20-يناير-2020

تزخر الثقافة التونسية بشواهد عديدة من الموروث الأمازيغي (دي أوغستيني /Getty)

 

"يا أبـي إينوفـا

غريبا: أرجوك يا أبي "إينوفا" افتح لي الباب

إينوفا: آه يا ابنتي" غريبا" دعي أساورك ترجّ 

غريبا: أخشى من وحش الغابة يا أبي إينوفا

إينوفا: آهٍ يا إبنتي "غريبا" وأنا أيضًا أخشاه
"

هذه ترجمة بعض الكلمات من أغنية "أفافا اينوفا" للفنان القبائلي "إيدير" والتي يحفظها العديد دون فهم معانيها، وهي تهويدة باللغة الأمازيغيّة تتغنّى بأسطورة يتناقلها الأمازيغ جيلًا بعد جيل، تختزل في طياتها صورًا من الحياة في قراهم وترسم واقع "تمازغا" (شمال إفريقيا).

أغنية "أفافا اينوفا" هي تهويدة باللغة الأمازيغيّة تتغنّى بأسطورة يتناقلها الأمازيغ جيلًا بعد جيل تختزل في طياتها صورًا من الحياة في قراهم

بطلة القصة هي "غريبا" الفتاة القبائلية التي تعمل من أجل إعالة إخوتها الصغار ووالدها الشيخ الكبير، وتعود متأخرة في يوم ما بعد غروب الشمس إلى المنزل وتدق الباب ولكن لا يُفتح لها خوفًا من أن يكون الطارق وحش الغابة، فطلب منها والدها تحريك أساورها ليتعرّف عليها، قبل أن يدخلها البيت لترتمي مباشرة في حضنه فتنشد "غريبا" ويعتذر منها والدها لعدم فتحه الباب.

وتقول الأغنية في بعض كلماتها "كيف يمكن صنع حكاية يرويها صوت مخذول"، ولكن نجح الفنان "إيدير" في إيصال صوت طائفة "مخذولة" حسب ما يتناقله أصحاب هذه الهويّة المنتشرة في بلدان المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا وشمال مالي وشمال النيجر.

ولئن اقتصرت علاقة التونسيين بالأمازيغية على بعض الموروث الموسيقي أو بعض الكلمات المتداولة في الحديث اليومي دون معرفة أصلها على غرار "شلاغم" (شارب) و"بكوش" (أبكم) و"فرطاس" (أقرع)، بدأ الحديث بعد الثورة عمّا تُسمّى "الهوية الأمازيغية" في تونس.

اقرأ/ي أيضًا: الإرث الأمازيغي في نابل.. عن الفخار وسرّ قوة "النابلية"

جميلة بن عيسى.. مرجع تونسي في التراث الأمازيغي

جميلة بن عيسى، امرأة تونسيّة ناطقة باللغة الأمازيغية، عاشت في أحضان قرية حافظت على امتداد عقود على الموروث الثقافي الأمازيغي، وهي تُعتبر مرجعًا لدى الباحثين لأنّ عدد الناطقين في تونس بالأمازيغية قليل جدًا.

هي ابنة قرية "تمزرط" من معتمدية مطماطة من ولاية قابس، نقطة من مثلّث أمازيغي ما يزال أهله محافظين على اللغة والعادات وحتّى الأسماء حسب ما روته محدّثتنا لـ"ألترا تونس". ويتكوّن هذا المثلّث من قرى "تمزرط" و"زوارة" و"توجان" التي ينطق جميع سكانها اللغة الأمازيغية حيث أنّ أطفالها لا يعرفون غيرها لغة إلى أن يرتادوا المدرسة.

جميلة بن عيسى، امرأة تونسيّة ناطقة باللغة الأمازيغية، عاشت في أحضان قرية حافظت على امتداد عقود على الموروث الثقافي الأمازيغي، وتعتبر مرجعًا لدى الباحثين لأنّ عدد الناطقين بالأمازيغية قليل جدًا

وتُعتبر احتفالات رأس السنة الأمازيغية تقريبًا من المناسبات القليلة التي تعرّف بالموروث الثقافي الأمازيغي، إذ تؤكّد جميلة بن عيسى أن هذه المناسبة مرتبطة ببداية التقويم الفلاحي وجرت العادة على ذبح جمل أو بقرة وتوزيع اللحم بالتساوي على الجميع مع مناقشة الأمور المتعلّقة بالقرى والقبائل والعائلات قبل الانطلاق في السنة الفلاحيّة. وأضافت أنه غالبًا ما يُطبخ في هذه المناسبة "الكسكسي سبعة حبوب"، والفطائر و"العصيدة بالزيت"، مبينة أن الاحتفالات تتواصل على امتداد ثلاثة أيام لا يمارس فيهم الأهالي أيّ نشاط مواز سوى الاحتفال.

 

لباس تقليدي للأمازيغ (دي أوغستيني/ Getty)

 

"نحنا -مالي- (أصحاب) الأرض ونحنا أصحاب التراب رضينا بالوافدين علينا، قبلناهم وعاشوا معنا تصاهرنا وانصهرنا معهم"، هكذا عبّرت جميلة على انتمائها وقناعاتها بأنّ الأمازيغ هم السكان الأصليون لأرض شمال إفريقيا كما تقول، مضيفة: "نحن حضارة عريقة ما يهمشنا أنّنا لا نملك كتبًا أو وثائق متأكدين منها لأنّ أغلب ما كتب عنّا مشوّه أو مهمّش خاصّة وأنّ التقويم الأمازيغي يفوق التقويم المسيحي بـ1030 سنة".

ونوّهت محدّثتنا أنّه كثيرًا ما يقع مهاجمة الأمازيغ بأنّ لهم "نعرة" ويريدون تقسيم البلاد وإثارة البلبلة فيها قائلة: "نحن دعاة سلام ولسنا دعاة فتنة، فتعريف الأمازيغ هو الرجل الحرّ والنبيل ولا أعتقد أن رجلًا يعمل هذا المعنى في اسمه عبر عصور يمكن أن يقتل أو يقاتل".

ومازال الوشم في جسد عديد النسوة في بعض المناطق التونسية شاهدًا على تاريخ زاخر بالعراقة للأمازيغ. وسواء كان في اليد أو الرجل أو الصدر، يرمز الوشم لقبيلة المرأة وقيمتها الاقتصاديّة ومكانتها الاجتماعية، فالمرأة قليلة الوشم، حسب محدثتنا، تكون إما يتيمة أو مطلّقة الأم.

تعدّد أشكال الوشم بتعدد معانيه (دي أوغستيني/ Getty)

 

اقرأ/ي أيضًا: حركة "آكال" الأمازيغية: قررنا دخول غمار العمل السياسي في تونس (حوار)

وفي سؤال "ألترا تونس" لجميلة بن عيسى عن مكوّنات الوشم، أوضحت أنّ الوشم في شكل الصليب هو حرف التاء باللغة الأمازيغية وهو الحرف الذي يختزل كل خصال وخصوصيّة الرجل الأمازيغي، مبينة أن الأمازيغ اعتنقوا، على مر التاريخ جميع الديانات وأنّ كل شخص حرّ في اختيار ديانته، وفق قولها.

ويكمن ثراء التراث الأمازيغي أيضًا في تنوّع اللباس، فالأمازيغ قسّموا لباسهم حسب العمر وحسب الصفة الاجتماعية، إذ يختلف لباس الفتاة الصغيرة عن الصبية وعن العروس طبعًا، بل أن للمرأة للمطلّقة لباس خاص بها.

جميلة بن عيسى: قبل الثورة الأمازيغي المحافظ على لغته كماسك الجمر وبعد الثورة بتنا نقدّم هويتنا ونتلاقى في الندوات لكن الدولة لا تدعمنا

وعن واقع الأمازيغ في تونس، تعتبر بن عيسى إنّ واقعهم كان مريرًا قبل الثورة بسبب منعهم من الحديث بلغتهم الأم خارج جدران منازلهم، فـ"المحافظ على لغته كماسك الجمر"، حسب تعبيرها، فالأمازيغي هو مطالب بالمحافظة عليها وتعليمها لأبنائه وأحفاد.

ولكن تضيف أنّ هامش الحرية بعد الثورة جعل الأمازيغ "يخرجون هويتهم للعلن ويستطيعون التلاقي في ندوات وملتقيات" غير أنها الجانب السلبي هو عدم دعم الدولة لهذه الأنشطة وهو ما يناضلون من أجله، حسب تأكيدها.

سحر الدالي (موسيقية): نريد أن نرى تونس ملوّنة!

التقى "ألترا تونس" أيضًا الفنانة الشابّة سحر الدالي، وهي ابنة فرقة الراشديّة لكنّها اختارت الموسيقى الأمازيغيّة لتكمل فيها مشوارها الفني وتطلق العنان لموهبتها.

"اخترت هذا النوع الموسيقي منذ دخلت الحراك الذي يدافع على الهوية الأمازيغية كهوية أمّ للهوية التونسية المركبة" وفق قولها، وأوضحت أنها بدأت الغناء باللغة الأمازيغية بترجمة بعض الكلمات لتفهم اللغة حتى أصبحت تكتب وتلحن أغانيها الخاصة.

وقالت سحر إن أول أغنية أسمتها "موطني"، مؤكدة أنها ملتزمة إلى غاية اليوم بغناء الأغاني الملتزمة حول الوطن والهوية والانتماء لتونس، فقط، مضيفة أنّ دراستها للانثروبولوجيا هو ما دفعها للحفر في مبحث الهويّة في تونس.

سحر الدالي: يجب الوعي بثراء الثقافة التونسية التي تجمع العديد من الحضارات والديانات وهو ما يجعل الهوية التونسيّة مركّبة 

وأفادت الفنانة الشابّة أنّها وجدت بعض الصعوبات في اللغة خاصّة تصريف الأفعال وإتقان التكلم بها، ولكنّها وبعد ستة أشهر من التعلم تستطيع اليوم فهمها وتكوين بعض الجمل للتواصل مع الناس كما ساعدها، في ذلك، انخراطها في جمعية تعنى بالتراث الأمازيغي في سوسة.

الموسيقى الأمازيغية هي موسيقى تونسية، وهي تعتمد آليات "البندير"، و"الزكرة" و"البانجو" وهي آلات أمازيغية ولكننا لا نعرفها سوى في تراثنا الشعبي حسب ما نقلته لنا محدّثتنا، وذكرت مثال أغنية "علاش نلوم" التي أعادت تقديمها شرين اللجمي التي قالت إنّها من التراث الشاوي الجزائري، مؤكدة أن اللحن وطريق الإبقاء هي تراث أمازيغي بحت على حدّ تعبيرها.

منزل أمازيغي في قرية مطماطة (دي أوغستيني/ Getty)

 

وذكرت سحر دالي أنها متأثرة ببعض الفنانين من شمال المغرب حيث ارتبط فنهم بالنضال خاصّة وأنّها منطقة مهمشة وغناء أهاليها نابع من روح الشعب وهو ما يفكرها بالثورة التونسية أيام اجتمع الجميع على مبدأ واحد وهو بناء البلاد، على حدّ قولها.

وعن مدى إقبال الشباب لسماع هذه الموسيقى، تقول إنه توجد فئة تهتم بالموسيقى الطارقية الخاصة بأمازيغ الصحراء وهي موسيقى "بلوز" مع كلمات أمازيغية "تحرّك روحهم فيحبون سماعها"، مع وجود فئة أخرى مهتمّة بالقضيّة تبحث عن معاني الكلمات وتترجمها. واعتبرت أنّ الاقبال يظل متوسطًا في تونس خاصّة أنّ ليس هناك اهتمام بهذا التراث ولا يتحصل على الدعم من وزارة الثقافة.

"نحن لم نأتي لنطمس حضارات أخرى، فالتونسي بطبعه أمازيغي وهي الهوية الأم التي يجب أن نفتخر بها وهي جذورنا وأنا أحس بانتمائي للشمال الإفريقي أكثر من انتمائي للشرق الأوسط أو الخليج، ومع العروبة ابتعدنا على البعد الإفريقي" هكذا اختارت سحر أن تعبّر عن أمازيغتها حسب وجهة نظرها.

وأكدت الفنانة الشابة، في ختام حديثها معنا، على ضرورة الوعي بثراء الثقافة التونسية التي تجمع العديد من الحضارات والديانات وهو ما يجعل الهوية التونسيّة مركبة على حدّ تعبيره قائلة: "هويّتنا فسيفساء ونحن نريد أن نرى تونس ملوّنة و-مشكشكة- (ممتزجة)".

 

اقرأ/ي أيضًا:

بهائيو تونس.. بين تجاهل السلطة والتعايش المنقوص

الزريبة العليا: القرية التي لا تُمحى من ذاكرة المجال والتّاريخ