26-نوفمبر-2019

مثّلت العدالة الانتقاليّة المسلك الأمثل الذي اختاره التونسيون سبيلًا إلى تحقيق أهداف الثورة (صورة أرشيفية/ الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

ترسّب في أذهان جلّ التونسيين انطباع مفاده أنّ ثورة 2011 لم تحقّق أهدافها، وقد استندوا في ذلك إلى عدّة قرائن، أهمّها عودة أعوان بن علي وأنصاره وداعميه إلى السلطة، وإفلات المجرمين والفاسدين من المحاسبة، ودخول شخصيات وأحزاب ومنظمات ذات تاريخ نضاليّ في سلسلة من التنازلات والمساومات والتوافقات مع المنظومة السابقة.

أرجعت سهام بن سدرين في أكثر من مداخلة تقصير هيئة الحقيقة والكرامة إلى أسباب عديدة منها تعمّد الدولة في فترة التوافق بين النهضة والنداء التراخي في مساندة عمل لجان الهيئة

لا ينكر هذا الانطباع غير قلّة قليلة ترى أنّ الثورة في الطريق الصحيح، فقد أظهر المواطن التونسي تمرّدًا سيّالًا على كلّ ضروب الاستبداد والتعتيم، ولم يعد يخفض جناحيه إلّا لقناعاته وللحريّة أمِّ الفضائل، فمن رحمها ستنسل أنوار الحقيقة والكرامة وتعلو صروح العدالة وردّ الاعتبار، وفي حقولها الفكريّة والأدبيّة والفنيّة ستنمو أجيال كفيلة باستكمال أهداف الثورة.

موقفان متباينان الأول موغل في التشاؤم والسوداويّة، والثاني يحرّكه تفاؤل حالم مقبل مندفع عجزت عن إرباكه كلّ المحبطات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والإعلاميّة والأخلاقيّة. لإخراج هذين الموقفين وعديد التقييمات الأخرى من التسرّع والانفعال والانطباعيّة تسعى بعض مراكز البحث إلى إخضاع سياقات الثورة ومساراتها ومخرجاتها إلى القراءة العلميّة والموضوعيّة.

وفي هذا الجانب، انتظم المؤتمر السّنويّ الثامن لقضايا الديمقراطيّة والتحوّل الديمقراطيّ تحت إشراف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس بين يومي 21 و23 نوفمبر/ تشرين الثاني، وقد تمحور موضوعه حول "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية: السياسة، والتاريخ، والذاكرة".

 

 

المحاضرة الافتتاحية لمؤتمر العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية: السياسة، والتاريخ، والذاكرة

 

اقرأ/ي أيضًا: "لا رجوع".. رهان استكمال مسار العدالة الانتقالية

أعود لطاولتي ..لا شيء معي إلّا كلمات

مثّلت العدالة الانتقاليّة المسلك الأمثل الذي اختاره التونسيون سبيلًا إلى تحقيق أهداف الثورة والمساهمة في تكريس المسار الديمقراطيّ، وقد تحمّلت وزر هذه المهمّة الثقيلة المعقّدة الخطيرة هيئة الحقيقة والكرامة، فعلّق عليها الضحايا والحقوقيّون الآمال، ولكنّها سرعان ما تحوّلت إلى ساحة تشكيك واتّهام، فسارع المتربّصون إلى جعلها مصبّا لنفايات العجز والفشل.

أقرّت سهام بن سدرين رئيسة الهيئة في مناسبات عديدة بضعف النتائج، واعترفت بندرة المكاسب قياسًا إلى حجم الانتظارات، إذ لم يجن حوالي خمسون ألف مظلوم مكلوم غير السماع والإنصات، فقد مكّنت الهيئة هذا الكمّ الهائل من المقهورين من التعبير عن آلامهم، ووثّقت شكواهم صورة وصوتًا، وعاد كلّ واحد منهم ولسان حاله يقول" وأعود أعود إلى بيتي لا شيء معي سوى كلمات".

عدنان الإمام: الطور الذي سبق قيام المجلس التأسيسيّ ودسترة العدالة الانتقاليّة وإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة كان طورًا مؤثّرًا في جلّ المسارات والمآلات اللاحقة

أرجعت بن سدرين في أكثر من مداخلة تقصير الهيئة إلى أسباب عديدة منها تعمّد الدولة في فترة التوافق بين النهضة والنداء التراخي في مساندة عمل لجان الهيئة، إذ لم تكن مؤسّساتها متعاونة بالشكل الكافي، كما ساهمت بعض التشريعات في قطع الطريق على هيئة بن سدرين، منها قانون المصالحة الذي أطلق رصاصة الرحمة على آليّة التحكيم والمصالحة، وكانت الهيئة قد تمكنت بفضل هذه الآليّة من استرداد بعض الأقساط من الأموال المنهوبة بدت للبعض هامّة، لكنها تظّل قياسًا إلى حجم الفساد محدودة، ومن العلامات البارزة التي تؤكّد ما عانته الهيئة من خذلان غياب الرؤساء الثلاثة عن آخر جلسة عموميّة، وتلك آية رمزيّة تثبت تنكرّ السلطة لواجبها الدستوريّ، كان ذلك في ديسمبر/ كانون الأول 2018 حينما تخلّف الباجي قائد السبسي ويوسف الشاهد ومحمّد الناصر في حركة لا يمكن أن تكون عفويّة.

