مقال رأي
يتعطش بعض المحللين والأكاديميين في تونس لاستعمال مصطلحات جاذبة أو تنزيل مفاهيم دارجة التداول في الدراسات الغربية الحديثة في علاقة بما باتت تتسمى "أزمة الديمقراطية" في بيئتها التاريخية على البيئة الديمقراطية التونسية الناشئة، ولذلك يهرعون على التسابق مثلًا على استعمال لفظ "الشعبوية"، جزافًا وبصفة قسرية، كصفة اتهامية خاصة ضد مرشحين محتملين للانتخابات الرئاسية وتحديدًا أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد وبالخصوص بمناسبة محاولة فهم سبب تصدره نوايا التصويت في عديد استطلاعات الرأي.
الشعبوية.. مفهوم إشكالي
يأتي اتهام الشعبوية الجاهز والمقولب ليخفي، في أحد أوجهه، معضلة فهم المشهد التونسي لدى فريق أربكته ولا تزال تربكه الحركية السياسية في السنوات الأخيرة. لكن في البداية يطرح هذا الاتهام، الشعبوية، إشكالًا مفهوميًا نظرًا لضبابيته وهو ما يتبيّن من اختلاف الدارسين المعاصرين للعلوم السياسية في ضبطه، ولذلك يقول أحدهم، وهو هانس يورغن لوله، إن مفهوم الشعبوية غير دقيق ويكتسي غموضًا ويتصف باللاانطباعية. بل يقطع أوليفييه إيهل، المختص الفرنسي في الأفكار السياسية والمدير السابق لمعهد العلوم السياسية في غرونوبل وهو مؤلف "المحاولة الشعبوية في قلب أوروبا" عام 2003، أن المعضلة تكمن في أن الشعبوية ليست مفهومًا وبأنها تستخدم واقعًا في إطار التنديد لا التوضيح، أي بما هي تهمة.
يخفي اتهام الشعبوية في أحد أوجهه معضلة فهم المشهد التونسي لدى فريق أربكته ولا تزال الحركية السياسية في السنوات الأخيرة ويطرح لفظ الشعبوية إشكالًا مفهوميًا نظرًا لضبابيته
عدا عن هذا الإشكال المفهومي على المستوى النظري، بدأت تتصاعد الأسئلة المحرجة واقعًا حول ما توصف بالتيارات الشعبوية الصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة، وخاصة في علاقة بخطوط الميز بين التيار الشعبوي وغيره. لقد ارتبط التيار الموسوم بهذه الصفة بالحسم في المواقف من القضايا الخلافية (الهجرة مثلًا) بعيدًا عن مساحة المناورة والاستدراك التي تميّز أحزاب الوسط، يمينًا وشمالًا، كما ارتبط أيضًا، وفي علاقة بالمذكور أسبقه، بالخطاب المباشراتي القاطع دون مواربة فيما بدا في مواجهة خداع النخبة الكلاسيكية. ويتبيّن تباعًا أن ما أسهم بصعود ما توصف بالتيارات الشعبوية ليس أنها تقدم حلولًا استسهالية أو تبسيطية بقدر ما تقدم حلولًا واضحة وصريحة للجمهور الانتخابي وذلك بغض النظر عن الموقف من مضامينها. وقد أصبحت النخب السياسية الكلاسيكية هي موضع تساؤل أمام الرأي العام وليست هذه النخب الجديدة.
اقرأ/ي أيضًا: "الإسلام دينها".. قيس سعيّد يغوص ويحفر في العلاقة بين الدين والدولة
كما جاءت هذه الأحزاب التي توصف بالشعبوية، وهي أساسًا أحزاب يمينية في أوروبا، أو جاء عمومًا الخطاب الشعبوي، سواء يمينًا أو يسارًا، على جوانب تيارات سياسية عريقة (وسط يمين/وسط يسار) وعلى هامش أحزاب مستقرة في صدارة المشهد السياسي طيلة العقود الأخيرة في أوروبا. لكن تونسيًا لازال عنصر الاستقرار الحزبي غائبًا على اعتبار حيوية الحركية السياسية وهو ما تعكسه مثلًا التخمة الحزبية العددية أو صعود أحزاب وأفول أخرى بين انتخابات وأخرى. لا يعني المذكور أنه لا يمكن أن تنشأ حالة شعبوية، بما يمكن تعريفها، تحت الحذر المفاهيمي السابق، اختصارًا بالخطاب الذي يستهدف عواطف الناس وبالخصوص الأقل تعليمًا ويقدم حلولًا غير واقعية، ولكن، وهذا المهم، لا يمكن الارتياح، تنظيرًا، للتوصيف الذي بات ملقى على قارعة الطريق بالشعبوية في سياق أقرب إلى السباب السياسي منه إلى المنافسة النزيهة خاصة في مناخ انحدرت فيه الأخلاق السياسية. ويتعزز هذا اللارتياح خاصة في مشهد حزبي مضطرب لازال يصعب ضبطه وفق المعايير المعلومة لجدولة الفاعلين ضمن الطيف السياسي التقليدي خاصة أمام القضايا التأسيسية التي لازالت مطروحة في إطار ديمقراطية ناشئة لم تترسخ بعد فيها المؤسسات الرسمية بما فيها مؤسسة الأحزاب.
وفي هذا الجانب، أصبح مثلًا الحديث في تونس عن "التيار الثوري" أو "استحقاقات الثورة" اليوم يحيل لدى العديد إلى فكرة "الشعبوية". كما لا يتردد مثلًا معارضون لحزب التيار الديمقراطي في وصف خطاب ممثلته الأبرز في البرلمان سامية عبو بأنها امرأة شعبوية، وهو اتهام يأتي حقيقة في سياق الهرسلة السياسية والمعنوية لأداء هذه النائب التي يعود إليها الفضل في إعادة انتشار حزبها ليتصدر أحزاب العائلة الديمقراطية الاجتماعية طيلة السنوات الخمس الأخيرة، وربما باتت نموذجًا مثاليًا لكيفية تأثير الأداء النيابي لنائب واحد فقط، تحديدًا على مستوى دوره الرقابي، في الترفيع من أسهم حزبه أمام الرأي العام.
لا يمكن الارتياح للتوصيف الذي بات ملقى على قارعة الطريق بالشعبوية في سياق أقرب إلى السباب السياسي منه إلى المنافسة النزيهة
ولا ننسى مثلًا أنه يوجد أصلًا فريق من النخبويين "جدًا" يرون أن الثورة هي أصلًا حراك للشعبويين والمخربين الذين يريدون أن ينالوا من البلد ويمارسوا أحقادهم ضد أصحاب المال. ولا يترددون في وصف التظاهرات أو الحركات الاحتجاجية بأنها أساليب "شعبوية".
وعودة لمعضلة مفهوم الشعبوية، من المهم التمييز دائمًا بين التيار/الحزب الشعبوي، أي ذلك الذي يطرح حلولًا غير واقعية لاستثارة عواطف غير المسيّسين، والخطاب الشعبوي الذي تكون مهمة ضبطه تعريفيًا أصعب على اعتبار أنه قد يشمل الخطاب الطارئ الذي يسعى لاستهداف أكثر ما يمكن من الرأي العام، فالتيار أو الحزب الشعبوي يتحلف بالضرورة بخطاب شعبوي، ولكن هذا الخطاب لا ينحصر فقط عند أولئك "الشعبويين" حينما يكون خطابًا مناسباتيًا في السياق الانتخابي.
ففي هذه المشهدية، طغت الشعبوية في المشهد التونسي خاصة في ظل ضعف الوعي السياسي لدى جزء واسع من الشعب وأصبحت سلعة رائجة، ولو نعود مثلًا لشعارات انتخابات 2014 من حزب نداء تونس، الذي قدم نفسه كحزب سليل الحركة الوطنية التونسية، نجد أن خطابه كان مغرقًا في الشعبوية، ولازال يذكر التونسيون جيدًا كيف ذرف رئيسه الباجي قايد السبسي الدموع لامرأة لم تأكل اللحم ويبدو أنها اليوم لم تعد تأكل الدجاج. كما تضخمت البرامج الانتخابية للأحزاب الكبرى بالحلول الشعبوية أي تلك الحلول التبسيطية الاستسهالية لكل القضايا والتي تؤكد الحصيلة اليوم أنها لم تكن إلا مخدّر للتحشيد الانتخابي لا غير. بل وبات يقدم ممثلو الحكومة اليوم خطابًا شعبويًا أحيانًا سعيًا لإظهار التصاقهم بهموم المواطن خاصة في ظل الوضع الاجتماعي المتردي.
لو نقوم بمسح للخطاب الذي يدعي صاحبه الحديث باسم الشعب التونسي نكاد لا نستثني أي فاعل سياسي وبهذا المعنى يحق القول إن جميعهم شعبويون
ولا خلاف في القول في مجهود حصر صفة الشعبوي بأنه الشخصي الذي يدعي الحديث باسم "الشعب"، وتونسيًا هو من يدّعي الحديث باسم الشعب التونسي ويخلفه قوله بفعل من الأزمنة الثلاث فيقول "الشعب كره السياسيين" و"الشعب فد من الوضع" وإلخ. ولو نقوم بمسح لهذا خطاب يسمح صاحبه بنفسه الحديث باسم الشعب، كلّه، نكاد لا نستثني أي فاعل سياسي، وبهذا المعنى يحق القول إن جميعهم شعبويون.
والطريف أن هذا النوع من الخطاب يتبناه أكثر وأكثر أولئك الذي يقدمون أنفسهم أنهم الخيّرين القادمين من الوراء لإبعاد السياسيين الأشرار، ويريدون أن يظهروا في ثوب النخبة التي ستضع حدًا للشعبوية التي فشلت النخبة الكلاسيكية في مواجهتها. هذا هو خطاب موجة "البيزنس السياسي" والتي تعني تقديم عرض سياسي، يسمى مشروعًا، في زمن وجيز بتحالف بين طامحين سياسيين هواة ورجال أعمال "يستثمرون" في هذا العرض كما استثمارهم في مصنع مع تطعيم هذا العرض بأحدث تقنيات الاتصال السياسي، وهي موجة أتت على هامش الأحزاب في الديمقراطيات العريقة (مانويل ماكرون في فرنسا). ونجد في تونس محاولات لهذا البيزنس مع حملة "عيش تونسي" التي تسعى بدورها لأخذ مساحتها من الشعبوية بخطاب يقوم على شيطنة الأحزاب يستعمل عبارات فضفاضة يقدمها على أساس أنها حلول لإنهاء "الفوضى".
قيس سعيّد.. المرشح الذي يُحرج
فشلت النخبة السياسية في تونس (الأحزاب) في اجتذاب المواطن وتقديم نفسها كوكيل ممكن له بما هي الوعاء الطبيعي للتغيير عبر أجهزة الدولة، وهو فشل تعكسه المستويات القياسية المنخفضة لثقة التونسيين في الأحزاب. ترفض أحزاب المعارضة تحميلها مسؤولية هذا الفشل وترى نفسها وقعت ضحية الأحزاب الحاكمة التي جرّت سوءتها عليها، ولكن تظل صفة الفشل جامعة على اعتبار أن أحزاب المعارضة فشلت في تسويق نفسها كبديل جدّي ممكن عن الأحزاب الحاكمة لو ننظر لنتائج الانتخابات البلدية العام الفارط.
وقد توازى تراجع منسوب الثقة في الأحزاب، وهو ما عكسته بالخصوص نتائج الانتخابات التشريعية حينما تصدر المستقلون نسبة الأصوات الصحيحة، مع تزايد المبادرات الوطنية من داخل مساحة المجتمع المدني بعد أن باتت صفة المستقل واللاحزبي صفة جاذبة بل لم يتوان مستقلون على تنظيم أنفسهم في "الاتحاد الوطني للمستقلين" وتلك طرافة تونسية. وفي ذات الإطار، صعدت أسماء مستقلة في استطلاعات الرأي طيلة الأشهر الأخيرة على رأسها قيس سعيّد والصافي سعيد ومؤخرًا نبيل القروي الذي احتطب قناته منذ سنوات في مشروع سياسي بواجهة مشروع اجتماعي خيري مستندًا على واجهته التلفزية المرئية.
لا يجتمع المستقلون إلا في الصفة الجامعة بينهم أي الاستقلالية التنظيمية عن كل حزب ولكن يكون من العوز تفسير صعودهم بأنهم يتبنون "جميعًا" خطابًا شعبويًا
لا يجتمع المستقلون إلا في الصفة الجامعة بينهم، أي الاستقلالية التنظيمية عن كل حزب، ولكن يكون من العوز تفسير صعودهم لأنهم يتبنون "جميعًا" خطابًا شعبويًا. ولكن لو نلاحظ، نجد أن هذه "التهمة" عادة ما يوجهها المتحزبون على اعتبار أن هذه الكتلة الجديدة هي محرجة لهم وكأنهم يقولون "نحن لسنا شعبويون مثلهم"، أو يوجهها أيضًا أولئك الذي استشكل عليهم تفسير الصعود الصاروخي في استطلاعات الرأي لرجل قانون دستوري يتحدث باللغة العربية الفصحى ودائمًا ما يتحدث بخطاب قانوني صارم وكأنه بصدد التوجه إلى طلبته وليس إلى جمهور عريض.
وسعيّد هنا، هو مرشح يُحرج، لأنه ظهر أنه قادر على الجمع بين ما بدا متناقضات هي "أساطير سياسية"، فهو يحمل صورة النخبوي بصفته الأكاديمية بما يعني لوهلة أولى خطاب "محافظ" سياسيًا، ولكنه أيضًا يقدم خطابًا يوصف بأنه "ثوري" فهو يعتبر مثلًا أن تاريخ 14 جانفي/كانون الثاني هو تاريخ إجهاض الثورة التونسية، وهو موقف مؤصل لازال يتبنى مقولة أن المسار الثوري الذي انطلق من الشباب المهمش في الولايات الداخلية في ديسمبر/كانون الأول 2010 اختطفته النخبة السياسية في العاصمة في جانفي/ كانون الثاني 2011. وهو أيضًا استطاع أن يتصدر نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية، رغم التحفظ المبدئي على مكاتب استطلاع الرأي، رغم أنه لا يقف وراءه حزب كبير للتعبئة أو ماكينة انتخابية جاهزة ولا يملك تاريخًا سياسيًا باهرًا ولا يستند على تيار فكري أو سياسي واضح المعالم ولا تدعمه لوبيات المال الفاسد.
اقرأ/ي أيضًا: عيش تونسي.. عنوان جديد للتحيّل السياسي
لكن يرى جمهور واسع أن سعيّد يقول عنهم ما يعجزون عن قوله، أو هو "المثقف العضوي الذي لم يخن شعبه"، بل يُنظر إليه على أنه "الاختراق الثوري" داخل النخبة أو على الأقل هو من يتحدث بصراحة دون حسابات معقدة مثل "النخبة الكاذبة والفاسدة". وسعيّد يظهر في صورة الرجل الذي يواجه المنظومة القديمة رغم أنه يرفض، في نفس الوقت، الخيارات الأساسية المعتمدة للبناء الديمقراطي وتحديدًا النظام الانتخابي المعتمد، ومسار العدالة الانتقالية في علاقة بتسوية ملفات الفساد المالي عدا عن رفضه لمنظومة الحكم المحلي.
بكل ذلك، لا يوجد مرشح شبيه بسعيّد وهو ما يجعله يكتسب عنصر تميّز عن بقية الفاعلين أو المرشحين الرئاسيين، فهو لا يشبه أحدًا، ولكن يتكئ البعض على هذا العنصر ليقول إنه شعبوي وذلك لمجرد أنه يقدم حلولًا غير مألوفة أو غير متداولة لدى غيره، وهي للمفارقة ليست حلولًا سهلة التنفيذ بل يستشكل على الجمهور العام فهمها من أصله أي بما يجعلها أبعد عن وصفها بحلول شعبوية.
وإن من صفات الشعبوية هو الابتعاد عن المسائل النخبوية الأكاديمية والغوص في مسائل شعبية استعراضية تهم أكبر فئة من الجمهور العامّ، ولكن نلاحظ أن قيس سعيد مثلًا يسعى في كل خرجاته الإعلامية على الغوص في مسائل تتعلق بنظام الحكم ويسترسل في تفصيلها، وهو الأستاذ في القانون الدستوري. ويتحدث دائمًا على تفضيله لنظام الاقتراع الأغلبي على الأفراد بدل النظام الحالي، نظام الاقتراع النسبي على القوائم، ويكرر دعوته للقطع مع الحكم المحلي بصيغته الحالية وإنشاء مجالس محلية تقود المعتمديات قاعديًا بلوغًا إلى المركز. هاتان المسألتان هما محل نقاش داخل النخبة السياسية والقانونية في البلاد طيلة السنوات الأخيرة، ولا تهتم بهما العامة من الناس باعتبارها من المسائل "التي لا تهمّ الشعب في مأكله ومشربه"، ولكن يصر سعيّد على طرحهما في كل مناسبة بإطناب رغم أنهما غير جاذبتين بالمعنى الانتخابي.
لا يوجد مرشح شبيه بسعيّد وهو ما يجعله يكتسب عنصر تميّز عن بقية الفاعلين أو المرشحين الرئاسيين ولكن يتكئ البعض على هذا العنصر ليقول إنه شعبوي
عدا أن الخطاب الشعبوي يقوم، وكما هو معلوم، في مفرداته أو طريقة إلقاءه على مطابقة مع الخطاب اليومي للغالب الشعبي، ولذلك يوصف أحيانًا بأنه خطاب سوقي أو وقح. ولكن سعيّد، وفي هذه النقطة بالذات، يمثل نشازًا في الساحة التونسية، إذ يكاد الفاعل السياسي الوحيد، وربما المرشح الرئاسي الأوحد، الذي يصرّ على الحديث باللغة العربية الفصحى الذي جعلته محل تندر لدى البعض، وجعلته يظهر أكثر وأكثر في صورة "النخبوي" أمام الرأي العام. ومن المرجح أن هذه الفرادة ستتحوّل تباعًا إلى عائق في مجهوده الاتصالي في حملته الانتخابية حينما يريد الناخبون خطابًا يشبههم قدر الإمكان ولا يظهر متعاليًا عليهم.
إن لفظ الشعبوية، بالنهاية يصحّ فيها القول إنها كلمة حق أريد بها باطل، وتحولت إلى تهمة يرميها بعض المحللين في محاولة فهم هذه الظاهرة أو تلك، أو يوجهها بالخصوص المتحزبين في سياق تبخيس منافسيهم. فهو يهدف إلى ترذيل الحياة السياسية وجعل كل خطاب أو سلوك خارج عن المتداول موضع شبهة في وجوده لا بمضمونه.
وسعيّد يحرج الطبقة السياسية أيضًا عبر إظهار تعففه عن المال وإعلانه صراحة أنه يرفض التمويل العمومي وأيضًا دعم رجال الأعمال وتأكيده أنه سيموّل حملته الانتخابية من تبرعات المتطوعين لا غير. هذا الخيار يصفه البعض بأنه شعبوي فقط لأنه يبدو خيارًا مجنونًا أو غير واقعي لدى أولئك الذين ارتبط وجودهم، وليس فقط ثقلهم السياسي، بتحالفهم مع المال الفاسد. والواقع أن أخلقة السياسة أصبحت بدورها بضاعة يدعي كل فصيل رفعها والدعوة إليها، رغم أنه يمارس واقعًا كل ما يتعارض مع الأخلاق السياسية.
والطريف أنه في سيف الشعبوية الموجّه يُعاب الموضوع في قفص الاتهام بموقف من قضية ما هي بذاتها محلّ خلاف وسط النخبة وذلك على غرار قضية المساواة في الميراث، حينما يوصف من يعلن معارضته الصريحة لهذه المساواة، على غرار سعيّد، بأنه "شعبوي" وأن موقفه ليس حقيقة إلا رغبة في نيل أصوات المحافظين. وفي المقابل، يوصف المؤيد للمساواة، خاصة إن كان قياديًا حزبيًا، بأنه بطل مقدام لم تثنه الحسابات الانتخابية عن الإصداع بموقفه، والحال أنه، يمكن أيضًا إن شئنا، أن نقرأ موقفه كما الموقف المعارض، بأنه في إطار تحصيل جمهور انتخابي داعم للمساواة في الميراث، وبأنه يزاحم حزب أو تيار سياسي آخر في هذا الجمهور. والمشكل أن العديد بات يقيس، وبالضرورة، الموقف من عديد القضايا الإشكالية كالمساواة في الميراث، بعين الفائدة السياسية والانتخابية فقط دون الالتفات لحقيقة وجود قناعات ووجهات نظر متعددة.
لا يهم إن كنا نؤيد مضامين ما يقترحه قيس سعيّد أو لا ولكن ما يهمّ هو ألا ننجرّ في المحاولات المستميتة للبعض لترذيله في عملية مجانية لحساب الشعبويين الحقيقيين الذين يبيعون الأوهام للفقراء
قيس سعيّد، بالنهاية، ليس مرشحًا شعبويًا ولكن يمكن وصفه بأنه مرشح راديكالي أي يطرح تغييرًا جذريًا للواقع السياسي، ويخلط البعض بين الشعبوية والراديكالية ليجعلك الثانية مؤدى طبيعي للأولى إما عن ضبابية في المفهوم أو لغاية الهرسلة السياسية. سعيًد يقدم ببساطة خطابًا يبدو "ثوريًا" يقطع لا يجامل، يتحدث عن القطيعة بدل "التوافق"، حاسم دون مواربة، هو ذات الخطاب الذي كان يثير الجمهور الانتخابي في 2011، ولكنه أيضًا الخطاب الذي ليس فقط لم يعد يُؤكل الخبز الانتخابي في 2014 وما بعدها، بل وُصف بأنه ذاته الخطاب "الشعبوي" والمنفر إلى أن قدمه سعيّد من جديد ليعود خطابًا صالحًا وجاذبًا في 2019 لدى فريق واسع من التونسيين على الأقل يبدو أنهم لازالوا يطلبون "تغييرًا جذريًا".
لا يهم إن كنا نؤيد مضامين ما يقترحه سعيّد أو لا، أو كنا نقدّر أنها مقترحات أو حلول ملائمة أو قابلة للتكييف مع الواقع الذي يدعي الجميع الرغبة في تغييره نحو الأفضل، ولكن ما يهمّ هو ألا ننجرّ في المحاولات المستميتة للبعض لترذيل محاولة أستاذ قانون دستوري للدخول لقصر قرطاح يحمل مشروعًا لم يُعلن بتمامه، وقد نختلف معه في محاوره الكبرى أو تفاصيله الصغرى، وذلك في عملية مجانية لحساب الشعبويين الحقيقيين الذين يبيعون صكوك الرخاء الكاذب والأوهام للفقراء باستعمال المال الفاسد.
اقرأ/ي أيضًا: