21-مايو-2020

يتقاسم عدد محدود من العائلات السوق البنكي في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

عرضنا في مقال سابق الإطار النظري لمفهوميْ"البورجوازية الرثة" و"التنمية الرثة" بما هما تعبير مخصوص للاقتصاد الريعي، ليتعرض هذا المقال إلى تقديم الخطوط العامة وأمثلة على كيفية اشتغالهما في السياق التونسي.

في صيف 2019 وقبل أشهر قليلة من الانتخابات، أثارت تصريحات سفير الاتحاد الأوروبي في تونس باتريس بيرغاميني لدورية "لوموند" الفرنسية الكثير من الجدل بسبب تضمنها إشارة إلى الاقتصاد الريعي واللوبيات المستفيدة منه، واعتباره ذلك المشكل الرئيسي في الاقتصاد التونسي. الحقيقة تصريحات بيرغاميني حرّكتها أساسًا الخلافات مع اتحادي الشغل والأعراف في تونس في سياق مفاوضات الأليكا المعطلة. في حين أن الموضوع تعرض لبحوث أولية معمقة وأغلبها موضوعية متحررة من الدواعي السياسية المصلحية قبل ذلك بكثير، بمعنى آخر ليس هناك حاجة لبيرغاميني حقيقة للانتباه إلى أهمية هذه المسألة.

يستعرض هذا المقال أمثلة على كيفية اشتغال مفهوميْ "البورجوازية الرثة" و"التنمية الرثة" في السياق التونسي

ربما لذلك من الأفضل أن نشير إلى بعض البحوث في السنوات الأخيرة. الباحثة الأمريكية إيفا بيلين (Eva Bellin) يمكن النظر إليها كباحثة طليعية في موضوع الاقتصاد الريعي في تونس في بحوثها منذ بداية التسعينيات وخاصة كتابها سنة 2002 حول "الديمقراطية المعطلة" (Stalled Democracy) في تونس. أيضا الباحثة الفرنسية بياتريس هيبو (Beatrice Hibou) في سلسلة مقالات وكتاب في العشرية الأولى في الألفية الجديدة.

اقرأ/ي أيضًا: في البورجوازية الرثة والتنمية الرثة

وكتب آخرون في الموضوع خاصة بعد الثورة مثل تقرير البنك الدولي سنة 2014 "كل في العائلة" (All in the Family) ساهم فيه خاصة بوب ريجكرز (Bob Rijkers)، ودراسة لاحقة سنة 2016 شارك فيها الأخير مع باحثين تونسيين آخرين وهما حسن العروري وليلى البغدادي، وبلال كشك في مقال في دورية "بولتيكس" سنة 2017، ودراسة لمنتدى البحوث الاقتصادية المصري سنة 2018، كما ساهم في ترويج المفهوم للجمهور الواسع مداخلة للباحث أنيس المراكشي في جانفي 2019. يضاف إلى ذلك السردية التي قدمها الصغير الصالحي حول "الاستعمار الداخلي" (والتي تستوجب نقاشًا منفصلًا بسبب تركيزها على البعد الجهوي). أخيرًا وليس أخرًا، يوجد بحث جديد أنجزه ضياء الدين الهمامي في إطار أطروحة تخرج سنة 2020 في جامعة ويسليان الأمريكية.

 تحدثت أغلب هذه البحوث عن حماية رأس المال من المنافسة ومن ثمة ضمان ريع منتظم. الاقتصاد الريعي هو وضع معطلات بيروقراطية في الاقتصاد لحماية البعض، وهي أقلية من المنتفعين من المنظومة الراهنة وحمايتهم من الأغلبية الباقية. وركز مثلًا على المنظومة البنكية، إذ تبدو في الظاهر مشجعة على التنافس بوجود عدد كبير من البنوك (26 بنكًا)، لكن في الواقع هناك تقاسم للسوق البنكي بين عدد محدود من العائلات. والمؤشر الأول على ضعف المنافسة ينعكس في الاتفاق بين مختلف البنوك على اقتطاعات مرتفعة على أي عملية بنكية من أي نوع وهو ما يؤدي إلى أرباح مرتفعة. يتحوّز مثلًا "بنك تونس العربي الدولي" (BIAT) سنويًا على أرباح هائلة تناسبيًا (تفوق 30 في المائة في الوقت الذي لا تتجاوز أرباح أكبر البنوك الفرنسية 20 في المائة).

