مقال رأي
"كم أتمنى لو لم أولد ولم أكن موجودًا على هذه الأرض"، عبارة يرّددها الكثير منّا، إن لم تكن ترد على ألسنتنا جميعًا في بعض لحظات الغضب أو اليأس، أو لم تخالج شعورنا وتسكن عقولنا عندما يغلبنا الإحساس بالعجز أو الحزن أو الخيبة أو غيرها من المشاعر السلبية التي لا نستطيع التحكم فيها دائمًا.
نحن نأتي مكرهين إلى هذا العالم، لا نختار جنسنا ولا هويتنا، لا نختار والدينا أو حتى أسماءنا
اقرأ/ي أيضًا: هل أتاكم حديث الطفولة المغتصبة؟!
ولئن كانت هذه العبارة تُستعمل عادة كتعبير عن السخط أو اليأس، إلا أن لها من الدلالات الشيء الكبير لو تأملنا فيها بعض الشيء. فنحن في نهاية المطاف لم نختر أن نولد، ولم تكن لنا أبدًا حرية اتخاذ القرار في موعد قدومنا ولا البلاد التي سنحلّ فيها أو العالم الذي سنعيش فيه.
نحن نأتي مكرهين إلى هذا العالم، لا نختار جنسنا ولا هويتنا، لا نختار والدينا أو حتى أسماءنا، نحن نصل إلى هذا العالم كي نضمن استمرارية البشر على هذا الكوكب، دون أن يستشيرنا في ذلك أحد أو أن تُطلب موافقتنا. ولكن هذه الحياة التي نولد من أجل استمراريتها قد تضعنا أمام ظروف صعبة جدًا تدفعنا إلى التساؤل عن الذنب الذي اقترفناه كي يجيء بنا إلى هذا العالم.
فإذا كنا نحن، رغم كلّ محاولاتنا عيش الحياة التي نريدها فعلًا، وفي ظلّ ما يعيشه العالم من مآس وحروب وصراعات، وكلّ ما تشهده أوطاننا من خراب وعنف وجهل متزايد، نتساءل عن الذنب الذي ارتكبناه كي نعيش اليوم على هذا الكوكب، ومع عجزنا على العودة إلى الوراء لإيقاف عملية إنجابنا، أليس الأجدر بنا أن نقف لحظة ونتأمل أنفسنا ونسألها "لماذا نحرص نحن على استكمال الحلقة المفرغة التي تعيشها البشرية منذ قرون؟ وأي ذنب اقترفه الأطفال الذين ولدوا بالأمس واليوم وسيولدون غدًا؟ ما الذي فعلوه كي نجبرهم على القدوم إلى هذا العالم؟ وأي عالم هذا سيعيشون فيه؟".
الأرجح أن الكثيرين سيصفونني هنا بالعدمية في أفضل الحالات وبرفض "حكم" الله في أسوئها، ففي المنطق السائد يتمثل الدور الرئيسي للمرأة والرجل في التزاوج والإنجاب كي لا ينقرض البشر إلى حين أن تدق ساعة نهاية الحياة على الكرة الأرضية، لينحصر بذلك دور الإنسان في كونه آلة خصوبة وإنجاب مهما كانت إنجازاته المهنية والعملية ومهما انغمس في العلم والأبحاث أو الدراسات والفلسفة لتحسين هذه الحياة.
ولكن العقل، تلك المجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي والمعرفة والتفكير والحكم واللغة والذاكرة، يدفعني بشدة إلى التمرّد على المنطق السائد والاحتجاج ضد مبدإ حصر الإنسان في دوره البيولوجي كجهاز توالد، لعدّة أسباب وعوامل منها ما هو بديهي جدًا ويمكن اختصاره "أي إثم هذا نريد ارتكابه عندما نفكر في إحضار مزيد من الأبرياء إلى هذا العالم دون رغبة منهم؟".
شوبنهاور: ألن يمتلك الإنسان من الشفقة ما يكفي لإعفاء الجيل المقبل قسوة الوجود؟
هذه الإجابة البديهية لن تكون كافية للكثيرين الذين سيتهمونني بالعدمية والتشاؤم، ولكنهم سيتجاهلون أن هناك فلاسفة أسسوا ودافعوا عن هذه النظرية أو الفلسفة التي تُسمى بـ"الفلسفة اللاإنجابية".
تعود هذه الفلسفة إلى زمن بعيد وقد ظهرت في تاريخ اليونان القديم في أعمال الروائي والمسرحي اليوناني "سوفوكليس". كما كان الفيسلوف الكبير أرسطو من المدافعين عن اللاإنجابية، ويقول في كتابه "أخلاق بوديمس"، "بالنسبة للبشر فإن أفضل شيء بالنسبة لهم هم ألا يولدوا أبدًا، وألا يكونوا جزءًا من هذا العالم، وهذا هو الخيار الأول الذي ينبغي أن نختاره إذا كان متاحًا، أما الخيار التالي الأفضل لنا، إذا حدث وولدنا، فهو أن نموت في أقرب وقت ممكن".
ولعلّ من أبرز الفلاسفة المدافعين عن هذه الفلسفة، الفيسلوف الألماني آرثر شوبنهاور، الذي يمكن القول إنه أول من طرح المسألة باعتبارها ضرورة أخلاقية، باعتبار أنه يرى أن الحياة تخلو من السعادة، وفي أفضل الحالات تتيح قدرًا ضئيلًا منها للإنسان الذي يضيع في ظلّ البؤس المسيطر عليها، ولذلك من غير المنطقي إنجاب طفل ليعيش هذه التجربة غير المجدية.
شوبنهاور نجح في اختصار كلّ ما يختلج أعماقي من حجج تؤكد أهمية اللاإنجاب في عالمنا اليوم عندما طرح هذا التساؤل "لو كان إنجاب الأطفال قرارًا يقوم على المنطق العقلي الصرف، هل سيستمر الجنس البشري بالوجود؟ ألن يمتلك الإنسان من الشفقة ما يكفي لإعفاء الجيل المقبل قسوة الوجود، أو على الأقل ألا يقوم بنفسه بدم بارد بفرض عبء الوجود على أفراد جدد؟".
قد يذهب البعض إلى أن ظروف حياة شوبنهاور الصعبة هي التي دفعته إلى التفكير بهذه النظرة السوداوية، ولكن الفيلسوف الألماني ليس وحيدًا في تبني الفلسفة اللاإنجابية، حتى إن بعض الفلاسفة والأدباء العرب تبنوا هذه النظرية، على غرار الأديب أبو العلاء المعري، الذي اعتبر أن الإنجاب "عقد إجاره باطل، غاب فيه التراضي، والأجير فيه لم يُبلغ ولم يحضر، وفيه غبن". ونُقش على قبر المعري، الذي لم يتزوج ولم ينجب أطفالًا، البيت الذي يقول فيه "هذا ما جناه أبي علي.. وما جنيتُ على أحد".
من المرجّح كذلك أن الكثيرين لن يقتنعوا بما يقوله الفلاسفة، ولن يعيروا لهم أي اهتمام، لذلك لنعد إلى واقعنا المعاش ونعيد النظر في مقولة الشاعر الفلسطيني العظيم محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، بكلّ موضوعية وبتجرّد تام من كلّ عاطفة.
اقرأ/ي أيضًا: "رد بالك على عصفورتك".. عن عالم الجنس وبراءة الطفولة
هل سيكون من العدل أن نتحوّل إلى جناة ونفرض على أفراد آخرين العيش على هذا الكوكب الذي يقوده سكانه إلى الخراب عاجلًا أم آجلًا
لن نبتعد كثيرًا ولنكتف بمتابعة ما يحصل في تونس ولنتخيّل قصة حياة طفل يولد هنا. الرحلة ستبدأ من جنين يكبر داخل رحم أمه الذي تنتظر قدومه بفارغ الصبر. إذا كان محظوظًا كفاية ستتمّ متابعة حالته ونموّه في عيادات خاصة من قبل أطباء بارعين سيفعلون كلّ شيء لضمان سلامته وسلامة والدته. أما إذا لم يكن حظه وافرًا، ستعاني أمه الأمرين وهي تتنقل طيلة فترة حملها بين مكان إقامتها والمستشفى الذي يبعد عنها كيلومترات كي يعاينها طبيب مرّت أمامه في يوم واحد عشرات النساء إلى درجة لم يعد فيها قادرًا على إحصائهن، فوق سرير تملؤه الأوساخ. إذا مرّت هذه الأشهر بسلاسة وحان موعد خروج الطفل من رحم أمه إلى عالم لن يرحب به كثيرًا، تبدأ أولى الصعوبات في ضمان وصوله ووالدته إلى المستشفى في صحة جيدة (على قيد الحياة أقله)، وعند وصولهما لا بد من توفر طبيب مختص، فكم من مستشفى من مناطقنا الداخلية يشكو غياب أطباء الاختصاص، وخصوصًا أطباء النساء، الأمر الذي أدى وما يزال يؤدي إلى وفاة العديد منهن.
وإذا توفر الإطار الطبي وتمت عملية الولادة بنجاح، في ظروف لا يمكن وصفها إلا بأنها غير إنسانية، فلا بدّ أن يكون الرضيع محظوظًا جدًا إذا لم يتعرّض إلى التسمم بسبب خطإ طبي مقصود أو غير مقصود. وفي حال غادر الرضيع وعائلته المستشفى وهم على قيد الحياة، تبدأ رحلة طويلة أخرى لتأمين الحدّ الأدنى من الظروف المناسبة لتنشئته.
إثر ذلك، تبدأ المعاناة مع التعليم والمدارس. إذا كان الطفل محظوظًا، سيسجّله والداه في مدرسة خاصة أين سيتلقى تعليمًا جيدًا في ظروف جيدة نسبيًا. وإذا لم يكن كذلك، سيجد الطفل نفسه في مدرسة تخلّى فيه جلّ الإطار التربوي عن مهامه وابتعد عن دوره القريب من دور "الرسول"، باستثناء البعض منهم.
وإذا تجاوز كلّ ذلك، سيواجه الطفل، المحظوظ وغير المحظوظ، شارعًا سيطرت عليه المخدرات وأمراض نفسية وعمليات اغتصاب وتحرّش. ففي إذا تمكن من النجاة من كلّ ذلك، وواصل تعليمه وتخرج بعد إنهاء دراساته العليا، سيجد نفسه مطاردًا إما من شبح البطالة أو من لوبيات تعمل على اغتيال أي طموح شاب قد يمسّ من مصالحها.
وفي حالات أسوأ من هذه، قد يجد الطفل نفسه مكرهًا على مغادرة مقاعد الدراسة والبحث عن أي عمل لتوفير قوت يوم عائلته، إما لوفاة معيل العائلة أو لأن ظروفها الاقتصادية تحول دون تمكينه من الحصول على حقه المبدئي في التعليم. كما قد يجد نفسه عرضة للتشرد والتسول والاستغلال الاقتصادي وأحيانًا الجنسي.
هذا ليس كافيًا؟ التفكير في الهجرة أمر جميل. ولكن الهجرة ليست متاحة للجميع. كما يبدو أنه لم يعد هناك مكان آمن في العالم. فموجة التطرّف اليوم تكبر يومًا بعد يوم، والتطرف هنا ليس المقصود به الإسلامي فحسب، بل التطرف اليميني بكلّ أشكاله، ذلك التعصّب الذي يؤدي إلى جرائم كراهية وتلك العنصرية المقيتة التي تغرس قيم احتقار الآخر المختلف عوضًا عن احترامه.
لم يعد في هذه الأرض ما يستحق الحياة، فالرداءة أصبحت القاعدة والجمال الاستثناء
هذا دون أن ننسى الحروب والصراعات التي لا تكاد تنتهي واحدة حتى تبدأ أخرى جديدة، بتسميات مختلفة ولكن تقريبًا للأسباب والتعلّات ذاتها تقريبًا. إلى جانب المجازر والمجاعات التي تجتاح العالم رويدًا رويدًا. دون أن ننسى أن العدد المتزايد لسكان الكرة الأرضية يستنزف مواردها الطبيعية بشكل مخيف، إذ تقدّر الأمم المتحدة أن عدد سكان الأرض تجاوز 7 مليار في 12 مارس/ آذار 2012، ومن المرجّح أن يصل عام 2050 إلى 9.2 مليار نسمة، رقم هائل من شأنه أن يسفر عن القضاء على الموارد الأساسية للحياة.
كلّ هذه الوقائع التي نعيشها يُفترض أنها تدفعنا إلى التفكير مرتين قبل التسليم بدورنا "البيولوجي الطبيعي" والتفكير في الإنجاب، فإن نحن جئنا مدفوعين إلى هذا العالم، مكرهين غير مخيّرين، وأجبرنا على أن نعيش كلّ هذه الفوضى وهذا الخراب دون أن نطلب ذلك، هل سيكون من العدل أن نتحوّل إلى جناة ونفرض على أفراد آخرين العيش على هذا الكوكب الذي يقوده سكانه إلى الخراب عاجلًا أم آجلًا.
أود أن أعتذر فعلًا من محمود درويش، فشاعرنا ربما لم يعش هذه الأيام التي نعيشها، ولعلّه إذا عاين ما تعانيه أجيال اليوم، لفكّر كثيرًا قبل أن يكتب بيته الشهير، المعذرة درويش، فلم يعد في هذه الأرض ما يستحق الحياة، فالرداءة أصبحت القاعدة والجمال الاستثناء، والحروب والصراعات والمصالح الشخصية طغت لتضيع في غياهيبها أحلام البسطاء والحياة الكريمة للشعوب.
ولكلّ هذه الأسباب وغيرها، والتي يطول شرحها وتعدادها، من الضروري أن تصبح الفلسفة اللاإنجابية ضرورة أخلاقية. وإلا سنكون مذنبين وجناة كمن سبقنا وأحضرنا إلى هذه الحياة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: