26-يناير-2022

لم يفعل سعيّد إلا استعادة ممارسات النخبة التي استعداها: الغرق في السياسة المجرّدة وتهميش الشأن الاقتصادي-الاجتماعي

 

مقال رأي

 

تختلف القراءات حول ظروف وأسباب "قرارات 25 جويلية" لكن سيكون من الإنكار (denial) الاختلاف في كل الحالات حول أن الوجع الاجتماعي المتراكم إزاء فشل الديمقراطية الفاسدة في الإصلاح الاقتصادي هو أحد الأسباب الهيكلية العميقة لحالة الاحتقان. وكان التسيير الكارثي لأزمة كورونا وخاصة ملف التلقيح وتداعياته التي أدت إلى سقوط ضحايا في الشوارع وغرف الاستعجالي بشكل غير مسبوق، القطرة التي أفاضت الكأس.

وظّف سعيّد الغضب الشعبي تدريجيًا لاستعادة مشروعه الأصلي، استبعاد كل النخبة والتمهيد لتحوير دستوري جوهري من أجل ترك بصمته السرمدية أي "النظام القاعدي"

وظّف الرئيس قيس سعيّد الغضب الشعبي تدريجيًا لاستعادة مشروعه الأصلي، استبعاد كل النخبة والتمهيد لتحوير دستوري جوهري أو حتى دستور جديد من أجل ترك بصمته السرمدية أي "النظام السياسي القاعدي".

اقرأ/ي أيضًا: قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..

في كل الحالات، لم يفعل الرئيس إلا استعادة ممارسات النخبة التي استعداها: الغرق في السياسة المجرّدة وتهميش الشأن الاقتصادي-الاجتماعي. في المقابل، تتوالى المؤشرات على أننا وصلنا إلى المحطة الأخيرة في مسلسل تأجيل ملف الإصلاح الاقتصادي.

نحن على أبواب "الكومسيون المالي" وفقدان أي قدرة مستقلة على حل مشاكلنا. وإذا كان ما يحصل الآن نتيجة 10 سنوات من الإصرار على رفض الإصلاح، فإن الرئيس الآن لم يقم بأي شيء لتغيير هذا التوجه بل هو مستمر فيه.

ما هي السياسة المجردة؟ هي تلك التي ترى في العمل السياسي هندسة شكلانية "قانونجية" للشأن العام. ويستتبع من ذلك أن الترتيبات السياسية سواء الهيكلية (النظام السياسي) أو التكتيكية (التموقع في السلطة في إطار اتفاقات تلفيقية "توافقية") الأهم ولها الأولوية المطلقة على الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.

وهنا تكمن المعضلة، إذ أن الوجود الأصلي للانتفاضة/الثورة كان بالأساس الوجع الاجتماعي والحيف الاقتصادي، فكانت إجابات النخبة المتتالية الهندسة السياسية المجردة. السياسة هي التعبير المكثف للاقتصاد والمجتمع، كما قال في إحدى المرات لينين، تلك مقولة واقعية وليست مصادرة ماركسية فحسب.

إذا كان ما يحصل الآن نتيجة 10 سنوات من الإصرار على رفض الإصلاح، فإن الرئيس الآن لم يقم بأي شيء لتغيير هذا التوجه بل هو مستمر فيه

نشرت جريدة "الفايننشال تايمز"، الصحيفة الأساسية في الموضوع المالي دوليًا، بتاريخ 19 جانفي/يناير الجاري مقالاً لافتًا عنوانه "الدول الأفقر تواجه ارتفاعًا في الديون (دفع فوائد خدماتها) بقيمة 15 مليار دولار"، تضمن خاصة فكرة أساسية بالاستناد إلى تقرير استشرافي للبنك الدولي: "بسبب تراكم الدين العام والآن بسبب أزمة كورونا، تواجه عدد من الدول إمكانية الفشل في دفع ديونها، الوضعية المعروفة تقنيًا بعبارة default".

أشار تقرير الصحيفة إلى أمثلة على هذه الدول "من بين الدول المعنية أكثر من غيرها سريلانكا… المراقبون قلقون أيضاً من وضعية غانا والسلفادور وتونس من بين دول أخرى".

اقرأ/ي أيضًا: قانون مالية 2022: الميزانية بعقلية "العطريّة" والمستهلك دومًا ضحية

تونس إذًا بعد 10 سنوات من ثورة كانت معنية بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي العميق لم تفشل في الاقتراب حتى من توقعات وطموحات الكثيرين بل نحن الآن إزاء فرضية جدية حول العجز العام عن تسيير الدولة ماليًا واقتصادياً. وأصبحنا أيضًا في قائمة "الدول الأفقر".

بالعودة إلى تقرير للبنك الدولي، صدر هذا الشهر عنوانه "الآفاق الاقتصادية العالمية" (Global Economic Prospects) نجد فصلاً خاصًا، لم يوجد في تقارير مماثلة سابقة، عنوانه "تركيز خاص: حل مشكل الدين المرتفع بعد الوباء: الدروس من تجارب سابقة للتقليص من الديون".

هذا الجزء الخاص الذي أتى في عشرين صفحة يعود إلى الصيغ المختلفة لإعادة هيكلة الدين العام والدروس المستفادة مع التركيز على سيناريو "نادي باريس"، التجمع البنكي الأكبر في العالم والمعني أساسًا بإعادة هيكلة الدين العام. التقليد هو أن الدول ترفض إعادة هيكلة الدين فيكون المعني بذلك عادة هذا اللوبي الكبير من البنوك الخاصة الضخمة والتي هي عادة البنوك المقرضة الأكبر في السوق المالية العالمية. وفي تقرير البنك الدولي، تأكيد على همية دوره في مرافقة الدول للقيام بإعادة الهيكلة.

التجارب السابقة واضحة: إن وافق "نادي باريس" على إعادة هيكلة الدين العام لأي دولة فإن ذلك يعني تعليقًا مؤقتًا على استقلاليتها في تسيير شأنها الاقتصادي

اقرأ/ي أيضًا: البنك الدولي يتوقع تفاقم الوضع المالي في تونس إذا لم تُنفذ "إصلاحات" هيكلية

في الحقيقة، التجارب السابقة واضحة: إن وافق "نادي باريس" على إعادة هيكلة الدين العام لأي دولة فإن ذلك يعني تعليقًا مؤقتًا على استقلاليتها في تسيير شأنها الاقتصادي. "الإصلاحات" ستقع حينها لكن من زاوية ومصالح النخبة المالية العالمية، "جراحة" موجعة و"عميقة جدًا"، على حد تعبير ممثل صندوق النقد في تونس جيروم فاشير.

المشاكل المالية الاقتصادية لن تحل أساسًا من خلال الحلول التي يطرحها الآن الرئيس قيس سعيّد، أي  فيض أموال منهوبة يأتي من الخارج (تم وضع أقفال من أطراف مختلفة داخلية وخارجية على ذلك وهذا يستوجب طبعًا تحقيقًا) أو أموال "الصلح الجزائي" (سنرى كيف سيتم تنفيذ القانون ومدى سرعة القضاء ومدى استجابة المعنيين من رجال الأعمال المشتبه في نهبهم للمال العام).

المشاكل المالية الاقتصادية لن تحل أساسًا من خلال الحلول التي يطرحها الآن سعيّد، أي  "فيض أموال منهوبة يأتي من الخارج" أو أموال "الصلح الجزائي"

نحن بحاجة إلى خطة إصلاحية هيكلية عاجلة من خلال تصور محلي بمعزل عن الخلفية الفكرية، سواء كانت نيوليبرالية أو اجتماعية. هنا نحتاج إلى نقاش معمق. الرئيس سعيّد بحاجة إلى استدعاء مجلس اقتصادي واجتماعي موسع والاستماع إلى مختلف الآراء والحلول والحسم باتجاه حل محدد، بما أنه تحمل مسؤولية الدولة والبلاد.

أي أزمات اجتماعية تنتج عن حالة العجز المالي ستعني تعطيل أولوية أولويات سعيّد أي خارطة الطريق، في المقابل أي تجاهل لها من قبل النخبة المعارضة خاصة التي تورطت طيلة 10 سنوات في الديمقراطية الفاسدة ومزيد تأزيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي، سيجعلها في حالة اغتراب كامل عن الشارع الاجتماعي. حان الوقت ليضع الجميع هذا الملف على الطاولة بشكل عاجل، عسى أن يكون أيضًا صيغة من صيغ حل المشكل السياسي.

إنه الاقتصاد يا سادة! أو مثلما قال جيمس كارفيل، مستشار بيل كلينتون، في حملته الانتخابية سنة 1992 والتي انتهت بانتصار كلينتون اليافع والمجهول تقريبًا أمام جورج بوش الخارج من انتصاري الحرب الباردة وحرب الخليج It's the economy, stupid.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

الوجع الاجتماعي.. التهديد الحقيقي لخريطة الرئيس

قيس سعيّد وصخرة صندوق النقد الدولي