُك لم يجفّ.. مدخل إلى المسألة النقابيّة في تونس