27-مارس-2018

تقرر بعض النسوة عدم الإنجاب ('Champ' Pink neon/ زوي باكمان)

ملاحظة : إن كان يسهل عليك الحكم على الآخرين فلا تقرأ هذا المقال

هي  … 
من الوجوه المألوفة في مقهى ليبرتي بـلافايات بالعاصمة تونس، فتاة من الصعب تحديد عمرها، فابتسامتها الرائعة طفولية جدًا. يبدو عليها الهدوء، تترشف قهوتها على مهل شديد. تحمل بين أصابعها قلمًا تلاعبت به طويلًا.  ثمّ نظرت إلى مفكرتها السوداء المفتوحة مع قليل من الحيرة. لم أجد هذا الصباح طاولة شاغرة بالمقهى، كانت تنظر إلي وأنا بصدد البحث عن مكان لي هناك، ابتسمت لي، ثم دعتني إلى طاولتها، همست بصوت خافت "يمكنك الجلوس"، قبلت على الفور وجلست حذوها. لملمت أشياءها المتناثرة على الطاولة حتى تترك مساحة تتسع لقهوتي.

قطعت الصمت بسؤال خاطف: أنت صحفية أ ليس كذلك؟ لقد قرأت لك بعض المقالات. 
أومأت برأسي:  نعم.
ثم سألتها: 
- هل أعجبتك مقالاتي؟

ابتسمت ابتسامة خجولة. ثم قالت:
- سأروي لك قصة لعلها تعجب بعض قرّائك. هل ترغبين في الاستماع؟

كنت أبحث عن شيء أكتبه، بعيدًا عن مواضيعي الصحفية.. شيء مختلف تمامًا.

شابة تونسية: في كل مرة أجهض فيها، أبكي كثيرًا.. أبكي بسبب ذلك الكائن الميكروسكوبي حدّ التعب، ثم أقيم له الحداد على حياة لم يعشها

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يسمح بالإجهاض في تونس؟

بدأت الحديث في رصانة ..
- زرت طبيبي آخر مرة منذ أسبوع، سألني متى ستتزوجين..  سترتاحين كثيرًا فأنت فتاة شديدة الخصوبة وهذا أمر جيد. أنت ربما لا تدركين بعد كم أنت محظوظة، غيرك يزورني من أجل محاولة الإنجاب بينما أنت تأتين إليّ هنا كل مرة من أجل الإجهاض..  نعم لقد أجهضت منذ يومين. في كل مرة أحمل فيها أتخيل جنس الطفل ثمّ أعطيه اسمًا. في كل مرة أجهض فيها، أبكي كثيرًا، أبكي على ذلك الكائن الميكروسكوبي حدّ التعب، ثم أقيم له الحداد على حياة لم يعشها وعلى حياة لم أعشها معه، حدادًا على قطع صغيرة من روحي التي خسرتها في كل عملية إجهاض.

تنهدت ثم واصلت. 
- طبعًا حددّ موعد العملية وقال لي "كالعادة هاتفيني أو اتركي لي رسالة علي رقمي الخاص حين تكونين في الطريق".

شابة تونسية: عندما تبدأ هرمونات الحمل بالظهور يبدأ الجنون، الشهوات والبكاء المفاجئ وفقدان جميع الرغبات والتقيؤ اللانهائي والأكل الجنوني

صمتت. ترشفت قهوتها، نظرت إلي وقالت :

- من المؤكد أنك تتساءلين لماذا لا أستعمل حبوب منع الحمل؟ لا يحق لي تناول الأقراص المانعة للحمل لعدة أسباب طبية معقدة ويطول شرحها في نفس الوقت. وجميع الشباب الذين عرفتهم تقريبًا يرفضون وضع الواقي الذكري بتعلّة أنه يقلل من لذتهم، في الواقع الفرق ليس كبيرًا بالنسبة لي.

خلال سنة واحدة أجهضت أربع مرات وهو رقم قياسي وأمر يخجلني الحديث عنه، أمر كاد يدفع بي إلى الجنون وجعلني أفكر أكثر من مرة في الانتحار. أضحت حياتي كئيبة وباهتة.. أن أنهض كل صباح من فراشي وأترك ورائي جميع الأثقال التي تنوء بها نفسي هو أمر شديد الصعوبة. مسألة الحمل أصبحت تثقل كاهلي وتلتهم وقتي وجهدي وتجعل مني شخصًا كئيبًا وسوداويًا لا يحتمل التواجد معه في نفس الغرفة لأكثر من عشر دقائق. هل تعلمين حجم العبء الذي من الممكن أن ينزاح عن كاهلي لو كنت أستطيع أن أقتسم هذا السر مع أمي أو واحدة من أخواتي. أنا متأكدة أن أمي تشعر بهذه الأمور وتفهمها لكنها ترفض مجرد التفكير فيها.

صمتت. نظرت إلى الأسفل، مسحت دموعًا ولبست نظارتها الشمسية ثم واصلت:

- أتعلمين؟ عندما تبدأ هرمونات الحمل بالظهور يبدأ الجنون، الشهوات والبكاء المفاجئ وفقدان جميع الرغبات والتقيؤ اللانهائي، الأكل الجنوني وعدم القدرة على تحمل الأصوات العالية. وتصبح جميع الروائح دون استثناء مقرفة وحتى أنه يصبح من الصعب علي أن أسيطر على أعصابي. من سوء حظي لم أختبر من الحمل سوى الأشهر الأولى ففي كل مرة أنهيه قبل أن يصل إلى الأسبوع الثامن. في هذه المرة فقدت السيطرة تمامًا. لم أعد قادرة على العمل. لقد أصبت بحالة شلل عقلي. لم أعد قادرة على مجاراة ما يحدث أصبحت مجرد جثة مستسلمة للنوم طوال الليل والنهار ولم تستطع أمي فهم ما يجري. من حسن حظي أن صديقي متفهم جدًا لا بل يحاول بكل جهده أن يخفف وطأة المصاب علي كل مرة لكنه يظن أنني أجعله المخطئ الوحيد وأنني ألعب دور الضحية وأجعل منه المسؤول الوحيد عما يحدث. لم يفهم ربما أنني في كل مرة أفقد جزءًا من نفسي وأنني أريد فقط الاحتفاظ بجزء منه داخلي. وعلى الرغم من أنني أعي تمامًا أن الأمر جنوني وغير وارد إلا أنني انتظرت منه في كل مرة ان يختطفني ونرحل معًا إلى مكان ما بعيدًا عن أحكام وانتظارات الجميع. أنا مثل جميع النساء أحمل غريزة الأمومة بالفطرة ومثل جميع النساء أريد تأسيس عائلة صغيرة ولم أتوقف يومًا عن حبه بل إن روحي متعبة وفقدت جميع الرغبات، حتى في لحظاتنا الأكثر حميمية لا يتوقف رأسي عن التفكير في الأمر.

اقرأ/ي أيضًا: الجنس في تونس.. سلطة الأخلاق وسطوة الغرائز

نظرت في عيني مباشرة وقالت:

- لقد حملت ثماني مرات في حياتي وأجهضتهم جميعًا. وفي كل مرة كنت أتمنى فقط أن أفرح في المرة القادمة بخبر حملي مثل ما يحدث مع جميع النساء على هذا الكوكب.

نظرنا إلى بعض ونزلت دموع من أعيننا في نفس اللحظة. تلا هذه اللحظات صمت مريب قطعه صوت فيروز "ايه فيه أمل أوقات  بيطلع من ملل". ثم استطردت.

- أنا لا أريدك أن تظني أنني ضحية مسكينة. أنا على وعي تمامًا أنني مسؤولة عما يحدث لي كل مرة. أتعلمين؟ الأمر يثير سخرية أصدقائي وصديقاتي لشدة ما يتكرر معي.

ترشفت قهوتها ثم قالت:

- الآن وقد انتهى كل شيء دعيني أحدثك عن بعض التفاصيل التي حدثت معي آخر مرة. في بهو استقبال المشفى الخاص الفاخر استقبلتني شابة متزوجة حديثًا. عرفت هذا من لون شعرها و"الحرقوس" الذي يزين يديها والكمية الهائلة من مساحيق التجميل التي تضعها على وجهها. كانت تلبس خاتم زواج ضخم لم تتوان عن إظهاره لي عندما مددت لها المغلف الخاص بطبيب النساء. استقبلتني ببرود تام وضحكة صفراء مقرفة "أنت المريضة ؟". أجبت "نعم". صرخت فجأة "أعطني بطاقة هويتك". أعطيتها البطاقة أدخلت المعلومات في الحاسوب ثم نظرت إلي نظرة احتقار وقالت "ماشاءالله أنت زبونة مألوفة هنا هل أنت متزوجة؟ ". تجاهلت سؤالها فهو أمر لا يعنيها و لا يعني المشفى. في العادة يمر كل شيء على ما يرام ويستقبلونني استقبالًا جيدًا ويوفرون لي كل أسباب الراحة. في هذه المرة كان كل شيء سيئًا من البداية الى النهاية. ربما لأنه كان يوم سبت. دخلت غرفة العمليات. تفاجأت بأني لم أكن بمفردي، كانت معي سيدة على الطاولة التي بجانبي بصدد الولادة، جاء طبيب التبنيج وضع لي الحقنة وعندما استيقظت كانت السيدة قد ولدت توأمًا لم يتوقفا عن الصراخ أما أنا فلم أتوقف عن البكاء.

شابة تونسية: سوف أعود قريبًا إلى حياتي العادية. سوف أهتم بنفسي جيدًا و لن أحمل مجددًا

نظرت إلي مبتسمة وأبرقت عيناها بالدمع:

- أنا الآن بخير. شخص واحد قطعة واحدة. سوف أعود قريبًا إلى حياتي العادية. سوف أهتم بنفسي جيدًا ولن أحمل مجددًا الى الأبد لأنني لم أكبر بعد ولم أتعلم بعد. أمامي الكثير ويجب أن أعيد ترتيب حياتي. الآن وقد أفرغت سلتي أشعر بخفة شديدة. شكرًا لوقتك ولاهتمامك. يمكنك نشر قصتي إن أعجبتك".

ثم أضافت ساخرة:

- نعيش في بلد يعطينا الحق في الإجهاض، تخيلي لو كنت ولدت في بلد عربي آخر، هذا هو الجانب الإيجابي من القصة على كل حال.

قالت هذه الجملة الأخيرة ثم فتحت مفكرتها وبدأت بإعادة تنظيم مواعيد وأعمال متراكمة.

كانت قد مرت ساعة لم أنطق فيها بكلمة واحدة. كنت أترشف قهوتي بخجل وأنظر إليها بتردد فلم أكن أريدها أن تظن للحظة أني أحكم عليها أو أحتقرها أو أنها تثير شفقتي، فتحت حاسوبي وأعدت كتابة كل حرف من قصتها بسرعة حتى لا أنسى أي تفصيل منها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حقوق التونسية تتدعم.. إجازة أبوة بـ15 يومًا قريبًا في تونس

10 أحكام مميّزة لدستور العائلة التونسية