31-مايو-2019

كلّ السيناريوهات ممكنة طالما أنّ حرب الملفات المخبأة في أدراج القصبة لم تضع أوزارها نهائيًا (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

مقال رأي

 

تطوّرات مثيرة تعرفها الساحة السياسيّة والبرلمانية التونسية في الأيام القليلة الماضية. مستجدات متسارعة تأتي في أعقاب إعلان نبيل القروي المدير الفعلي لقناة نسمة والعضو السابق في حركة نداء تونس وأحد مهندسي الفوز الانتخابي لهذا الحزب وزعيمه الباجي قائد السبسي خلال الانتخابات الماضية، عزمه الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة مع إمكانية تقديم قائمات في السباق التشريعي.

قرار لم يكن مفاجئًا للرأي العام الوطني إذ أنّ كلّ المؤشرات كانت تصب في خانة هذا التوجه الذي بدا واضحًا للعيان منذ فترة لاسيما في ظلّ النشاط الذي دأب القروي على القيام به تحت يافطة "العمل الخيري" في إطار جمعية "خليل تونس" مستغلًا في ذلك قناته للدعاية الممجوجة التي لا تمت بصلة بأخلاقيات وضوابط المهنة الصحفيّة.

يمثل المقترح الحكومي المتعلق بتنقيح القانون الانتخابي طعنة أخرى لمسار الانتقال الديمقراطي في حال تمريره

اقرأ/ي أيضًا: انتصاب فوضوي.. الشعبوية في مواجهة منظومة الحكم

إزاء هذا المعطى، لم تتأخر حكومة يوسف الشاهد كثيرًا للردّ على أحد أشدّ أعدائها في المشهد الإعلامي والسياسي الحالي فسرعان ما تقدمت بمقترح لتنقيح القانون الانتخابي بشكل يحول دون تمكن القروي من الترشح كما هو الحال بالنسبة لباعثة جمعية "عيش تونسي" ألفة التراس التي اختارت نفس النهج المنافي لأعراف العمل السياسي من أجل تحقيق طموحها المتمثل في خوض تجربة الانتخابات الرئاسية المقبلة مستعينة في ذلك بأموال ضخمة لا نعرف حجمها بالتدقيق ومأتاها بالتحديد وهي التي أنفقت في أعمال سوّقت على أنّها ذات صبغة اجتماعية وثقافية.

ودون التنقيص من خطورة ما يقوم به القروي والتراس حيال مصداقية العملية الديمقراطية عشيّة الانتخابات المرتقبة والتي ستحدّد بالضرورة مستقبل البلاد في خضم تحديات اقتصادية واجتماعية عويصة ومعقدة، يمثل هذا المقترح الحكومي طعنة أخرى لمسار الانتقال الديمقراطي في حال تمريره بالنظر إلى أنّه قدّ على المقاس بشكل غير مقبول.

مقترح تشريعي من شأنه مزيد تشويه الحياة الديمقراطية في تونس بطريقة تذكرنا بما كان يقوم به الرئيس السابق زين العابدين بن علي في وقت سابق زمن الاستبداد حينما كان يشرّع لتحويرات دستورية وقانونية بهدف البقاء في السلطة وقطع الطريق على منافسيه من المعارضين أمثال أحمد نجيب الشابي ومنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر لمنعهم من الترشح ومنافسته في الانتخابات الرئاسية ذات النسب التسعينية رغم أنّها كانت معلومة النتائج مسبقًا.

إنّ هذا التوجه الحكومي المدعوم أساسًا من كتلة الائتلاف الوطني المرتبطة بحزب رئيس الحكومة، تحيا تونس، يؤشر على عمق الأزمة الأخلاقية التي وصلت إليها البلاد. فحكومة الشاهد التي تعدّ أكثر حكومة ظلّت ثابتة في دواليب الحكم بالقصبة منذ الثورة على امتداد زهاء 3 سنوات ارتأت اليوم الدفع نحو تحوير القانون الانتخابي بهذه الشاكلة اللاديمقراطية التي لا يمكن تبريرها رغم الانفلاتات الخطيرة الحاصلة في الضفّة المقابلة.

إخفاق سياسي وتشريعي وقصور على خلق مناخ يتسم بتكافؤ الفرص بين المتنافسين المرتقبين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية يحسب على حكومة الشاهد وحزبه الذي يواجه سيلًا من الاتهامات بوجود محاولات حقيقية لتوظيف أجهزة الدولة وأدوات السلطة خدمة لأجندات شخصية وفئوية ضيّقة. وما أدل على ذلك ما حصل مؤخرًا في الانتخابات البلدية الجزئية بسوق الجديد في ولاية سيدي بوزيد وفق الهيئة الفرعية للانتخابات بالجهة التي رصدت تجاوزات لا تختلف عمّا كان يقوم به حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل في مثل هذه المناسبات.

هذا التوجه الحكومي المدعوم أساسًا من كتلة الائتلاف الوطني المرتبطة بحزب رئيس الحكومة يؤشر على عمق الأزمة الأخلاقية التي وصلت إليها البلاد

لقد بات المشهد السياسي الآني في سياق السباق الانتخابي المحموم أشبه بالكوميديا السوداء. فحزب الشاهد الذي يعتبر من شقوق حركة نداء تونس التي استفادت أيّما استفادة من قناة نسمة خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية، أضحى من غلاة المدافعين عن أخلقة العمل السياسي عبر الدعوة للفصل بشكل صارم لا هوادة فيه بين الإعلام والسياسة من جهة والعمل الخيري والنشاط الانتخابي من جهة أخرى. سكيزوفرينيا بأتم معنى الكلمة تنمّ على تردي الأخلاق السياسية لدى النخب التي تحكم البلاد بمنطق "حلال علينا، حرام عليكم". سلوك سياسي في حقيقة الأمر لا نجد له صدى سوى في الجمهوريات "الموزية" التي تكون فيها السلطة حكرًا على مجموعات صغيرة ثريّة وفاسدة لا تتوانى عن التلاعب بالقوانين والدساتير من أجل المحافظة على مصالحها وامتيازاتها.

