29-مايو-2019

أعلن نبيل القروي مؤخرًا نيته الترشح للرئاسية

 

مقال رأي

 

ستة أشهر هي المدة التي لا تزال تفصلنا عن موعد الانتخابات الرئاسية، تسبقها انتخابات تشريعية من المزمع إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، استحقاقات ستكون مفصلية في تاريخ البلاد في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة تعصف بها وصراعات سياسية عمّقت من حدّة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تحفّ طريق بلد يترنح في مسار انتقالي صعب بحثًا عن استقراره.

وفي ظلّ تعقيدات المشهد السياسي، أعلنت عدة شخصيات عن نيتها الترشح للاستحقاق الرئاسي المقبل المزمع إجراؤه يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، بعضها شخصيات لها تجربة سياسية أو نضالية وأخرى لم تخض ميدان السياسة بشكل مباشر على الأقل.

طغت على الساحة السياسية منذ ثورة 2011 صراعات سياسوية قوامها حسابات شخصية ومصالح ضيقة على حساب المصلحة العليا للبلاد

اقرأ/ي أيضًا: هل قيس سعيّد مرشّح شعبوي؟ ارموا حجارتكم!

وبالتوازي مع ذلك، طفت على السطح ظواهر سياسية نجحت في فرض تموقعها نتيجة الإحباط الذي يشعر به جلّ التونسيين والخيبة التي تعتري عددًا هامًا منهم إثر فشل المنظومة الحاكمة في تحقيق وعودها الانتخابية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والارتفاع المشطّ لأسعار مختلف المواد الاستهلاكية وتراجع المقدرة الشرائية، فضلًا عن التدهور المتواصل لسعر صرف الدينار التونسي.

وعلاوة على ذلك، طغت على الساحة السياسية منذ ثورة 2011 وبشكل خاص بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، صراعات سياسوية قوامها حسابات شخصية ومصالح ضيقة على حساب المصلحة العليا للبلاد، وسيطرت على المشهد السياسي وحتى الإعلامي الغوغاء والفوضى ونقاشات عقيمة لا تخدم المواطن بل إنها لا تثير اهتمامه لكنها تنجح في خلق جدل لا ينتهي. وكان لعدد هام من السياسيين دور بارز في حرب الغوغاء الدائرة فانتشرت ثقافة التصريحات والتصريحات المضادة والاتهامات المتبادلة بعيدًا عن لغة الحوار والنقاش الهادئ والاختلاف البناء القائم على برامج وحجج دامغة.

كلّ هذه العوامل وغيرها ساهمت في خلق شعور عام لدى عامة الشعب بالنفور من السياسة والسياسيين بمختلف انتماءاتهم وروافدهم الفكرية والإيديولوجية، الأمر الذي دفعهم إلى مقاطعة الانتخابات، الأمر الذي تجلّى في التراجع الملحوظ في نسب الإقبال على التصويت خلال الانتخابات البلدية لسنة 2018، فضلًا عن ما تظهره أرقام عمليات سبر الآراء التي تقوم بها عدة شركات والتي تظهر نية كبيرة للعزوف لدى عدد هام من التونسيين.

لعلّ ما يميّز هذه "الظواهر السياسية" هو خطابها القائم على مناهضة المنظومة الحالية، بشقيها الحاكم والمعارض

ولئن كان هذا العزوف واختيار عدد كبير من المواطنين الصمت في مواجهة الرداءة المسيطرة أمرًا قابلًا للتفسير وحتى التبرير، فإن غياب حلول ناجعة تسهم في جذب هذه الأغلبية الصامتة وإقناعها ببرامج اقتصادية واجتماعية واقعية من شأنها تقديم حلول حقيقية للمشاكل التي يعانون منها، أمر لا يمكن قبوله نظرًا لتداعياته الخطيرة والتي تتجلّى ترجمتها بشكل واضح من خلال صعود نجم ظواهر سياسية، يمكن تشبيهها بعمليات انتصاب سياسية فوضوية، يعتمد قوامها على شعبوية فجة وخطاب سياسوي خال من أي برنامج واقعي لكنه قادر على إغراء الجماهير المحبطة التي تبحث عن بصيص أمل يخرجها من نفق بدأ يطول ظلامه، وذلك في ظلّ عجز الأحزاب الحاكمة عن تلبية مطالب الشعب الدنيا وغرقها في مشاكل حزبية وحسابات سياسوية، وعدم قدرة الأحزاب المعارضة على خلق خطاب مقنع يقوم على برامج واضحة ومحددة من شأنها المساهمة في حلحلة الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد.

ولعلّ ما يميّز هذه الظواهر هو خطابها القائم على مناهضة المنظومة الحالية، بشقيها الحاكم والمعارض، وإن كان ذلك من وجهات نظر مختلفة. فالصفة المشتركة بين مختلف هؤلاء المترشحين المفترضين هو أنهم معارضون للمنظومة بكليتها وشموليتها ويعتمدون في طرحهم على الدعوة إلى إسقاط هذه المنظومة. لكن مقارباتهم تختلف عندما يتعلّق الأمر بالمنظومة الجديدة التي يقترحها كلّ واحد منهم. فنجد من يدعو إلى إسقاط كامل المنظومة التي أنتجتها الثورة بل ويدعو صراحة إلى إلغاء دستور 2014 وتعويضه بآخر، وهذا الخطاب هو ما يميّز رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي.

