17-ديسمبر-2020

بورتريه عن ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي (رويترز)

 

"حاجتنا إلى التفكير هي ما تجعلنا نفكّر..." ( تيودور أدورنو)

 

لا يزال التونسيون، منذ عشر سنوات خلت، يكثرون الحديث عن ثورتهم التي اندلعت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، ويتطرّفون في التعصّب لها أو عليها وسط غيم من مشاعر متقلّبة تينع مع مساءاتها الأحلام وتموت كلّما أجهش الوطن بالبكاء في ردهات الدجى، ولكأنّ ابن رشيق القيرواني صاغ  قولته الشهيرة من أجلها: "( ثورة ) ملأت الدنيا وشغلت الناس".

لقد باتت "الثورة التونسية" ملكًا حضوريًا وتراثًا رمزيًا وإرثًا من نسغ الشمس... يحقّ للغة والمفردات أن تفتح لها  مفاعلات أبنيتها وأقبيتها وأن تغزل معانيها شالات قرب النبع القصي لتلوّح بها الأجيال لبعضها البعض عند السفر وعند احتفالات الناي بوهيج الذكرى في مفترق كل شتاء. ويحق للشعر أيضًا باعتباره سقف اللغة أن يحتفي بها كأسطورة، كنفخة إلاهية، كبهجة سماوية، كحالة لاشعورية كنست بعض المرارة من على أديم الوطن.

"الثورة" في ذكراها العاشرة، رغم البطلان والهتك الذي تعرّضت له ورغم وقوفها في العراء وحيدة كصفصافة متعبة، إلا أنّ قلبها يسع الوجود بأسره ومازالت تطل كأغنية نخاف ضياعها

نعم، يحق للشعر وحده أن يمنح الثورة التونسية عتاقتها وسكينتها وأن يكثف الضوء حولها وأن يعمّق معانيها قدر المستطاع وأن يعلّق صوتها على مهبّ الأمجاد ويحوّلها الى استعارة بديعة ترسب في قاع الرّوح لتتحول إلى غبطة غامرة كلّما هطلت ذكراها مع أمطار الشتاء، كلّ شتاء" وإن كان لا بدّ من وطن فليكن في القوافي.. هكذا علّمتني المنافي".

"الثورة التونسية" هي شقيقة كل الثورات التي حدثت (أنطوان جيوري/ Getty)

"الثورة التونسية" هي شقيقة كل الثورات التي حدثت وملهمة كل الثورات التي ستحدث، إنها سوناتات تشيّع الثوّار عندما يأوون إلى مُهَجهم المترعة بهموم شعوبهم، إنها بلسم أطول ممّا يدوم، إنها سياق عفوي خارج كل السياقات، إنها ما اقترف الشعب التونسي في غفلة من أفول القمر بلا مجاز وبلا بلاغة و بلا ترصيف وبلا ترتيب.

ودونما ترتيب للاستعارات ودونما همهمة يأتي الشهداء في موعد كل ذكرى تسندهم ابتساماتهم وتحرسهم الذكرى نفسها، يبسطون بيننا تلك الحرارة الأولى لاندلاع الثورة والتي تبدو منعكسة على وجوههم كقوس قزح، كموسيقى رتّبها صبية في المساء.

اقرأ/ي أيضًا:  أفيون الثورة التونسية

يأتي الشهداء في كل مرّة على بسط من رذاذ يرتبون معنا أحزان الوطن وترًا وترًا ويرتلون معنا أغنية "محلا القعدة ع المية ومحلا الربيع... محلا الثورة التونسية تضم الجميع... مجدك يا تونس عالي مشهود والثوري ولدك قدها وقدود..." ويفتحون معنا دروب البشائر نحو متخيل جديد خارج  مدارات الصراع والتوظيف السياسي الذي استبد برصيد الثورة وأفسد ماهيته ليتعالى الغبار الخانق ويهيمن الهواء العطن على سماء  وآفاق البلد.

يأتي الشهداء في كل مرّة على بسط من رذاذ (كريستوفر فيرلونغ/ Getty)

قد يصرخ بنا الشهداء ذات ذكرى أن: تبًّا لكم ماذا صنعت أيديكم؟ لماذا كسرتم الكمنجة وعبثتم بخيوطها؟ وأسرتم الفراشة ومزّقتم أجنحتها؟ لماذا ألقيتم بيوسفنا في الجبّ وذهبتم إلى التباكي. لكنّنا سنجيبهم بصوت واحد هو نفس صوت الشاعر نزار قباني عندما قال: "إنّ ما حصل خدش صغير على الوجه سوف يزول"، وسوف تعود الأفئدة إلى اقتراف الأمل من جديد وسينزل المطر ممجدًا ليروي ضمأ الشعب و"يعود إلى حقلنا الشجر" وستتجدد الأيام وتعود أكثر عمقًا "كابتسام الوليد".

"الثورة" في ذكراها العاشرة، رغم البطلان والهتك الذي تعرّضت له ورغم وجدها المكسور ورغم وقوفها في العراء وحيدة كصفصافة متعبة بلا سند في العراء الفسيح، إلا أنّ قلبها مازال يسع الوجود بأسره ومازالت تطل كأغنية نخاف ضياعها.

الشعارات التي رفعت أيام الثورة لا يزال صداها يتردد إلى اليوم في أفنية روح الشعب التونسي، نذكرها محبة و نذكرها تندرًا ونذكرها غلظة ونذكرها لطفًا

الشعارات التي رفعت أيام الثورة مازال صداها يتردد إلى اليوم في أفنية روح الشعب التونسي، نذكرها محبة و نذكرها تندرًا ونذكرها غلظة ونذكرها لطفًا... لكنها في النهاية تظل وثيقة نفسية تقوم مقام لوحة الوشم على كتف تمثال الآلهة "سيراس"، نتداوى بها كلّما ألمّت بنا آلام التاريخانية السطحية السمجة التي حولت تلك الشعارات الرائعة إلى لغة خشبية بلا معنى  وترجمات سياسية ركيكة ومكبوتة بلا إدراك.

كل التونسيين يعتقدون جازمين أن السياسيين قد سطوا على ثورتهم وشعاراتها الذهبية ولوّثوها ونفّروهم منها إلى الأبد وجعلوهم يعافونها ويخافونها وبات ذكرها "مقرفًا" ومروّعًا لدى البعض بطريقة مرضية يمكن تسميتها تجوّزًا  بـ"فوبيا الثورة" لكنها في حقيقة الأمر سحابة صيف ستزول لا محالة ويعود للثورة ربيعها وشذاها وبراءتها وبهرجها، وستمنحنا فتنتها وستأتي ساعة الإسراء قاربًا من أمل يطوّف بنا بقية العمر في سماء الحريّة التي تتوق إليها كل الشعوب.

أيام الثورة لا يزال صداها يتردد في أفنية روح الشعب التونسي (كريستوفر فيرلونغ/Getty)

نعم، ما أجمل الحرية التي سكبتها الثورة على أديم الوطن العزيز وما أعمق معانيها المعلقة كقناديل خضراء تحت سماء البلد. الحرية في تونس جعلت الكلام أشهى والورد أجمل والعمل أعذب والأحاسيس جياشة والتحرر فعلًا والعدل أسمى والفكر أرحب والحب أرقّ من المطر وألين من غيمة.

الثورة زهرة بريّة أنبتتها الأقدار عطفًا على أرض تونس بين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 و14 جانفي/يناير 2011  وقد تناثرت بذورها في أصوات المغنين وعطّرت عرق الفلاحين ومنحت الأشياء صلابتها وكثّفت من بلاغة الشعراء وأعطت أهل العزم العزائم وأهل العشق موهبة الحب الأبدي، فلا خوف على تونس ولا خوف على ثورتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عقد على ثورة "الكرامة" بتونس: حلم ينتظر التحقيق

جريحة الثورة صباح الشاذلي: عبير موسي رفعت قضية ضد عائلات شهداء الثورة وجرحاها!