08-فبراير-2022

الأمثلة على "الإفلاس السيادي" أدت إلى بيع قطع من تلك الدول، بالإضافة إلى التفريط في استقلالية القرار الاقتصادي (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

مقال رأي

 

هل تواجه تونس خطر الإفلاس؟! وإن صح ذلك، هل يعلم الرئيس بذلك؟! خاصة أن إجراءاته وخطابه يرتكزان على "الإصلاحات الدستورية والقضائية" ويعكسان تجاهلًا للمشكل المالي بما يمكن أن يعمّق هذا المنهج كما سنرى الصعوبات، وهذا يجعلنا في مواجهة خطر الإفلاس. 

الدول بعكس الأفراد والمؤسسات، غير قادرة على الإفلاس، لكن هذا يعني أنها ستكون مضطرة للتخلي عن أجزاء من سيادتها لتجنب "الإفلاس السيادي"، في الحالتين، نحن إزاء اهتراء فعلي للسيادة، لا يمكن أن تعوضه أي جمل إنشائية عن الكرامة والوطنية

لا تواجه الدول الإفلاس مثلما يواجهه الأفراد أو المؤسسات الاقتصادية، لكن هناك أيضًا شكل للإفلاس يخص الدول، "الإفلاس السيادي" (sovereign bankruptcy). وهنا، مثلما يحصل في حالة الأفراد والمؤسسات، هناك تشابه في الصيغ: "الإفلاس السيادي" يحصل عندما تفشل دولة ما في دفع قيمة دين خارجي (الأصل أو الفائدة) عندما يحين موعد الدفع. 

أشهر مثال قريب، هو فشل الدولة اليونانية في 30 جوان/ يونيو 2015 في أوج الأزمة المالية اليونانية في دفع أحد أقساط دينها الخارجي تجاه صندوق النقد الدولي بقيمة 1.7 مليار دولار. هناك طبعًا الحالة الأرجنتينية، النموذج الأكثر بروزًا في "الإفلاس السيادي"، وتواجه الحكومة الأرجنتينية في هذه الأشهر خطر الفشل في دفع ديونها الخارجية وهي بصدد مطالبة، مثلما فعلت أكثر من مرة فيما قبل، بإعادة هيكلتها. 

في المقابل، الدول بعكس الأفراد والمؤسسات لديها من الموارد والأملاك ما يجعلها بالضرورة غير قادرة على الإفلاس، لكن هذا يعني أنها ستكون مضطرة للتخلي عن أجزاء من سيادتها لتجنب "الإفلاس السيادي"، في الحالتين، نحن إزاء اهتراء فعلي للسيادة، لا يمكن أن تعوضه أي جمل إنشائية عن الكرامة والوطنية. 

ليس من الواضح كيف ستواجه المالية العمومية تحديات الأشهر، بل الأسابيع القادمة، لكن بعد شهر مارس، وتحديدًا منذ شهر أفريل، سنواجه وضعًا صعبًا، وحينها بالتحديد، يمكن أن نواجه خطر "الإفلاس السيادي"

أعلنت ميزانية 2022 وضعًا لم يكن مفاجئًا، ويجد جذوره بلا شك في تراكم طويل الأمد، عندما كشفت الحاجة إلى تعبئة الموارد المالية خاصة من السوق الخارجية. بكل تأكيد، الأصل هو المشاكل الهيكلية في اقتصاد تونسي لا يستطيع حتى الآن خلق الثروة في مقابل تزايد مصاريف الدولة. ولم تستثمر نخبة الانتقال الديمقراطي (2011-2021) في مزايا الديمقراطية لتحقيق التنمية، بل أرست ديمقراطية فاسدة عرقلت أي إمكانية للإصلاح الاقتصادي مقابل أولوية التموقع في الدولة. 

اقرأ/ي أيضًا: قانون مالية 2022: الميزانية بعقلية "العطريّة" والمستهلك دومًا ضحية

وعمقت أزمة الكوفيد المشاكل الهيكلية، ولم يستطع الاقتصاد في المقابل، استعادة مستوى مقبول للنمو. ووصل الوضع الآن إلى مؤشرات خطيرة مع الصعوبات التي تواجهها الحكومة لدفع الأجور، حيث تأخر زمن صرف الأجور وهو ما أدى إلى إثقال كاهل الأجراء بخطايا إضافية من "الكارتالات" البنكية، وقلّل الرئيس في المقابل من المشاكل، وركز ولا يزال على تفسيرات مؤامراتية حصرًا للمشاكل المالية، وتجنب ضمنيًا تحمل المسؤولية. 

ليس من الواضح كيف ستواجه المالية العمومية تحديات الأشهر، بل الأسابيع القادمة. من المعلوم أن المداخيل الواضحة الوحيدة في الأفق تتمثل في المداخيل الضريبية آخر شهر مارس/ أذار (حصيلة الثلاثة أشهر الأولى من سنة 2022). ومن ثمة، يمكن أن نتوقع بالنسبة لشهر فيفري/ شباط، أن الحكومة ستقوم بترتيبات مالية تستعين فيها بودائع داخلية مثلما حصل في شهر جانفي/ يناير، لمواجهة خلاص الأجور. بعد شهر مارس/ أذار، وتحديدًا منذ شهر أفريل/ نيسان، سنواجه وضعًا صعبًا، وحينها بالتحديد، يمكن أن نواجه خطر "الإفلاس السيادي" مثلما شرحته أعلاه. 