وعلى الضفة المقابلة، يبرز خطاب يرفض المنظومة الحالية ولكنه يدعو إلى استكمال مسار الثورة، خطّ يمثله أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد الذي أعلن عن نيته الترشح للرئاسية وعبّرت مبادرات شبابية عن دعمها له.

وفي سياق متّصل، اختار البعض اللعب على وتر النفور والإحباط من المنظومة الحاكمة والشعور بالخيبة من الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة، فعمل على الاقتراب من الجماهير الشعبية غير المتابعة للشأن العام والتي تجهل الكثير من الكواليس السياسية ولا ترى أي أمل في السياسيين.

خطاب نبيل القروي لا يعدو أن يكون خطابًا مجردًا من أي مضمون واقعي قائم على شعارات فضفاضة

فكان لرجل الأعمال وباعث القناة التلفزية الخاصة "نسمة"، نبيل القروي، أن يستغلّ الفراغ السياسي وضعف الدولة وعجزها أحيانًا عن تطبيق القانون، واستعمال وفاة ابنه خليل ليتقرّب إلى المواطنين المنتمين إلى الطبقة الفقيرة من خلال أعمال خيرية كان يحرص على تصويرها ونقلها للمشاهد عبر قناته التلفزية، مصحوبة بدعاء المحتاجين ومعتمدًا على خطاب يجعله قريبًا منهم، فكثيرًا ما كان يردّد عبارة "أنا والدكم" أو "أنا شقيقكم".

هذه "الأعمال الخيرية" المصوّرة والتي تابعها آلاف المشاهدين جعلت لنبيل القروي مكانة كبيرة وخلقت حوله "حاضنة شعبية" جعلته يتصدّر مراتب متقدمة في عمليات سبر الآراء الأخيرة وذلك بعد استراتيجية اعتمدها القروي لإقناع الجماهير أنه الرجل المناسب للقضاء على الفقر، وهو ما تعهد به في خطابه الذي أعلن فيه عن نيّته الترشح.

اقرأ/ي أيضًا: صهوة بورقيبة في المزاد الانتخابي..

خطاب نبيل القروي لا يعدو أن يكون خطابًا مجردًا من أي مضمون واقعي قائم على شعارات فضفاضة فيها نصيب كبير من الشعبوية وخبث سياسي من رجل أحسن استغلال قناته التلفزية للترويج لنفسه كمنقذ التونسيين من الفقر مقدمًا نفسه كوالدهم، في ظلّ تجاهله للقانون ولكراس الشروط المتعلق بإحداث القنوات التلفزية والذي يمنع توظيف قناة تلفزية للدعاية والترويج لشخص صاحبها. وما يزيد الطين بلّة هو اعتماد القروي على أساليب تعتمد التضليل والاستثمار في الفقر والبؤس في ظلّ عجز الدولة عن تطبيق القانون.

وبخطاب شبيه إلى درجة ما بالخطاب الشعبوي لنبيل القروي، نجحت حملة "عيش تونسي" في جلب اهتمام عدد كبير من التونسيين خصوصًا بعد الحملة الإعلامية المركزة والتي شاركت فيها أسماء ووجوه فنية، لأسباب لا ندركها ولا نعرف ما إذا كانت خلفياتها مادية أو قائمة على اقتناع. فالحملة التي انتشر شعارها في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وعلى مساحات هامة في عدد من القنوات التلفزية، لم تأت بأي جديد سوى وثيقة يقال إنها تمثل طموحات التونسيين وتطلّعاتهم، وتحتوي خطوطًا عريضة لا تقدّم أي جديد بل تعكس رؤية غالبية التونسيين لواقعهم دون أن تطرح أي حلول.

الشعب الذي ملّ وتعب من فشل منظومة جرّبت الحكم لثماني سنوات دون أن تحقق الشيء البسيط من وعودها، لن يتحمّل خيبة أخرى

هذه الظواهر التي تقدّم نفسها على أنها مناهضة للمنظومة القائمة كلّها، لم تطرح إلى اليوم برنامجها الكامل والشامل الذي تنوي تنفيذه لإخراج البلاد من أزماتها ومن عنق الزجاجة، كما يحلو للبعض أن يصفها، ولكنها في المقابل تنجح في استقطاب أغلبية لم تجد في الأحزاب من يمثلها وفقدت ثقتها في كلّ مكونات المشهد السياسي الحزبي بشكل خاص.

كما كان لصعود القائمات المستقلة في الانتخابات البلدية التي جرت في ماي/ أيار 2018 على حساب القائمات الحزبية دور هام في حث أصحاب هذه المبادرات الخاصة على الانتصاب. ولكن ما لا يدركه ممثلو هذه الظواهر هو أن خطاباتهم الشعبوية ووعودهم الانتخابية الزائفة ستقود في نهاية المطاف إلى نهايتهم بل وإلى عواقب وخيمة لا يُحمد عقباها على البلاد، فالشعب الذي ملّ وتعب من فشل منظومة جرّبت الحكم لثماني سنوات دون أن تحقق الشيء البسيط من وعودها، لن يتحمّل خيبة أخرى وردّة فعله على فشل الظواهر السياسية المعادية للنظام قد تودي بالأخضر واليابس في انتفاضة مفاجئة قد تهزّ عرش الفائز في الانتخابات المقبلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عيش تونسي.. عنوان جديد للتحيّل السياسي

"دين أبوهم إسمو إيه؟"