25-يناير-2019

صدر دستور الجمهورية الثانية يوم 27 جانفي 2014 (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

يحيي التونسيون يوم 27 جانفي/ كانون الثاني 2019، الذكرى الخامسة لدستور الجمهورية التونسية الثانية الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي سنة 2014 بعد سنوات من التجاذبات والصراعات والصعوبات التي خطّت مسار صياغته خصوصًا مع الاغتيالات السياسية التي شهدتها البلاد.

وقد مثّل دستور 2014 منعرجًا هامًا في تاريخ تونس خاصة أنه نصّ على إقرار مبادئ حقوق وحريات عامة وفردية طالما ناضلت من أجلها أجيال من الحقوقيين والسياسيين في تونس. وقد أشاد العالم بهذا الدستور الذي جاء متقدمًا على جلّ الدساتير العربية وحتى أنه نافس دساتير بعض الدول الغربية.

قيس سعيّد لـ"ألترا تونس": ما أجمل نصوصنا الدستورية منها خاصة، ولكن ما أبعد الممارسة عن النصوص التي يفترض أنها تنظمها

اقرأ/ي أيضًا: عرقلة الهيئات القضائية والدستورية في تونس.. هل يسعى السبسي للانفراد بالسلطة؟

ولكن الدساتير، مهما كانت متقدمة ومتبنية لمبادئ الحقوق والحريات، لا فائدة ترجى منها إذا لم تصاحبها منظومة تشريعية تكمّلها ويتمّ من خلالها تطبيق ما جاء في فصولها، علاوة على حاجتها إلى ممارسات تعكس تقدّم المنظومة الحاكمة والتزامها بما جاء في الدستور.

واليوم، بعد مرور خمس سنوات على المصادقة على دستور الجمهورية الثانية، يبدو أن الواقع التشريعي والممارساتي مازال بعيدًا عما خطّه مؤلفو دستور 2014، في ظلّ عدم تركيز الهيئات الدستورية التي نصّ عليها وعدم تطوير عدد هام من القوانين التي لا تزال متأخرة مقارنة بالدستور.

وفي هذا السياق، يؤكد أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد، في حديث لـ"ألترا تونس"، أن المقاربة القانونية الخالصة لا يمكن أن تؤدي إلى إجابة موضوعية بخصوص ما تحقق من الدستور وما بقي حبرًا على ورق، موضحًا أنه لا يمكن الإحاطة بكافة الجوانب باعتبار أن القضية في تونس وفي سائر البلاد العربية عمومًا لا تتعلّق بالنصوص وإن كانت القواعد القانونية مهمة. ويقول "فما أجمل نصوصنا الدستورية منها خاصة ولكن ما أبعد الممارسة عن النصوص التي يفترض أنها تنظمها".

ويبيّن سعيّد أن هذا الدستور الذي يوصف بالجديد جاء بجملة من الأحكام بعضها جديد وبعضها معروف ومألوف في عديد الدساتير الأخرى مضيفًا أنه كما وضع دستور 1959 على المقاس وضع الدستور الجديد على مقاس أكثر من طرف. وذكّر أن الراحل علي البلهوان المقرّر العام لدستور 1959 قال آنذاك "إنما وضعنا هذا الدستور كلباس للجسد".

ويتابع موضحًا أنه في سنة 2014 لم يكن هذا الجسد واحدًا بل وضع الدستور على مقاس كلّ طرف حتى يجد كلّ واحد نصيبه عملًا بمقولة "تريد حكمًا اعطني مقابله حكمًا تريد فصلًا اعطني فصلًا في المقابل". ويشير في هذا الصدد إلى أنه على سبيل المثال، والذي قد يكون مثلًا يختصر كلّ تناقضات الدستور والعقلية التي سادت في تلك الفترة، الفصل السادس من الدستور المتعلق برعاية الدولة للدين والحرية والضمير، وفق تصريحاته.

ويبرز محدثنا أن الدساتير التي توضع في بلادنا فضلًا عن أنها توضع كالحذاء على مقاس من يلبسه، توضع لإضفاء مشروعية على الحكم مبينًا أن الدستور ليس أداة لتحقيق المقاصد التي وُضع من أجلها بقدر ما هو أداة لإضفاء مشروعية وهمية كاذبة على الحكم.

ويضيف "يحتفلون بذكرى وضع هذا النص الدستوري والاحتفال في ذاته يخفي هذه العقلية السائدة والمتمثلة في البحث عن مشروعية يستند إليها الحاكم"، قائلًا "ولأن اللباس هذه المرة لم يوضع لجسد واحد بل لجسدين اثنين على الأقل بدأ الصراع منذ البداية عند إرساء المؤسسات التي نصّ عليها الدستور".

ويوضح أن هذه المؤسسات التي توصف بـأنها "مستقلة" تتم وضع النصوص التطبيقية انطلاقًا من نفس التصوّر القائم على "تريد نصيبًا فيها لي أيضًا في المقابل نصيب مثلك" مؤكدًا أنها لو كانت مستقلة لما حصل هذا الصراع ولما تأخر هذا الإرساء.

قيس سعيّد لـ"ألترا تونس": الفكر السياسي لم يتغيّر للأسف ولا يمكن الحديث عن دستور جديد في ظلّ فكر سياسي قديم

ويلفت في هذا الإطار إلى أنه من بين الأمثلة وليست أقلها خطورة وأهمية المحكمة الدستورية التي نصّ على إنشائها الدستور ونظمها القانون منذ ديسمبر/ كانون الثاني 2015 وهي مازالت موضوع تحالفات وائتلافات بل موضوع مقايضات، مبينًا أن كلّ طرف يريد أن تكون له السيطرة عليها وكلّ طرف يريد أن تكون له أو أن تكون هذه المحكمة أداة بيده تحسبًا ليوم ذي مطربة خاصة وأن دورها لن يكون هيّنًا وهي التي ستراقب دستورية القوانين وتشارك بذلك في الأعمال التشريعية، على حدّ تعبيره.

ويردف أستاذ القانون الدستوري بالقول إنه عند وضع النصّ المنظّم للمحكمة الدستورية اختار من وضعه أن يلقي مجلس نواب الشعب بأوراقه ويكشف ما بيده ثمّ يتلوه المجلس الأعلى للقضاء ليكشف إثر ذلك رئيس الجمهورية أوراقه فيلقي بعصاه لتلتهم ما كان ألقي من قبل الطرفين الأول والثاني، مضيفًا "فلكلّ فيها مآرب واضحة ولكلّ فيها مآرب أخرى".

ويشدد قيس سعيّد على أن الفكر السياسي لم يتغيّر للأسف ولا يمكن الحديث عن دستور جديد في ظلّ فكر سياسي قديم مؤكدًا أن الدستور الجديد هو الذي يقوم على فكر جديد أما التواريخ وذكرى الميلاد أو ذكريات الميلاد فهي للاحتفال بذكرى الهدف منها مرّة أخرى إضفاء مشروعية وهمية على حكم أو أسلوب في الحكم تجاوزه التاريخ، حسب قوله.

أما على صعيد الحقوق والحريات الفردية، فيبدو أن تطبيق الدستور في هذا المجال قد حقّق بعض الخطوات التي رغم أنها مازالت محدودة نسبيًا، إلا أنها تعدّ إنجازات هامة بالنسبة لبلد يعيش سنواته الأولى في الانتقال الديمقراطي.

اقرأ/ي أيضًا: حرية الضمير في تونس.. حبر على ورق الدستور؟

وحيد الفرشيشي لـ"ألترا تونس": هناك نصوص صدرت تتوافق مع ما جاء في الدستور الجديد ولكن بعض القوانين كانت منقوصة في حين لم تصدر نصوص أخرى

ويوضح أستاذ القانون العام وعضو الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية وحيد الفرشيشي، في تصريح لـ"ألترا تونس"، أنه " لو نظرنا إلى دستور 2014 فإنه كان فارقًا بالنسبة لدستور 1959" مبينًا أن الدستور الجديد خصّص بابًا كاملًا للحقوق والحريات وهي أوّل مرّة يتحدث فيها دستور في تونس صراحة على الحريات الفردية.

ويضيف الفرشيشي أن الدستور يبيّن أنه على الدولة الالتزام بحريات المواطنين الفردية والعامة وأن هناك إقرارًا دستوريًا بهذه الحقوق والحريات وأن ما يُطرح هو كيفية ترجمة هذا الإقرار.

ويبيّن أن الملاحظ هو أن هناك نصوصًا صدرت تتوافق مع ما جاء في الدستور الجديد ولكن بعض القوانين التي وضعت كانت منقوصة في حين أن هناك نصوصًا كان يجب أن تصدر ولكن ذلك لم يقع.

ويبرز أن النصوص التي صدرت منذ سنة 2014 والتي تتوافق مع الدستور تتمثل في قوانين وهي قانون منع الاتجار بالبشر الذي صدر سنة 2016 وهو يعدّ نصًا مهمًا جدًا لحماية الحقوق والحريات وكسبًا هامًا للجمهورية لمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته.

أما القانون الثاني في هذا الإطار فقد صدر في 2017 ويتعلّق بمناهضة العنف ضدّ المرأة والذي يمثل بدوره نصًا مهمًا جدًا والذي جاء ليبيّن أن الأصل هو المساواة الفعلية والتامة خاصة أنه جرّم كلّ انتهاك مادي ونفسي وجنسي وجرّم كلّ أشكال التمييز ضدّ المرأة، إلى جانب النصّ المتعلّق بإلغاء المادة 227 مكرّر من المجلة الجزائية الذي كان يبيح زواج المغتصب من ضحيته.

هذا بالإضافة إلى القانون الذي وقع إكراره في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 المتعلّق بمنع وتجريم الميز العنصري، فضلًا عن إقرار يوم 23 جانفي/ كانون الثاني من كلّ سنة عيدًا وطنيًا لإلغاء العبودية والرق وذلك في إطار تكريس تونس من أول الدول التي ألغت العبودية سنة 1843، مشيرًا إلى أن قانون تجريم الميز العنصري نصّ هام جدًا وجاء ليقرّ حقوق فئة اجتماعية مهمشة في حقوقها.

كما صادقت تونس في مارس/ آذار 2016 على قانون حق النفاذ للمعلومة وهو نصّ على غاية من الأهمية باعتبار أنه إذا لم نصل للمعطيات لا يمكن الحديث عن حقوق وحريات، وفق محدثنا الذي لفت في الإطار ذاته إلى أنه بالتزامن على المصادقة على هذه القوانين صادقت الجمهورية التونسية على معاهدات دولية التي تمثل جزءًا من القانون التونسي والتي من شأنها أن تعزّز الحريات الفردية أهمها المعاهدة عدد 108 لمجلس أوروبا المتعلقة بحماية الأشخاص تجاه المعالجة الآلية للمعطيات الشخصية والبروتوكول الإضافي الذي يلزم الأطراف الموقعة بإحداث هيئات مستقلة لحماية المعطيات الشخصية، بالإضافة إلى انضمام تونس إلى اتفاقية مجلس أوروبا بشأن حماية الأطفال من الاستغلال والاعتداء الجنسي.

ويشدد محدثنا على أن هذه الترسانة الأولى الجزئية تعدّ مهمة جدًا لافتًا إلى أنه تمّ كذلك إصدار نصوص التي لم تكرّس إلا جزئيًا منظومة الحقوق والحريات من بينها قانون مكافحة الإرهاب الذي صدر عام 2015 والذي يتضمن خطورة جزئية على الحريات الفردية. ويوضح أن الاعتقاد الذي كان سائدًا هو أنه لن يتمّ في تونس بعد الثورة التشريع لعقوبة الإعدام لكن جاء هذا القانون ليشرّعها وهو ما يمثل جانبًا سيئًا يعطي صورة سلبية لدستور يفترض أنه يجعل من الحق في الحياة مقدسًا.

وحيد الفرشيشي لـ"ألترا تونس": تقديم مشروع مجلة الحريات الفردية لا يمثّل إلا خطوة سياسية من مجموعة من النواب يقرّون بالحقوق والحريات الفردية

أما بخصوص القوانين التي لم تصدر وما لم يحصل من تطبيق للدستور، يؤكد وحيد الفرشيشي أن المجلة الجزائية تمثل أم النصوص التي تحتوي على ضرب للحقوق والحريات الفردية مبينًا أنه منذ إصدارها سنة 1913 لم يؤثر فيها دستور 2014. ويشير إلى أنه من بين فصولها التي تمسّ بالحقوق والحريات الفردية الفصل 226 المتعلق بالمجاهرة عمدًا بالفحش وفصول أخرى تهمّ الأخلاق الحميدة والمثلية الجنسية والزنا وبيع العرض وغيرها والتي مازالت كما هي منذ 1913، مبرزًا أنه كان يعتقد تعديلها بعد مرور 5 سنوات على إصدار الدستور وانتخابات 2014.

وفيما يتعلّق بمجلة الأحوال الشخصية التي مازالت بعض فصولها متأخرة مقارنة بالدستور، يوضح الفرشيشي أن المبادرة الرئاسية تعلّقت بالمساواة في الميراث بين المرأة والرجل في حين أنه كان من المتوقع أن تشمل كلّ نقاط عدم المساواة مبرزًا أن المرأة اليوم مازالت هناك نصوص تميّز الرجل عنها وتشمل مجالات الجباية والضرائب، علاوة على عدم قدرة المرأة على منح جنسيتها لزوجها غير التونسي على عكس الرجل التونسي الذي يمنح الجنسية التونسية لزوجته الأجنبية آليًا، كما أن عائلة زوج المرأة غير التونسي لا يمكن أن تزورهم إلا بإعلام السلطات على عكس ما يحدث بالنسبة للرجل التونسي المتزوج من أجنبية.

ويشدد أستاذ القانون العام على وجود خروقات مازالت موجودة ضدّ المرأة وضدّ الأطفال المولودين خارج إطار الزواج والذين رغم أن القانون يكفل حقوقهم إلا أنهم محرومون من الميراث وذلك حتى  لو اعترف الأب بهم مؤكدًا ضرورة إعادة النظر في كلّ هذه المسائل.

ويذكر الفرشيشي إلى أنه تمّ إيداع مشروع مجلة الحريات الفردية من قبل عدد من النواب معتبرًا أن ذلك لا يمثّل إلا خطوة سياسية من مجموعة من النواب يقرّون بالحقوق والحريات الفردية ومستدركًا بالقول إنه لا يعتقد أن تتمّ مناقشة مشروع هذه المجلّة خلال عام 2019، وفق تقديره.

يمكن القول إذًا إن دستور 2014 رغم أهمية ما احتواه مازال تطبيقه، على أرض الواقع يسير ببطء في ظلّ تجاذبات وحسابات سياسية ضيقة تهدف غالبًا لخدمة أجندات حزبية، وفي ظلّ غياب إرادة سياسية حقيقية لإرساء كامل المؤسسات التي نصّ عليها لبناء ديمقراطية حقيقية. ولكن ذلك لا ينفي أن تونس قد خطت في هذا المسار الطويل والصعب خطوات كبيرة وهامة على صعيد الحقوق والحريات الفردية والتي تمثل حجر البداية لبناء دولة تؤمن بالمنظومة الكونية لحقوق الإنسان وتحتاج هنا إلى مزيد العمل لتطوير المنظومة التشريعية الحقوقية الحالية من أجل الوصول إلى مجتمع المواطنة الحقيقية يومًا ما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقترح لمجلة الحقوق والحريات الفردية.. ماهي أهم محاورها؟

لماذا يريد السبسي تعديل دستور الثورة؟