قدوم مدير الخزانة الفرنسي "للدعم التقني" لا يخص تقديم استشارة في كيفية تحضير التقرير، بل الأدق في السياسات العامة للتقرير خاصة اتجاه "الإصلاحات"

السبب الرئيسي ليس المصاريف العادية مقابل عدم وجود مداخيل واضحة فقط، بل لقدوم أجل دفع دين خارجي ضخم بقيمة 750 مليون دولار لمؤسسات مالية خارجية خاصة. سيكون ذلك أكبر تحدٍ جديّ أمام الحكومة منذ تشكيلها، وهو ما يفسر إعلان وزيرة المالية أن الحكومة تسعى إلى عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي بحلول شهر أفريل/ نيسان. 

عمليًا، هل قامت الحكومة بما يكفي لعقد اتفاق بحلول هذا الأجل، خاصة أمام طلبات صندوق النقد أن يتم صياغة برنامج "إصلاحات" مفصل تقنيًا وأيضًا يحظى بدعم الأطراف الاجتماعية؟ النسخة المسرّبة من برنامج الإصلاحات، أقرب إلى "إعلان النوايا"، ومن الواضح أنها تحتاج تفصيلًا مرقمًا ودقيقًا. قدوم مدير الخزانة الفرنسي "للدعم التقني" لا يخص تقديم استشارة في كيفية تحضير التقرير، بل الأدق في السياسات العامة للتقرير خاصة اتجاه "الإصلاحات". 

بعد شهر مارس، وتحديدًا منذ شهر أفريل، سنواجه وضعًا صعبًا بسبب قدوم أجل دفع دين خارجي ضخم بقيمة 750 مليون دولار لمؤسسات مالية خارجية خاصة

وما فهمته من مصادر موثوقة، أن زيارة مولان اعتمدت بشكل أساسي على وثيقة جديدة للبنك الدولي تم إعدادها في آخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي بعنوان "كيف يتحرر الاقتصاد التونسي؟" ركزت فيها على مقاربة ليبرالية خارجية لموضوع اقتصاد الريع (أي المشكل تحديدًا وفق هذه المقاربة "الرخَص" وتجاهل دور الشركات الأجنبية في دعم اقتصاد الريع، وأنها المستفيد الرئيسي من تفكيك الدور الوسيط للعائلات الريعية المحلية). أيضًا الموضوع الآخر الرئيسي، هو تقديم تصور في "إعادة هيكلة الدين العمومي" وفق تصور لوكالة التصرف في الدين، بناء على المثال الفرنسي. 

اقرأ/ي أيضًا: بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح

من جهة أخرى، يبدو أن اللقاء الذي جمع الحكومة بالبنك المركزي، والأهم الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الجمعة الماضي، لم يسفر عن تقدم كبير أمام تمنّع الاتحاد الدخول في أي مفاوضات جدية لدعم "برنامج الإصلاحات" قبل المؤتمر القادم للمنظمة المزمع عقده منتصف شهر فيفري/ شباط، كما قال أمينه العام، لكن الأهم بدون إشراكه في الملفات السياسية كما بينت تصريحات عضو المكتب التنفيذي أنور بن قدور. 

لم يستعمل قيس سعيّد سلطاته التشريعية الاستثنائية حسب مرسوم 117 في اتجاه تغييرات وإصلاحات عميقة في التركيبة الاقتصادية، ببساطة لأنه لم يفكر في ذلك، ولأنه لا يوجد من المقرّبين إليه من يفكّر في ذلك

من الواضح أن الرئيس قيس سعيّد لا يعتبر الشأن الاقتصادي مسألة رئيسية، ويعتبر أي مقاربة لحل المشاكل الاقتصادية تأتي أساسًا عبر حلول دستورية (إصلاح النظام السياسي) أو قانونية ("الصلح الجزائي" و"مكافحة الفساد"). وإن كانت طريقة الحكم والإجراءات القانونية في الحوكمة والحكم الرشيد، شروط مهمة وأساسية في مقاربة اقتصادية في المستوى المجرّد، فإنها غير كافية بدون وجود مقاربة واضحة للمسألة الاقتصادية بناء على حلول ملموسة وعملية. 

انسياق الرئيس منذ تجمّع السلطات بين يديه، إلى التركيز على المقاربات الدستورية والقانونية، تأتي في سياق تشبثه "الرسالي" والعقائدي، بحلول طرحها منذ سنوات ويعتبر أنها مداخل الحلول، بمعزل عن التطورات العملية والفعلية للوضع الراهن. ولم يستعمل قيس سعيّد سلطاته التشريعية الاستثنائية حسب مرسوم 117 في اتجاه تغييرات وإصلاحات عميقة في التركيبة الاقتصادية، ببساطة لأنه لم يفكر في ذلك، ولأنه لا يوجد من المقرّبين إليه من يفكّر في ذلك. لا يوجد أي مرسوم رئاسي حتى الآن يخص العوائق الهيكلية للاقتصاد بمعزل عن تصور تلك العوائق وفق أي مدرسة فكرية اقتصادية. 

إذا كان للرئيس حلول أخرى دون صندوق النقد، فلمصلحة من لا يعلن عنها، وكل شهر أصعب مما قبله؟! وهل ستكون شروطها أقل إشكالًا من شروط صندوق النقد؟! 

المشكل الآخر أن مبادراته في الإصلاح الدستوري والقضائي تعقّد الوضع، ولا يمكن اعتبارها إصلاحًا، خاصة في سياق الملف القضائي. الهم الرئيسي لقيس سعيّد، تحقيق مشروعه السياسي-الدستوري. لكن مثلما كررنا مرارًا، الاستفراد بالسلطة ليس نعمة، هو مسؤولية، والتاريخ أثبت أنه نقمة. الزمن السياسي المجرّد للرئيس، أقل أهمية بكثير بالنسبة لأي دولة من الزمن الاقتصادي، والذي لا يمكن أن يستفرد به الرئيس، فضوابطه وقوانين لعبته تتجاوز أصلًا الإطار التونسي. 

حل المجلس الأعلى للقضاء في تناقض مع حزمة شروط الأطراف الدولية المانحة (المتحكمة في صندوق النقد وأيضًا نادي باريس) التي أكدت بطرق مباشرة وغير مباشرة شروطها عبر كلمتي السر في أي "دعم" لتونس في المفاوضات: أولًا، "التشاركية" في خريطة الطريق (والخطوات الفردية للرئيس معاكسة تمامًا، وآخرها حل مجلس القضاء)، وثانيًا، "الإصلاحات" الموجعة حتمًا، والتي لن يمكن أن يتحكم فيها الرئيس وستكون خطيرة اجتماعيًا إن واصل انفراده الحالي (تصريحات قيادة الاتحاد بعد اجتماع الجمعة في القصبة تؤكد أن أهم شريك محتمل للرئيس، رافض لخطواته الانفرادية ولن يقوم بأي خطوة قبل مؤتمره، وسيعزز ذلك الموقف المتصلب للأطراف المانحة). 

أما إذا كان للرئيس حلول أخرى دون صندوق النقد، فلمصلحة من لا يعلن عنها، وكل شهر أصعب مما قبله؟! وهل ستكون شروطها أقل إشكالًا من شروط صندوق النقد؟! 

كان على سعيّد التركيز على الجوهر الحقيقي للسياسة، أي الاقتصاد، فذلك هو المحدد للوضع في البلاد. خطواته الحالية لا تتجاهل فقط الواقع، بل تعمق تركة الديمقراطية الفاسدة التي ورثها، ويمكن أن تكون خطيرة على السلم الاجتماعي وقوت المواطنين

بالمناسبة، ردود الأفعال الدولية خاصة الأمريكية والأوروبية لم تتأخر. الأمريكية ربطت في البيان بين الأمرين: حل المجلس والإصلاحات الاقتصادية. الواضح أن الإدارة الأميركية تعتبر أن الرئيس ليس بصدد التركيز على ما هو "أولوي" أي المسألة الاقتصادية. وبوصف الطرفين الأمريكي والأوروبي أساسًا المتحكميْن في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، فسيكون من الإنكار عدم توقع وضعهما لشروط سياسية في المفاوضات القادمة، وهو ما أكدته البيانات المشتركة لقمة الدول السبع

كرر الرئيس في كلمته التي أعلن فيها حلّ المجلس الأعلى للقضاء السبت الماضي، جملًا سياسية تتعلق بالكرامة والوطنية. لكن هذه المعاني لا تستقيم بالتكرار الإنشائي، بل بالأفعال والسياسات العامة والقوانين، خاصة في مجال الاقتصاد الذي كان على هامش اهتمامه. هل يمكن أن تكون لك كرامة وميزانيتك متوقفة على الدين الخارجي؟! 

اقرأ/ي أيضًا: تقارير دولية تتعرض لخطر "انهيار الدولة" في تونس.. قراءات ومحاولات للفهم

وفي المقابل، الأمثلة الأخرى على "الإفلاس السيادي" أدت إلى بيع قطع من تلك الدول سواء مطارات أو موانئ أو غيرهما بالإضافة إلى التفريط في استقلالية القرار الاقتصادي، والاتباع الحرفي للتوصيات النيوليبرالية للمؤسسات المالية. 

كان على الرئيس التركيز على الجوهر الحقيقي للسياسة، أي الاقتصاد، فذلك هو المحدد للوضع في البلاد. خطواته الحالية لا تتجاهل فقط الواقع، بل تعمق تركة الديمقراطية الفاسدة التي ورثها، ويمكن أن تكون خطيرة على السلم الاجتماعي وقوت المواطنين.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

نادي باريس ينادي.. والنخبة تغرق في السياسة المجردة

قيس سعيّد وصخرة صندوق النقد الدولي