تبدو المنظومة البنكية في الظاهر مشجعة على التنافس بوجود عدد كبير من البنوك (26 بنكًا) لكن في الواقع هناك تقاسم للسوق البنكي بين عدد محدود من العائلات

وقد بلغت أرباح نفس البنك هذا العام حسب تقرير المؤسسة 300 مليار من المليمات التونسية. ويجب التذكير هنا أن جزءًا مهمًا منها يعود الى فوائد القروض التي أخذتها الدولة من مجمل البنوك الخاصة والتي وصلت قيمة فوائدها هذا العام والذي يجب أن تدفعه الدولة من دينها الداخلي إلى 1900 مليار، ومؤسسة "بنك تونس العربي الدولي" من أكثر البنوك المستفيدة من ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا الضريبة الاستثنائية على الثروة؟

التعمق أكثر في هوية من يملك أغلب الأسهم في هذه البنوك يوضح خريطة الملكية والعلاقات وكيفية اشتغال الريع فيها. تشير البحوث إلى أننا إزاء مجموعات أو كارتلات عائلية تهيمن على البنوك، ولم يكن ذلك ممكنًا لولا دعم السلطة السياسية خاصة منذ السبعينيات. مثلًا "مجموعة الحرشاني" التي يترأسها رجل الأعمال رشاد الحرشاني (تحديدًا ذراعها المالي "الحرشاني المالية") تملك أسهمًا تصل إلى 30 في المائة في "بنك الإسكان" وهي نسبة قريبة جدًا من نسبة أسهم الدولة (بنك أحدثته الدولة في بداية السبعينيات للتشجيع على الملكية العقارية ويتحكم في عدد ضخم من القروض العقارية).

لكن "مجموعة الحرشاني" نجدها أيضًا بنسب هامة (تصل إلى 6 في المائة) في أسهم بنوك أخرى كثيرة منها "بنك تونس العربي الدولي" و"بنك الوفاق" و"بنك الأمان". وتهيمن "مجموعة الحرشاني" عبر البنك الأخير مثلًا بنسبة تفوق 60 في المائة من أسهم مؤسسة "تونس للإيجار المالي" وهي من أهم المؤسسات التي تقدم خدمات متنوعة للمؤسسات الاقتصادية.

هذه المنهجية أي توزيع نفوذ المجموعات العائلية على أكثر من بنك لا تختص بها فقط "مجموعة الحرشاني" بل هي منهجية عامة تشترك فيها ما يمكن أن نطلق عليه "الكارتيلات البنكية". وربما أشهر مثال هو حالة عائلة المبروك، والتي يترأسها صهر بن علي مروان المبروك، في "بنك تونس العربي الدولي" التي تتحوّز على نصيب الأسد في أسهم البنك الأكثر ربحية من البنوك الخاصة.

منهجية الاستثمار هي اقتسام السوق بما هو مجال ريعي بين عدد من العائلات والتحكم في مجال التمويل لضبط قدرة النفاذ للاستثمار

من بين المجموعات العائلية الأخرى الأساسية الموزعة على أهم البنوك هي مجموعات بن يدر، والبياحي، والمزابي، وبن سدرين، والسلامي، والزرزري، وإدريس، وتامرزيست وعبد الكافي. النقطة الأخرى المهمة أن هذه الشبكة البنكية تمتد إلى شبكة متواصلة معها في قطاعات مختلفة خاصة منها مؤسسات التأمين، ورخص توريد السيارات، والمساحات التجارية الكبرى والنزل.

منهجية الاستثمار هنا هي اقتسام السوق بما هو مجال ريعي بين عدد من العائلات والتحكم من جهة أخرى في مجال التمويل لضبط قدرة النفاذ للاستثمار. وهذا هو جوهر احتكار السوق. وكل هذه اللوحة لم يكن من الممكن أن تتشكل دون "ترخيص" السلطة ورعايتها. وتاريخ تشكلها هو ما سنتناوله في مقالنا القادم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"خلق لينتهز".. مبدأ تجاري أم منوال اقتصادي؟

من سيقود عالم ما بعد الكورونا؟