12-فبراير-2019

ناخبان تونسيان يحملان بطاقة ناخب بمناسبة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 1956 (أ.ف.ب)

 

يتواصل الجدل حول دستور الجمهوريّة الثانية بتونس رغم مرور زهاء خمس سنوات على إصداره، وقد اتّخذ هذا الجدل مَلْمَحين: ملمحًا سياسيًا أيديولولجيًا حَفَلتْ به المنابر التلفزيّة والإذاعيّة والحزبيّة، وملمحًا علميًا أكاديميًا قام على مقاربات مختلفة ومناهج متباينة أهمّها المقارنة.

ولئن اعتمد جلّ الباحثين على مقارنةِ الدستور التونسيّ الراهن بدساتير أخرى عربيّة وعالميّة، فقد عمد البعض إلى الاقتصار على مقارنته بدستور 1959، في المقابل وسّع محمّد حسين فنطر، المؤرّخ الجامعي التونسي المختص في التاريخ القديم، مجال المقارنة التاريخيّة من خلال النظر في دساتير تونس من العصر القرطاجي إلى التاريخ الراهن.

اقرأ/ي أيضًا: "الإسلام دينها".. قيس سعيّد يغوص ويحفر في العلاقة بين الدين والدولة

الدستور من الشفويّة إلى التدوين

يرى محمّد حسين فنطر، صاحب كتاب "قرطاج مقاربةُ حضارة"، أنّ تونس قد عرفت ثلاثة دساتير، الأوّل بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، وقد اقترن بمرحلة تطوير التشريعات والمؤسّسات في الحضارة القرطاجيّة، والثاني في القرن العشرين، وقد ارتبط ببناء دولة الاستقلال وإرساء النظام الجمهوري، والثالث في القرن الحادي والعشرين، وقد كان تتويجًا لثورة الحريّة والكرامة.

الرؤساء الثلاثة في المجلس الوطني التأسيسي يوم ختم دستور 27 جانفي 2014 (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

واستند فنطر، في محاضرة كان قد ألقاها بمركز جامعة الدول العربيّة بتونس بتاريخ 8 فيفري/ شباط 2019، في قراءته دستور قرطاج إلى مرجعين أساسيين هما "تاريخ هيرودوت" و"كتاب السياسة" لأرسطو. فقد ضمّا شواهد وأمثلة عديدة تؤكّد رسوخ النزعة التشريعيّة في تونس منذ أقدم العصور، ولئن كان دستور قرطاج أغلبه شفويًا، فُصُوله مبثوثة هنا وهناك، فقد تميّز دستورًا الجمهوريّتين الأولى والثانية بالتدوين والتوثيق ممّا يجعل شرحه وتقييمه أيسر للباحث.

الثابت والمتحوّل من العصر القرطاجي إلى العهد الجمهوري

توجد علامات عديدة تؤكّد تمسّك التونسيين منذ العهد القرطاجيّ بالديمقراطيّة وبالانتخاب سبيلًا لبلوغ السلطة، وفق ما يقدّر فنطر الذي استند إلى شواهد من تاريخ "هيرودوت" تقوم دليلا على ذلك، منها قوله: "إنّ الانتخاب في الحضارة القرطاجيّة كان على أساس القيمة الذاتيّة دون اعتبار النسب"، وكان المترشّحون آنذاك يجتهدون في حملاتهم الانتخابيّة من ذلك اعتماد "حنّون" أحد القادة في حملته الدعائيّة على طيورٍ تنقل رسائله التي تتضمّن ما يمكن نعته بالبرنامج الانتخابيّ، على حدّ تعبير فنطر.

لوحة تصوّر حنّبعل يلقي خطابًا أمام مجلس قرطاج (Getty)

وفصّل فنطر القول في "الهيئات الدستوريّة" التي تمّ إرساؤها في تلك الفترة الموغلة في القدم، منها مجلس الشيوخ ومجلس الشعب. وبيّن القيود التي وُضعت للسلطة التنفيذيّة والسلطة القضائيّة للحدّ من الظلم والاستبداد، وكانت المقدّمة النموذجيّة المعتمدة في إصدار الأحكام وضع عبارة "طبقًا للقانون"، وهو ما يؤكّد على حدّ تعبير الباحث في التاريخ القديم "إعراض القرطاجيين عن مبدأ السلطة المطلقة للفرد".

اقرأ/ي أيضًا: بعد 5 سنوات على صدوره: ما الذي تحقق من دستور 2014؟!

فلم تكن الحقوق الفرديّة والجماعيّة في قرطاج مشروطة بوجود سلطان عادل، وإنّما كانت مكفولة بفضل التشريعات والمؤسّسات، ومن آيات ذلك وجود "مجلس المائة" الذي ينهض بدور رقابيّ، وينظر في القضايا المتّصلة بالتصرّف الماليّ والعسكريّ ويُحاكِم القضاة وقادة الجيش.

وشبّه فنطر دور هذا المجلس بمهامّ الهيئات الدستوريّة المستقلّة، مشيرًا إلى أنّ هذا المجلس قد تمّ حلّه في عهد حنّبعل لأنّه يحدّ حسب أصحاب النفوذ من المبادرة في اتّخاذ القرارات المصيريّة. هذا الإجراء يُحاكي في الإخلال بالنظام الديمقراطي ما أصاب دستور الجمهوريّة الأولى من هنات بسبب بعض التنقيحات، وكان أخطرها على التداول السلميّ للسلطة إقرارُ الرئاسة مدى الحياة للزعيم الحبيب بورقيبة، وفق قول المؤرخ.

تونس بلا دستور من سقوط قرطاج إلى دولة الاستقلال

محمّد حسين فنطر، المتخصّص في التاريخ البونيقي وهو صاحب دكتوراه دولة من جامعة السربون بعنوان "كركوان مدينة بونية بالوطن القبلي"، يجزم أن العمل بالدستور في تونس انتهى منذ الغزو الرومانيّ، وأن هذا "الفراغ الدستوري" تواصل مع ما يسمّيه بـ"الغزو العربيّ الإسلاميّ"، وهو الذي ينكر أن تكون للعرب نزعة تشريعيّة.

محمد حسين فنطر: المقصد الخفي لعهد الأمان عام 1857 و"وثيقة" 1861 هو توسيع نفوذ الأجانب في تونس

ويقدّر أنّ تونس في هذه الفترة قد تردّت في الظلم والتخلّف والانحطاط، وهو لا يعتبر أنّ عهد الأمان (1857) وما سمّاها "وثيقة" 1861 لا يرتقيان إلى مرتبة الدستور، فهما "ينطويان في نشأتهما عن خديعة ومقاصد استعماريّة"، فقد تمّ إرساؤهما في سياقٍ ابتزازيّ بُعيد مقتل يهوديّ، وكان المقصد الخفيّ منهما توسيع نفوذ الأجانب، فهما يستندان على حدّ تعبيره إلى مرجعيّتين هما التنظيمات الخيريّة والقناصل. لكن في المقابل، يعارض البعض خلاصة فنطر بأن "العرب المسلمين أبعد الأمم عن التشريع".

رفض التوريث موقف متأصّل تونسيًا؟

وردت في محاضرة محمّد فنطر قولة مفادها أنّ دستور قرطاج يتضمّن تنصيصًا على رفض الانتخاب على أساس النسب، فتوجّه له "ألترا تونس" بسؤال: هل ترى من خلال هذا الشاهد أن التونسيّ مُهجته السياسيّة تَأْبَى الوساطة والمحسوبيّة والتوريث؟ غير أنّ إجابة فنطر نحت منحى عامّا، فاقتصر ردّه على التذكير بقاعدة عامّة مفادها أنّ "الدساتير والقوانين تشترط قبل كلّ شيء أن نفهم من نحن؟ ماذا نريد؟ وكيف ندرك مقاصدنا؟". كما توجهنا في ذات السياق أيضًا، إلى وزير الخارجيّة السابق أحمد ونيّس بسؤال حول دور الآخر في بلورة دستور الجمهوريّة الثانية في تونس، فذكر بأنّ المجلس التأسيسي كان سيّد نفسه في ضبط الدستور، وأكّد بأنّ الاستفادة من "الآخر" هو مسلك علميّ فكريّ وحضاريّ لا بدّ منه، فالجنوح إليه، حسب رأيه، لا يحدّ من استقلاليّة القرار.

محمد حسين فنطر يحاضر حول التاريخ الدستوري لتونس (أحمد الزوابي/الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

سنة 2019.. ماذا تخبئ لتونس؟

في ذكرى الحبيب بورقيبة.. جروحٌ تونسية باقية