هذه التعليلات تكتسي جانبًا كبيرًا من الوجاهة والموضوعيّة، وقد وجدت صداها في العديد من المداخلات والمقالات التي اهتمّت بما شاب العدالة الانتقاليّة من تعطيلات وهنات، بيد أنّ بعض القراءات بدت أكثر تميّزًا وخصوصيّة وعمقًا وحفرًا في دقائق الثورة، إذ ربطت مصير العدالة الانتقاليّة بفترة ما قبل قيام المجلس التأسيسي وظهور هيئة الحقيقة والكرامة، هذه الأطروحة عبّر عنها عدنان الإمام أستاذ القانون العام والعلاقات الدوليّة، ومن مؤلّفاته "الإسلام والحرب" و"الإسلام هذا الدين الغريب"، وذلك في مداخلة ألقاها خلال مؤتمر "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية: السياسة، والتاريخ، والذاكرة".

عفويّة الثورة ودهاء المنظومة

أكّد عدنان الإمام أنّ الطور الذي سبق قيام المجلس التأسيسيّ ودسترة العدالة الانتقاليّة وإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة كان طورًا مؤثّرًا في جلّ المسارات والمآلات اللاحقة، وعلّل ذلك بما حفّ بالثورة في عنفوانها من مفارقات، فقد توافق جلّ التونسيين على عفويّة التحرّكات الشعبيّة المتصاعدة بداية من 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، وهي التي أرغمت بن علي على الهرب، هذه المصادرة التي تؤكّد افتقار الثورة إلى التأطير وحسن التفكير والتدبير أفضت على حدّ تعبيره إلى "الإبقاء على المنظومة القديمة، والتعامل معها"، إذ لا بديل عنها، ولا توجد تصوّرات جاهزة قابلة للتطبيق يمكن أن تعوّضها، فالتنكّر لتلك المنظومة مطلقًا من شأنه أن يجعل الدولة مهدّدة في وجودها وانتظامها، ممّا قد يفضي إلى الفوضى العارمة.

عدنان الإمام: استفاد الجهاز القديم من تمسّك الفاعلين في الحراك الثوريّ بفكرة الاستقرار

اقرأ/ي أيضًا: ضحايا "S17" في تونس.. مواطنون برتبة مُلاحقين دون تهمة

الطريف في هذا المشهد، يضيف المتحدّث، أنّ " الثوّار" قد أبقوا على النظام، ومارسوا عليه ضغوطًا، كأنهم يرومون إلزامه بتصفية نفسه بنفسه، فأنتج ذلك وضعيّة وسطًا بين العدالة الثوريّة والعدالة التقليديّة، فقام المسار الثوريّ في بدايته على المتناقضات، زخم ثوريّ في تواصل فريد مع مكوّنات المنظومة التقليديّة، الأوّل يضغط بصدق وتلقائيّة وصفاء، والثاني يحاول أن يحتضن خصمه ويحدّ من هيجانه بخبث ودهاء.

أثناء ذلك استفاد الجهاز القديم على حدّ تعبير عدنان الإمام من تمسّك الفاعلين في الحراك الثوريّ بفكرة الاستقرار، فكانت المنظومة التقليديّة حريصة على ربح الوقت وإفراغ شحنة الانفعالات شيئًا فشيئًا، هذه المفارقات ستساهم في تعقيد المسارات اللاحقة للعدالة الانتقاليّة.

فكرة بن علي!

اعتبر عدنان الإمام أستاذ القانون العام والعلاقات الدوليّة أنّ بعض الإجراءات التي تمّ اتّخاذها في مرحلة الحكم الانتقالي قامت على الإيهام بالقدرة على كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة، يتأكّد ذلك من خلال عدّة مؤشّرات أوّلها يتمثّل في أنّ اللجنة الوطنيّة لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات التي حدثت منذ 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 قد تمّ بعثها بأمر من الرئيس المخلوع يوم 13 جانفي/ كانون الثاني 2011، وتأسّست رسميًّا في 18 فيفري/ شباط 2011، فهي إذن فكرة بن علي، وقد تمّ تجسيدها بعد مغادرته تراب الوطن، وتلك مفارقة أخرى تنسجم مع جملة التناقضات التي حفّت بالثورة في علاقتها بالنظام السابق.

اعتبر عدنان الإمام أستاذ القانون العام والعلاقات الدوليّة أنّ بعض الإجراءات التي تمّ اتّخاذها في مرحلة الحكم الانتقالي قامت على الإيهام بالقدرة على كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة

وممّا يؤكّد ذلك أنّ هذه الهيئة، وفق محدثنا، دورها لا يتعدّى امتصاص الشحنات الثوريّة ولادتُها وهي مطوّقة بالمحاذير والحدود، فقد تشكلت عناصرها من أركان النظام الذي سقط رأسه، فعملت في ظلّ إكراهات زمنيّة ولوجستيّة مدبّرة مسبقًا، وتساءل الإمام "كيف يمكن لأحد عشر عضوًا وستة موظّفين التقصّي في ثلاثة آلاف ملفّ في ظرف وجيز".

ومن أمارات هذا الضرب من التحيّل الذي وقعت فيه الثورة في أوّل مساراتها النتائج السطحيّة التي قدّمتها هيئة بن عاشور، فهي لا تعدو أن تكون، حسب محدتنا، سوى محاولة تشخيص لأسباب الثورة وإحصاء لعدد القتلى والجرحى وضبط لجملة الاجتماعات التي تمّ عقدها في صلب الهيئة، ولم يجد متصفحو هذا التقرير أيّ وجه من وجوه الجرأة والدقّة والجديّة في تحديد المسؤوليّات، والأخطر من ذلك إقرار رئيس اللجنة آنذاك أنّ مهمّته لا تهدف إلى تنفيذ العدالة، بل إنّ المهمّة تقف عند إعداد التقرير دون تحويله إلى القضاء، فهو إذن عمل أشبه بالدراسات الأكاديميّة والمقالات التحليليّة.

أستاذ القانون الدولي عدنان الإمام

مجموعة الـ25 وإحباط مخطّط سلطة التحوّل

لمواجهة القوى السياسيّة المنادية بالعدالة الانتقاليّة، وضعت سلطة التحوّل بقيادة محمّد الغنّوشي ثمّ الباجي قائد السبسي استراتيجيّة وصفها عدنان الإمام بالسلبيّة، تمثّلت خطّتها في الجمع بين الإمساك عن المبادرة والإحجام عن فعل أيّ خطوة ثوريّة من جهة والتظاهر بالمسايرة لمطالب المجتمع المدنيّ من جهة أخرى، وهي أشبه بالمعارضة المقنعة غير الصريحة قصد تلطيف الموجة الثوريّة التطهيريّة العاتية.

هذه القراءة تكاد تنطبق على لجنة عبد الفتاح بن عمر رغم أنّ دورها بدا أوسع نسبيًا، فقد انفتحت على خروقات أعمق تتخطّى الجانب المدني والسياسيّ لتشمل الأبعاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

عدنان الإمام: مخطط إنقاذ بن علي ومسؤوليه تفطنت إليه مجموعة الـ25

اعتبر الإمام أنّ محاسبة المسؤولين محرار العدالة الانتقاليّة، بل يعدّ واحدًا من إكراهات القانون الدولي، وهو ما كانت السلطة الانتقاليّة حريصة من خلال أجهزتها وهيئاتها على الإعراض عنه أو تبخيسه وتلبيسه وإكسائه بألوان من الخلط والغموض إلى درجة تثير الدهشة، تجلّى ذلك خاصّة في التهمة الأولى التي وجهت لبن علي، وهي "مسك وتهريب عملة أجنبيّة"، هذه الإحالة تبدو بالنسبة إلى عدنان الإمام مدبّرة تنطوي على مسار من خلاله يمكن أن يستفيد الرئيس المخلوع من إبرام صلح يمكنه من الخلاص، فكأنّ المصالحة الاقتصاديّة التي صادق عليها مجلس النواب سنة 2017 قد تمّ التمهيد لها منذ سنة 2011.

هذا المخطّط لإنقاذ بن علي ومسؤوليه تفطّنت له حسب رأي عدنان الإمام مجموعة الخمسة وعشرين التي بادرت بمحاولات لتصحيح مسار العدالة الانتقاليّة، فرفعت دعاوى ضدّ الرئيس الأسبق ووزرائه تتناسب مع حجم الجرم الذي ارتكبوه، فكانت التهم تتّصل بالقتل والسلب وإثارة الهرج والاستيلاء على الأملاك العموميّة.

هكذا يتّضح من خلال مداخلة عدنان الإمام أنّ "سلطة التحوّل" المشدودة إلى المنظومة التقليديّة قد تصدّت لمخطّطاتها عناصر عديدة منها ضغط الشارع والمجتمع المدنيّ وبعض المبادرات التي اتّصفت باليقظة والشجاعة، وتواصل ذلك إلى حدود تركيز المجلس التأسيسي أوّل المؤسّسات المنبثقة عن الثورة، وهو ما أوحى بأفق ناجح للعدالة الانتقاليّة، لكن بعض المسارات والنتائج والتشريعات اللاحقة كانت دون المأمول قياسًا إلى ما أفضت إليه العدالة الانتقاليّة في ثورات أخرى، وهو ما أشار إليه بعض الباحثين في ثنايات المداخلات التي تمّ عرضها ضمن فعاليّات المؤتمر السّنويّ الثامن لقضايا الديمقراطيّة والتحوّل الديمقراطيّ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 بتونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ابتهال عبد اللطيف: تقرير "الحقيقة والكرامة" ضعيف وملفات سُويت في الظلام (حوار)

عادل المعيزي: مثّلنا الدولة التي تعرّي نفسها في هيئة الحقيقة والكرامة (حوار)