04-أبريل-2024
الجنوب التونسي توزيع الحم

يجتمع أهالي قرى الجنوب التونسي قبل ليلة 27 رمضان ويقوموا بذبح ماشية لتوزيع لحمها على الجميع بفقيرهم وغنيّهم

 

تتوارثها أجيال تلو أخرى ويتمسك بها الأبناء والأحفاد، ولم تنجح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في محوها لتشبث الأجيال المتعاقبة في قرى الجنوب التونسي الغربي والشرقي. إنها "الحسابة"، وهي عادة قديمة أصرّ أجدادنا على القيام بها في إطار التضامن الاجتماعي فيما بينهم، يقول نور الدين لـ"الترا تونس".

وهذه العادة تقوم على أساس جمع الأموال من كل أهل القرية وشراء "حاشي" (صغير الإبل الذي لم يتجاوز الـ10 أشهر) أو أكثر وعجل أو أكثر، وذبحه وتقسيم لحمه على كل عائلات القرية بغنيّهم وفقيرهم.

من عادات أهل الجنوب التونسي "الحسابة" و"القرش" و"الألفية" وهي مناسبات توارثوها أبًا عن جد للتضامن والتآزر بين متساكني المنطقة تقوم على ذبح مواشٍ وتوزيع لحومها بالتساوي على الجميع على حدٍّ سواء 

ويشرح محدثنا، وهو أصيل منطقة المنشية من ولاية قبلي: "الأغنياء كما الفقراء، الكل يأخذ نصيبه من اللحم، لكنّ الكمية تختلف من عائلة إلى أخرى، فالغني يأخذ كمية قليلة، المهم أن يأخذ نصيبه من "الحسبة" وذلك حتى يكون الجميع سواسية، لأنّ الفقير يرفض في قريتنا أن يتم التصدق عليه".

 

صورة
من عادات أهل الجنوب التونسي "الحسابة" و"القرش" و"الألفية" وهي مناسبات توارثوها للتضامن فيما بينهم (الترا تونس)

 

يجتمع أهل القرية قبل ليلة 27 من شهر رمضان بعد أن يجمعوا الأموال من كل سكان القرية، ويشرف على هذه العملية  كبار السن من أهل الجهة، فيما يقوم الشباب بتنفيذ العملية من شراء وذبح وتوزيع.

يذبح "الحاشي" أو العجل من قبل جزار الجهة ويتم تقطيع اللحم وتوزيعه قبل ليلة 27 رمضان حتى يتمكن الجميع من طبخ الكسكسي باللحم كما جرت العادة في كل بيت تونسي.

أحد متساكني المنشية لـ"الترا تونس": "الحسابة" هي عادة تقوم أساسًا على جمع أموال وشراء "عجل" أو "حاشي"  وذبـحه وتقطيع لحمه وتوزيعه قبل ليلة 27 رمضان حتى يتمكن الجميع من طبخ الكسكسي باللحم كما جرت العادة في كل بيت تونسي

"إنها طريقة موروثة عن الأجداد تؤكد الروابط القوية بين أهل القرية، وأمام غلاء الأسعار في وقتنا الحاضر فإنّنا نعتبرها أحسن وسيلة للتعاون فيما بيننا، وهي شكل من أشكال التضامن الاجتماعي" يقول محدثنا.

"الحسابة" عادة لا يمكن ان تحجب تقليدًا آخر وهو "الألفية" وهي التي ينذر فيها لأحدهم توزيع ألف لحمة أو أكثر على أهل القرية ويتكفل لوحده بشراء أيّ نوع من أنواع الماشية ويقوم بتوزيع لحمه نيئًا على سكان القرية على أن تتم عملية التوزيع تحت جناح الليل وبشكل سري.

أحد متساكني المنشية لـ"الترا تونس": "الحسابة" هي طريقة موروثة عن الأجداد تؤكد الروابط القوية بين أهل القرية، وأمام غلاء الأسعار في وقتنا الحاضر فإنّنا نعتبرها أحسن وسيلة للتعاون فيما بيننا،

يقول الشيخ الكيلاني لـ"الترا تونس": "منذ القدم، نوزع اللحم نيئًا سواءً في الحسابة أو الألفية، ونشتري الحاشي خاصة فلم نكن من هواة لحم العجل ونختار شهر رمضان لأنّه شهر الرحمة والتكافل ولأنّنا نريد أن يأكل الجميع اللحم، فنحن أهل وأقارب لكننا نخجل من الاعتراف بحاجتنا حتى لأقرب الناس إلينا".

 

صورة
"الألفية" هي التي ينذر فيها أحدهم توزيع ألف لحمة على أهل القرية ويتكفل لوحده بشراء أيّ نوع من أنواع الماشية  (الترا تونس)

 

ويضيف محدثنا: "كل المعدات الخاصة بالذبح وتقطيع اللحم مخبأة عند كبير القرية وهي ملك للجميع. وعند القيام بالذبح، نجمع الأطفال ونقدم لهم الحلوى وكل ما يحبونه حتى يفرحوا بهذه العادة وتظل عالقة في أذهانهم  متمسكين بها في كبرهم"، معقبًا: "نحن لا نقول إنه يوم لتوزيع اللحم على الفقراء، بل هو يوم لتوزيع اللحم علينا جميعًا فكلنا فقراء ونحن بذلك نرسّخ عند الأطفال فكرة أننا جميعًا سواء، وكلنا نحتاج لقطعة من هذه الذبيحة لطبخ كسكسي ليلة القدر".

وتابع محدث "الترا تونس": "لا يمكن أن نغفل على عادة أخرى راسخة في أهالي القلعة من ولاية قبلي والتي تسبق رمضان بيوم أو يومين، وهي "القرش"والتي ذبحت فيها هذه السنة 5 جِمال ووزّع لحمها على كل محتاج".

الشيخ الكيلاني (أحد متساكني منطقة القلعة) لـ"الترا تونس": "القرش" من بين العادات الراسخة التي تسبق رمضان في الجنوب التونسي والتي تم بمناسبتها هذا العام ذبح 5 جِمال ووزعت لحومها على المحتاجين 

لا يزال أهل القرية منذ عشرات السنين يتمسكون بالمكان والزمان، فيجتمعون لحضور عملية الذبح والتقطيع والتوزيع  في "الربوة الخضراء". وقبل كل رمضان يتبرع أهالي منطقة القلعة وأبناؤها العاملون بالخارج بالأموال من أجل شراء الذبائح، وقد أصبحت تشرف على هذه العادة الموروثة عن الأجداد جمعية رفق للتنمية البشرية والتي تضم أبناء الجهة، وفق ما يؤكد لـ"الترا تونس" المكلف بالإعلام بالجمعية حمد بالرابح.

وأكد محدثنا أن "قرش هذه السنة ذبحت فيه 5 حواشٍ وأقام أهل القرية احتفاليتهم السنوية بحضور الأطفال ومشاركة الجميع في هذا المهرجان التضامني الاجتماعي".

 

صورة
قبل كل رمضان يتبرع أهالي منطقة القلعة من أجل شراء الذبائح  (الترا تونس)

 

وشدد المكلف بالإعلام في جمعية رفق للتنمية البشرية بالقلعة حمد بالرابح على أنّ "أهمّ ما يعمل الجميع عليه هو السرية التامة فقائمة العائلات المحتاجة التي ستتحصل على نصيبها يملكها شخص واحد وتوزّع بعيدًا عن الأعين ويتم الحرص على أدق التفاصيل، وحتى نوع الغلاف الذي تُلفّ فيه قطع اللحم الذي لا يجب أن يكون مميزًا حتى لا يراه أحد الأطفال في حاوية القمامة فيسخر من صديقه أو يقول له ما يجرحه".

الحاجة سالمة (إحدى متساكنات بني خداش): "الفلاحون الكبار يفضّلون التصدق في رمضان بذبح الماشية وتوزيع لحمها على المحتاجين خاصة في العشر الأواخر وقبل ليلة 27 رمضان، يحرصون على اختيار عدد من الذبائح وتوزيعها طلبًا للمغفرة والأجر

أمّا في الجنوب الشرقي، وتحديدًا بني خداش، تقول الحاجة سالمة لـ"الترا تونس": "الفلاحون الكبار الذين يملكون قطعانًا كبيرة من الماشية يقومون باختيار شهر رمضان  للتصدق وذبح الخرفان والماعز وتوزيع لحمها على المحتاجين خاصة في العشر الأواخر من شهر رمضان. فقبل ليلة 27 رمضان، يحرص الفلاحون على اختيار عدد من الذبائح وتوزيعها طلبًا للمغفرة ومدّ يد العون للمحتاجين.

وتؤكد الحاجة سالمة أنّ "هذه العادة قديمة جدًا وأنّ الأبناء يتوارثونها عن الآباء بل إنّ بعض العائلات التي لم تعد تملك قطعان ماشية وأصبح أبناؤها أو أحفادها موظفين، لم تتخلَّ بدروها عن هذه العادة، وظلت تشتري اللحم من الجزار الذي يقسمه لها منابات، وتحرص على توزيعه ليلة 27 رمضان على المحتاجين واليتامى.

تتغير الأجيال وتتعاقب، لكن عادة توزيع اللحم النيء تظل راسخة في الجنوب التونسي محافظة على خصوصياتها وخاصة سريتها حفظًا لكرامة الناس ومراعاةً لمشاعرهم.