09-يناير-2019

قاد القائد الأمازيغي "تاكفاريناس" ثورة ضد الاستيطان الروماني في شمال إفريقيا (صورة تقريبية/Getty)

 

يعرف جميعنا تقريبًا محمد البوعزيزي، الشاب التونسي الذي أضرم النار في جسده لتثور الجماهير التونسية في الشوارع ويسقط النظام الاستبدادي تحت ضغطها بتاريخ 14 جانفي/كانون الثاني 2011. ولكن فيما يخلّد التاريخ وتحفظ الذاكرة اسم البوعزيزي بجميع الوسائل الممكنة، في الشوارع والساحات العامة والأعياد الوطنية والمضامين الإعلامية والسجلات الرسمية، يكاد يُنسى أول ثائر تونسي في التاريخ.

ولذلك بمناسبة ذكرى الثورة التونسية، حريّ بنا أن نستذكر أول تمرد على النظام في تاريخ تونس، تمرد قاده الثائر "تاكفاريناس" طيلة سبع سنين كاملة حارب فيها الاحتلال والاستيطان الروماني.

فمن هو "تاكفاريناس" الذي يُكنّى به مغنِّ جزائري نفسه؟ وكيف بدأت ودارت المقاومة التي قادها؟ ثم على أي نحو انتهت؟ وإلى ماذا آلت؟

"تاكفاريناس" يعتبر من أهم قادة نوميديا الأمازيغية وقد قاد ثورة ضد الاحتلال الروماني

يُورد المؤرّخ ورئيس القضاة الروماني "تاكيتوس" أو "تاسيتوس" (58 - 120 ميلادي) في حولياته التي تتعرض في جزء منها لحرب الجيش الروماني ضدّ المقاومة المسلحة التي تزعمها تاكفاريناس، بشمال إفريقيا، أن هذا الأخير انخرط في الجيش الروماني بإفريقيا كجندي مساعد منذ سنّ  السادسة عشرة، وقد تمرّس في الجندية واكتسب خبرة عسكرية في استخدام الأسلحة، ووضع الخطط العسكرية واستراتجيات الجيش في توجيه المعارك والحروب قبل أن يفرّ من الجندية بعد ذلك وتحديدًا في سنة 17 ميلادية، ليقود قبائل المزاملة الثائرة ضد المحتل الروماني ويكوّن منها جيشًا نظاميًا من المشاة والفرسان على النمط الروماني الذي مارسه في تنظيم الجيوش.

وتؤكد أستاذة التاريخ والباحثة في التاريخ القديم نعيمة الحمامي في حوارها لـ"الترا تونس" أن المصادر المعتمدة في دراسة حياة "تاكفاريناس" وثورته على الرومان، هي مصادر رومانية بالأساس قائلة:" كل من يستقرئ تاريخ مقاومته لابد أن يعتمد على كتابات المؤرخ اللاتيني "تاكيتوس" الذي كان قريبًا من تلك الأحداث، ولكنه لم يكن موضوعيًا في حولياته التاريخية وأحكامه على الأمازيغيين، إذ كان منحازًا إلى الإمبراطورية الرومانية ولذلك فإننا نعتمده بحذر".

وتواصل الحمامي حديثها مؤكدة أن "تاكفاريناس" يعتبر من أهم قادة نوميديا الأمازيغية، وهو المنتمي إلى قبيلة "الموزيلامس" وهي قبيلة صحراوية تقطن في منطقة الشوط، الواقعة حاليًا في ولاية وادي سوف الجزائرية وإقليم الجريد في تونس.

اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

الرومان في قرطاج.. استيطان وظلم وإذلال

على خلاف القرطاجيين الذين اهتموا بالتجارة والصيد، ركز الرومان اهتمامهم على الفلاحة. وبانتصارهم على قرطاج سنة 146 قبل الميلاد واستيلائهم على أراضيها بشمال إفريقيا، تخبرنا الأستاذة في التاريخ القديم نعيمة الحمّامي أن الرومان لم يكتفوا باحتلال أجود الأراضي الفلاحية الأمازيغية فحسب، بل قام الإمبراطور الروماني "أغسطس" بتشجيع استيطان عدد مُهِمٌ من سكان إيطاليا في شمال إفريقيا، خاصة الجنود وقادة الجيش المسرّحون أو المتقاعدون إلى جانب التّجار، قصد الإقامة والتعمير وقد كان ذلك طبعًا على حساب الأراضي الفلاحية والرعوية للأهالي الأمازيغ.

ولم تقتصر روما على احتلال الأراضي بل انتهجت سياسة إذلال وتحدي بدأت بقتل الملك الأمازيغي الأول "يوغرطة" والتنكيل بجثته على مرأى شعبه، وعملت على كسر شوكة القبائل المقاومة خصوصًا "الموسلامية"، التي استهدفتها عبر سلسلة من الاعتداءات الوحشية وجرّدتها من أراضيها.

نعيمة الحمامي (أستاذة وباحثة في التاريخ القديم): الرومان لم يكتفوا باحتلال أجود الأراضي الفلاحية الأمازيغية فحسب بل قاموا بتشجيع الاستيطان في شمال إفريقيا

أمام تلك اللحظات المأساوية والقمع المتنامي، كان شعور النقمة يكبر ويشتد معه عود المقاومة التي بدأت تتبلور أشكالها الأولى في الهجومات المتكررة على مستودعات الحبوب الرومانية ونهبها، حيث ظهرت مجموعة سُميت بـ"الدوارين"، لأنها تدور على هذه المستودعات لسرقتها، وقد لاقت دعمًا هائلًا لانتمائها إلى جماعة الفقراء الذين يمثلون غالبية المجتمع الأمازيغي الذي بات يعاني الفقر والتفاوت الطبقي.

إضافة إلى "الدوارين"، ظهر دور "الدوناطية" نسبة إلى رجل الدين الأمازيغي المسيحي "دوناتوس"، إذ انتفض رجال الكنيسة الأمازيغية ضد المحتل الروماني وطالبوا إخوانهم الأمازيغيين بعدم الانتظام في الجندية الرومانية وطرد كبار الملاك الرومان من أراضيهم.

"تاكفاريناس" يحشد للثورة

إزاء طبيعة الظروف السياسية والنفسية والاجتماعية والدينية آنذاك، كان واضحًا أن قوة ضغط شعبية تتشكل وهنا بالتحديد ظهر دور "تاكفاريناس" الذي أسس قوة عسكرية نظامية على الطريقة الرومانية مكونة من المشاة والفرسان، إلى جانب قوة غير منظمة تتخذ شكل عصابات مباغتة تعمل على حرق المحاصيل ومنع الأمازيغ من بيعها للتجار الرومان، علاوة على شن غارات على المدن عند الانتهاء من حصاد الحبوب لمنع نقلها إلى روما لضرب المصالح الاقتصادية الرومانية في العمق.

اقرأ/ي أيضًا: أقدم القرى المأهولة في تونس.. "اللّاس" زهرة لا تبصر جمالها

تبنى "تاكفاريناس" عدة طرق في المواجهة العسكرية تمحورت أساسًا حول الجمع بين الخطة النظامية وحرب العصابات، اعتمادًا على توحيد القبائل الأمازيغية في إطار تحالف مشترك وذلك مع استغلال الأزمة التي كانت تمر بها الحكومة الرومانية.

لتحقيق ذلك، تنقل المصادر التاريخية: "لم يقتصر تاكفاريناس في تحالفه على قبائل الموزلام (أو الموسلام)، بل انفتح على القبائل الصحراوية وتحالف مع الموريين، أي مع قوات موريتانيا الطنجية التي كان يقودها مازيبا".

ونظرًا إلى أن الحاكم "يوبا الثاني" ملك موريتانيا الطنجية كان عميلًا للرومان ومتحالفًا مع حكومة موريتانيا القيصرية، لم يستجب له الشعب الذي اتبع القائد "مازيبا" الثائر، وذلك دون نسيان قبائل "الكينيتيين" الذين عاشوا في الجنوب الشرقي للقبائل الموسلامية، إذ تحالفوا عن اختيار وطوعية مع "تاكفاريناس".

مناداة بالمقاومة ورفضًا للتطبيع مع الرومان، استطاع "تاكفاريناس" أن يوحد القبائل الصحراوية الثائرة في المناطق الجنوبية لخط "الليمس" أي من سرت حتى المحيط الأطلسي.

استعان بالبدو الخبراء بالمناطق الصحراوية الذين أجادوا التحرك في تلك الربوع بسرعة وفق الأسلوب العسكري في المناورة، ليتمكن "تاكفاريناس" من إلحاق عدة هزائم بالجيش الذي كان لا يشارك إلا في الحروب والمعارك النظامية متكئا على قوة عتاده المادي وعدته البشرية والعسكرية.

روما وسياسة فرّق تسد: انقسام الأمازيغ

أمام الخطر المتزايد لـ"تاكفاريناس"، سعى الرومان الى التفريق بين الثوار وتفكيك جسد الثورة، فتمكنوا من التحالف مع الأمازيغ الموالين لـ"يوبا الثاني"، ملك موريتانيا الطنجية، وابنه "بطليموس" ضد "تاكفاريناس" وأنصاره من الأمازيغ.

كما تمكن الرومان من استمالة بعض أتباع "تاكفاريناس" فوعدوهم بالعفو وبأجود الأراضي لزراعتها وهو ما تسبب في شقاق صلب جيش "تاكفاريناس" الذي انتشرت فيه الخيانة.

تمكن الرومان من استمالة بعض أتباع "تاكفاريناس" فوعدوهم بالعفو وبأجود الأراضي لزراعتها وهو ما تسبب في شقاق صلب جيش "تاكفاريناس"

 بل سارعت روما إلى مكافأة كل القادة العسكريين الذين يصدون بعنف هجمات "تاكفاريناس" ووضعوا تماثيل شاهدة على إنجازاتهم. وقد قال "تاكيتوس" ساخرًا من ذلك: "يوجد في روما ثلاثة تماثيل متوجة وتاكفاريناس لا زال حرًا طليقًا في إفريقيا".

ويضيف المؤرخ اللاتيني أيضا في حولياته سخرية ممزوجة بالغضب هذه المرة بقوله: "تاكفاريناس لا زال ينهب في إفريقيا مسندًا من طرف الموريين الذين فضلوا مساندة الثورة على الولاء للعبيد العتقاء الذين يشكلون حاشية الملك الصغير بطليموس".

نهاية "تاكفاريناس" وبناء جدار عازل

يأتي في الموسوعة الإيطالية لسنة 1932 أنه وإزاء القوة المتنامية لـ"تاكفاريناس" وتغير موازين الحرب في أفريقيا الشمالية، عينت روما البروقنصل "كورنيليوس دولا بيلا" قائدًا جديدًا على الجيوش الرومانية، وقد تمكن من محاصرة جيش "تاكفاريناس" وأسر ابنه بعد أن قضى على الكثير من أتباعه الموزولاميين.

تذكر الموسوعة أيضًا أن "دولا بيلا" خاض معركة حامية الوطيس مع القائد "تاكفاريناس" انتهت بمقتل القائد الأمازيغي سنة 24 ميلادي. وقد كانت هذه الهزيمة نتاجًا للخيانة التي دُبِّرت في الكواليس الرومانية بالتنسيق مع الأمازيغ الموالين لروما حيث طُعن "تاكفاريناس" في الظهر، كما في كل السيناريوهات الحربية والعسكرية المحبوكة من الرومان للتخلص من أعدائهم الأمازيغ.

انتهت الثورة ضد الرومان بمقتل "تاكفاريناس" إثر خيانة دُبِّرت في الكواليس بالتنسيق مع الأمازيغ الموالين لروما

أنهت بذلك الخيانة ثورة "تاكفاريناس" التي دامت 7 سنوات ووئدت معها آمال الأمازيغ في الحصول على استقلالهم والظفر بحرياتهم في تسير شؤون البلاد. فقد تمكنت روما على إثرها من إحكام قبضتها على المنطقة وتحصّينها بـ"الليماس" وهو حاجز دفاعي فاصل أقيم بعد القرن الثاني الميلادي. 

ويتركب "الليماس" من جدران فخمة شاهقة وخنادق وحفر وحدود محروسة وقلاع محمية، ضد الهجوم الأمازيغي المحتمل. وكان هذا الخط الفاصل يتكون من "الفوساطوم" الذي يتألف من أسوار تحفّها خنادق من الخارج وحصون للمراقبة إضافة إلى تشييد طرق للمواصلات الداخلية والخارجية التي تتصل بـ"الفوساطوم" قصد إمداد الحاميات بالمؤن والأسلحة. هذا الصرح المبتكر حينها، بُني للحفاظ على مصالح الرومان والفصل بين منطقتين: منطقة شمالية رومانية ومنطقة جنوبية أمازيغية.

ورغم الملحمة الذي خاضها القائد الأمازيغي "تاكفاريناس" ضد المحتل الروماني، الا أنه بقي نسيًا منسيًا لقرون من الزمن ولم يذكره أعداؤه، التي مثلت مراجعهم أهم المصادر المكتوبة، إلا في روايات حاولت تجريده من مجده أكثر من أي شيء آخر، في سياقات تنبذ الثورات وترى فيها فسادًا وفوضى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكاف.. "أزيز أبواب الجنة" ونفحات الآلهة "فينوس"

آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش