18-يونيو-2023
التهرم السكاني عدم الزواج الانجاب

نسبة هامة من الشباب التونسي لم يعد يُقبل على الزواج والإنجاب كما في السابق (صورة توضيحية/ getty)

 

"الوضع الكوني الذي نعيشه لا يسمح بإنجاب فرد آخر ليعاني في هذا العالم".. بهذه الكلمات عبّرت "سندس" عن موقفها من الإنجاب وبرّرت عزوفها عنه، رغم ضغوط العائلة والأصدقاء، وهي نظرية أصبح يتبناها العديد من الشباب التونسي الذي لم يعد يُقبل على الإنجاب كما في السابق ولا على الزواج وهي ظاهرة تؤكدها الإحصاءات الرسمية لمؤسسة "سيغما كونساي" والتي بيّنت تراجع عقود الزواج بنسبة 36% وتراجع عدد المواليد بنسبة 28% خلال العشرية الأخيرة.

إحصاءات تؤكد تراجع عقود الزواج بنسبة 36% وتراجع عدد المواليد بنسبة 28% خلال العشرية الأخيرة في تونس

تقول "سندس" وهي شابة ثلاثينية، إنه في ظل الأزمات الاقتصادية في العالم وفي تونس بصفة خاصة التي يسوء فيها الوضع يومًا بعد يوم، لم يعد المواطن قادرًا على التعايش مع هذا الوضع المتردي على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية، فما بالك بكائن صغير ينضاف لبلد كل مؤشراته توحي بأن الأوضاع ستتدهور في المستقبل أكثر فأكثر، متسائلة: "ما هو ذنب الأطفال ليتم إنجابهم في ظروف كهذه ويلتحقوا بركب المعذبين في الأرض؟".

وتضيف المتحدثة في تصريح لـ"الترا تونس": "حجج الدفاع عن الإنجاب التي يتداولها البعض خاصة منها الاستمتاع بإحساس الأمومة أو الأبوّة غير منطقية بالنسبة إليّ، لأن هذه الأحاسيس لا تقترن ضرورة بالإنجاب، فمثلًا هناك أطفال دون سند مودعون في دور الرعاية أو في الجمعيات، بالإمكان التكفل بأحدهم ونكون بذلك قد وضعنا حدًا لمعاناتهم ومشاكلهم ووحدتهم.. لا أتصور أن الشخص الكافل لطفل منذ نعومة أظافره لن يشعر بإحساس الوالدين تجاه صغير تبناه واختار التكفل به".

 

 

كما بيّنت "سندس" أن السبب الآخر لتفضيلها عدم الإنجاب، هو كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين، ليس فقط من الناحية الاقتصادية بل من الناحية التربوية، وهو جانب لا يهتم به العديد من الأولياء في ظل الالتزامات المهنية، مما تسبب في نشأة أغلب أفراد الجيل الحالي في المحاضن والشوارع دون رقابة ومتابعة لصيقة من الوالدين، الشيء الذي أثّر سلبًا في سلوك الكثير من أبناء هذا الجيل، وفقها.

  • العزوف عن الزواج والإنجاب.. خيار أم ضرورة؟

تجاوزت سياسة التقشف التي ينتهجها المواطن التونسي مكرهًا تحت ضغط ارتفاع الأسعار، التوفير في المأكل واللباس والاستغناء عن كل سبل الترفيه، لتدرك هذه السياسة حتى الإقدام على الزواج والإنجاب لما لهذين الحدثين من تأثير كبير على ميزانية التونسي التي ما انفكت تتدهور سنة بعد سنة ودفعته ضرورة لتغيير ترتيب أولوياته. وقد أصبح التونسي يخيّر حياة العزوبية التي تحرره من كل القيود الأسرية على تكوين عائلة تكون مصدرًا لتفاقم النفقات التي لا يقدر على مجاراتها، وهو تفكير يشترك فيه الطرفان أي المرأة والرجل على حد السواء.

"سندس" شابة ثلاثينية لـ"الترا تونس": ما ذنب الأطفال ليتم إنجابهم في ظروف كهذه ويلتحقوا بركب المعذبين في الأرض؟ أليس الأجدى الاعتناء بالأطفال من فاقدي السند؟

وقد أكدت الباحثة في علم الاجتماع اختصاص ديموغرافيا نسرين بن بلقاسم، أن جميع الإحصاءات تبيّن أن ظاهرة التهرم السكاني بتونس في تنام وستزداد حدّتها في المستقبل ويعزى ذلك بالأساس إلى عزوف الشباب عن الزواج لأسباب اقتصادية بحتة تتمثل في غلاء المعيشة وارتفاع نسب البطالة وتدني الأجور علاوة على طول سنوات الدراسة وتقدم معدل سن الزواج للرجل ليراوح الـ 34 سنة وللنساء في حدود الـ 32 سنة.

وأفادت بن بلقاسم في حديثها لـ"لترا تونس" أن عدم الإقبال على الإنجاب كما في السابق ساهم بدوره في التهرم السكاني الذي تشهده تركيبة المجتمع التونسي، ويبرز ذلك من خلال تقلص عدد المواليد بسبب خيارات الزوجين اللذين يكتفيان بمولود أو اثنين لمجابهة متطلبات رعاية الأطفال التي ما انفكت ترتفع يوميًا، فأصبحت تكاليف الإنجاب والتربية عبئًا ثقيلًا خاصة وأن الرفاهية أصبحت ضرورة وسعر المحاضن والمدارس الخاصة في ارتفاع متواصل بالتالي فقد الشباب التونسي الشجاعة على تكوين أسرة وخيّر التفكير في الهجرة إلى الضفة الأوروبية وهو سبب آخر من أسباب التهرم.

 

 

وترى الباحثة في علم الاجتماع والديموغرافيا أن برنامج التنظيم العائلي وتحديد النسل لا علاقة له بالتهرم السكاني الذي تشهده تونس لأنه قائم منذ عقود لكن السبب الرئيسي والأساسي هو الارتفاع الكبير في تكلفة العيش خاصة بعد الثورة وكذلك التحولات الاجتماعية العميقة التي عرفها المجتمع والتي  أثرت بصفة مباشرة على التركيبة العمرية. كما أشارت إلى أن التهرم السكاني عواقبه وخيمة ويؤثر سلبًا على الدول ويتجلى ذلك من خلال تجربة الدول الأوروبية التي تضطر إلى انتداب اليد العاملة من دول أخرى وكذلك تجربة فرنسا التي اضطرت إلى الترفيع في سن التقاعد لمجابهة نقص اليد العاملة.

وكحلول لتفادي سيناريو تهرم سكاني في المستقبل اعتبرت نسرين بن بلقاسم أن الحل في تحسين الوضع الاقتصادي والحد من نسب البطالة للتشجيع على تكوين أسرة وكذلك تحسين المقدرة الشرائية والدخل الشهري لكل مواطن تونسي.

باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": ظاهرة التهرم السكاني بتونس في تنام وستزداد حدّتها في المستقبل ويعزى ذلك بالأساس إلى عزوف الشباب عن الزواج لأسباب اقتصادية بحتة

  • تسارع وتيرة التهرم السكاني والعواقب وخيمة

لا شك في أن تراجع الإقبال على الزواج والإنجاب وكذلك ارتفاع نسب الطلاق في صفوف الأزواج له عواقب وخيمة على المجتمع وتركيبته من بينها تراجع نسبة الخصوبة التي ما انفكت تتدنى سنويًا لتبلغ سنة 2021 وفقًا للإحصاءات الرسمية 1.8 طفل مقابل 2.4 طفل سنة 2013.   

وقد بيّنت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة راضية الجربي أن أسباب التهرم السكاني في تونس معلومة وهي العزوف عن الزواج وتراجع الولادات وذلك بسبب غلاء المعيشة مبينة أن إحصائيات العديد من المناسبات على غرار عيد الفطر تبيّن أن نفقات الطفل الواحد تناهز الـ 500 دينار ونفقات العودة المدرسية تتجاوز الألف دينار والحال أن العائلة التونسية غير قادرة على مجابهة غلاء هذه المصاريف التي مردّها تدهور الدينار التونسي أمام العملة الأجنبية.

نسرين بن بلقاسم لـ"الترا تونس": برنامج التنظيم العائلي وتحديد النسل لا علاقة له بالتهرم السكاني الذي تشهده تونس، وهذا التهرّم عواقبه وخيمة ويؤثر سلبًا على الدول

وترى الجربي في حديثها لـ"الترا تونس" أن تعلّم النساء بنسب مرتفعة أثنى المرأة عن الزواج في سن مبكرة وذلك لقناعتها بأن الضامن الوحيد لمستقبلها هو شهادتها وعملها أكثر من الزواج الذي كان في السابق يمثل الضامن والواقي والحامي، لكنه فقد مكانته اليوم واحتلها العلم والمعرفة وشهائد التخرج.

كما لفتت إلى أن تجاوز سن الثلاثين في الزواج للمرأة المتعلمة يثنيها عن إنجاب عدد كبير من الأطفال خاصة مع دخولها في الحياة العملية التي تعتبر صعبة مع وجود الأطفال وفي ظل تفكك الأسر التونسية التي استقلت ولم يعد يجمعها منزل واحد يربي فيه الطفل مع الأجداد والأقرباء، مبيّنة أن العائلة التونسية تطمح إلى رعاية أبنائها في ظروف مثالية وعيش رغيد أي أنهم يفضلون نوعية العيش على عدد الأطفال.

راضية الجربي (رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة) لـ"الترا تونس": تعلّم النساء بنسب مرتفعة جعل المرأة تعزف عن الزواج في سن مبكرة كما أن تجاوزها سن الثلاثين يثنيها عن إنجاب عدد كبير من الأطفال

وتشدد المتحدثة على أن ظاهرة التهرم السكاني ستنعكس سلبًا على الصناديق الاجتماعية لأن الفئة العاملة لا يمكن أن تغطي عدد المحالين على التقاعد وهو مشكل تتخبط فيه الصناديق منذ سنوات وتزداد حدته بازدياد التهرم السكاني مشيرة إلى أن التهرم سيشكل صعوبة على مستوى فقدان اليد العاملة النشيطة التي تحتاجها البلاد، نافية أن يكون تقلص عدد الشباب حل للبطالة في تونس لأن البطالة ليست مرتبطة بعدد الشباب، بل بالمبادرات الخاصة ونقص المؤسسات التي تستقطب اليد العاملة وانعدام الاستثمار الأجنبي وتردي الوضع الاقتصادي بالبلاد، الشيء الذي دفع بالشباب التونسي للهجرة بحثًا عن مورد رزق.

وختمت المتحدثة بالتأكيد على أنه بتوجه تونس نحو الذكاء الاصطناعي الذي يمكّن من تعويض العمال والموظفين، ستكون قد تمكنت من مواجهة التهرم فيما يتعلق بحاجتها لليد للعاملة وإلا ستجد نفسها أمام صعوبات اقتصادية مثلًا في مجالات الفلاحة والتعليم والخدمات.

رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة لـ"الترا تونس": ظاهرة التهرم السكاني ستنعكس سلبًا على الصناديق الاجتماعية لأن الفئة العاملة لا يمكن أن تغطي عدد المحالين على التقاعد

جدير بالذكر أن تونس كانت قد تبنت منذ أكثر من ستة عقود سياسة تحديد النسل القائمة على تشجيع النساء على استعمال موانع الحمل وتوفيرها وإتاحتها مجانًا لجميع الشرائح وذلك بهدف الاكتفاء بإنجاب طفلين أو ثلاثة على أقصى تقدير والقطع مع السائد خلال تلك الفترة التي كان يتراوح فيها معدل الإنجاب لكل أسرة 6 أفراد أو أكثر.  هذه السياسة آتت أكلها بفضل حملات التوعية التي تحمل شعار "بتنظيم الولادات تحلى الحياة" والتي تشجع على توفير حياة أفضل للأطفال وتحسين مستوى العيش للعائلة برمتها وكذلك الحفاظ على صحة الأم.