اقرأ/ي أيضًا: عيش تونسي.. عنوان جديد للتحيّل السياسي

وبالعودة إلى لبّ الموضوع المتعلق بمشروعية المقترح الحكومي من حيث المضمون والتوقيت، نلاحظ تعارضًا كبيرًا مع المعايير الدولية التي توصي بضرورة عدم المساس بالقانون الانتخابي خلال السنة الانتخابية وهو ما تؤكده الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نفسها على لسان أعضائها. فكيف يمكن تفسير هذا الارتباك الحكومي الذي يحاكي خبط العشواء؟ هل أصبح نبيل القروي و"مشروعه السياسي" خطرًا حقيقيًا على منظومة الحكم الحالية؟ وهل يمكن أن تكون ألفة التراس منافسًا جديًّا في الانتخابات الرئاسية القادمة؟

لا شكّ في أنّ السلطة الحاكمة متخوفة من إمكانية أن تتحوّل نتائج عمليات سبر الآراء رغم كل ما يحفّ بها من تشكيك وتقليل من أهميتها، إلى واقع ملموس عبر صناديق الاقتراع. فمن الواضح أنّ المال السياسي و"النشاط الخيري" فضلًا عن طبيعة الخط التحريري لقناة نسمة سيكون لهم جميعًا تأثير في الانتخابات المقبلة لا نعلم علم اليقين سقف حجمه المرتقب. غير أنّ الأهم من كلّ هذا هو انكشاف حقيقة مؤادها أنّ يوسف الشاهد رئيس الحكومة الحالي معني بشكل أو بآخر بالترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة أي أنّه قد يكون العصفور النادر الذي تبحث عنه حركة النهضة في إطار صفقة سياسية شاملة تقوم على ترتيبات مسبقة لاقتسام كعكة السلطة في الفترة القادمة بالرغم من أنّه لم يعلن عن ذلك صراحة إلى حدّ الآن.

قد يكون الشاهد العصفور النادر الذي تبحث عنه حركة النهضة في إطار صفقة سياسية شاملة تقوم على ترتيبات مسبقة لاقتسام كعكة السلطة في الفترة القادمة

وإلاّ كيف يمكن أن نفسر تجاسر الحكومة وبعض الأحزاب الداعمة لها على تبني هذا المشروع المتعلق بتنقيح القانون الانتخابي رغم خطورته على مستقبل العملية الديمقراطية التي تحتاج إلى تحصين حقيقي يتجاوز الحسابات الضيّقة ويشمل أساسًا مجالات الإعلام والمجتمع المدني والأحزاب السياسية عمومًا لاسيما على مستوى شبكات التمويل والعلاقات الداخلية والخارجية المشبوهة؟

إنّ هذا التمشي لا يعدو أن يكون سوى شكل من أشكال العبث السياسي كما كان الحال خلال فترة صياغة الدستور الذي فصلت فيه فصول على مقاس أشخاص وأحزاب بعينهم دون مراعاة ضوابط وشروط كتابة مثل هذه النصوص القانونية العليا التي توضع من أجل المصلحة العامة ولفائدة الأجيال المقبلة ضمن سيرورة تاريخية تتجاوز الرهانات الحزبية والشخصية الظرفية. وضع مقلق يجعلنا إزاء تساؤلات جمّة حول آفاق التجربة الديمقراطية في تونس طالما يتمّ التعامل مع القوانين والتشريعات حسب النزوات والأهواء التي لا علاقة لها بمصالح الشعب والمقتضيات الموضوعية المنافية لكلّ ممارسة انتقائية سواء تعلّق الأمر بالإعلام أو النشاط الجمعياتي أو الشأن الانتخابي.

بيت القصيد، من المؤكد أنّ يوسف الشاهد سيكون إحدى أهم الأوراق الانتخابية التي قد تعوّل عليها منظومة الحكم الحالية وبالخصوص حركة تحيا تونس للبقاء بالسلطة بأي ثمن حتّى وإن كان ذلك على حساب نزاهة وشفافية العملية الانتخابية. وفي حال سقوط هذا المقترح الحكومي المثير للجدل في علاقة بالقانون الانتخابي وهو السيناريو الأقرب فإنّ المعركة الانتخابية ستكون طاحنة وكلّ الأسلحة مشروعة فيها لتصفية الخصوم من أجل عيون يوسف الشاهد وحلفائه في الحكم.

وضعية غير مستبعدة قد تصدق معها نبوءة الكاتب والمحلل السياسي الصافي سعيد الذي صرّح منذ أشهر خلت في أحد حواراته الإذاعية ولو بنبرة ساخرة تستبطن شيئًا من الجدّ أنّ يوسف الشاهد في حال ما قرّر الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة فإنّه لن يسمح لأيّ كان بأن يعترض طريقه، مشبهًا إياه بالمشير عبد الفتاح السيسي فرعون مصر الجديد. فكلّ السيناريوهات ممكنة طالما أنّ حرب الملفات المخبأة في أدراج القصبة لم تضع أوزارها نهائيًا وأنّ الساعة الصفر لم تحن بعد...

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل قيس سعيّد مرشّح شعبوي؟ ارموا حجارتكم!

"دين أبوهم إسمو إيه؟"