للزواج تعريفات ومقاربات مفهومية عديدة ومتعددة المداخل فمنها ما هو نفسي وقانوني وما هو سوسيو ثقافي، وما هو ديني وفلسفي وإناسي. لكنها في النهاية تبقى تأويلات قصووية خلص إليها الإنسان بمشقة وتحدث داخل اللغة وخارجها وباللغة نفسها بأساليب بلاغية شديدة التعقيد لحدث بشري له أوجه مختلفة ومتشابكة بطرائق عجيبة وغريبة، يبدو ظاهره اجتماعيًا سرديًا يميل إلى المشهدية السينمائية، في حين أنّ باطنه غريزي ونفسي مشاعري "كالماء يجري لا نقف له على وقفةٍ قَطُّ".
الزواج سكينة النفس إلى النفس والتحام لا مرئيّ شفيف للأرواح البشرية في فضاء الحياة الواسع الفسيح والوجود المتدد اللاّمتناهي، وذلك من أجل أن تستمر حياة الإنسان وتواصل مسيرتها المعلومة والمجهولة في نفس الآن.
إذًا الزواج هو جوهر وأُسّ ومركز أعلى من كل أرصدة المفاهيم وأعمق من عميق اللغة وبلاغتها، إنه "المقدّس" والمُطلق المعتدّ برمزيته، الذي يعيش معنا ونعيش داخله حتى نستمرّ.
أما نقيض الزواج ووجهه الآخر الخفي الذي يسكن كالبذر الحرّ في غياهب التربة فإن اللغة، ذات اللغة التي قاربت مفهوم الزواج، سارعت وبنفس الأدوات إلى تسميته بـ"الطلاق"، وهو ذاك الانفصال الذي يحدث أثناء سيرورة الزواج.
تونس كغيرها من المجتمعات استشرى فيها الطلاق وهزّ أركان الأسر وحسب مؤشرات وزارة العدل فإن أحكام الطلاق في تصاعد ملحوظ، فآخر المعطيات تفيد بأنه خلال السنة القضائية 2021 ـ 2022 أصدرت المحاكم قرابة 15 ألف حكم متعلق بالطلاق
فالطلاق هو انطلاق آخر نحو أفق آخر تسعى فيه الذات إلى التحرر مما كانت فيه وتبحث لنفسها عن مستقرّ أكثر سلامة وسلمًا وربما هو بداية جديدة لحياة أفضل. والحديث عن الطلاق لدى الفرد والمجموعة والتفكير حوله أمر غير محمود ومنبوذ ومتجنّب، حتى أنّ المجتمعات الشرقية تتطير منه، في حين أنه وجه آخر للزواج.
وتونس كغيرها من المجتمعات الأخرى، استشرى فيها الطلاق وهزّ أركان الأسر بمختلف الجهات والمدن هزًّا مدويًا لافتًا. والأسباب هنا تبدو عديدة ومتشابكة حد الانصهار. وحسب مؤشرات وزارة العدل التونسية فإن أحكام الطلاق في تصاعد ملحوظ، فآخر المعطيات تفيد بأنه خلال السنة القضائية 2021 ـ 2022 أصدرت المحاكم التونسية 147706 أحكام متعلقة بالطلاق في مختلف الأطوار.
وفي نفس الوقت، أصدرت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن بتونس رقمًا مخيفًا في علاقة بعمليات الطلاق وهو أنها تلقت 22690 إشعارًا يهم الأطفال منهم 13465 طفلًا يعيشون تهديدًا في فضاءاتهم الخاصة داخل البيوت جراء الأزمات العائلية التي تشرّع على الطلاق والانفصال بين الوالدين.
الطلاق الصامت هو ظاهرة متخفية وغير مصنفة ومن النادر أن يتم التطرق لها بشكل دقيق وتشخيصها بوضوح وهي تتمثل في أن يعيش الزوجان طلاقًا رمزيًا وروحيًا ويظلَّا يعيشان معًا تحت سقف واحد دون الذهاب إلى أروقة المحاكم
كما سجلت مصالح ذات الوزارة 104 محاولات للانتحار في صفوف أطفال بعضها يعود إلى طلاق الوالدين وآلاف المنقطعين عن الدراسة بسبب التفكك الأسري.
كل هذه الأرقام هي ما طفا على السطح مما يحدث في أروقة مؤسسة الأسرة من شروخ وجراحات لها انعكاساتها السلبية على استقرار المجتمع. وهي معطيات ومؤشرات تشي بخطورة ما يحدث في المجتمع، لكن في نفس الوقت تغيب المعطيات المتفرعة الأكثر دقة، وأيضًا يغيب التفكير الجماعي حول هذه المواضيع المجتمعية الحارقة.
كل ما ذكرنا يبدو أنه تعاطٍ متقادم لظواهر مجتمعية قديمة متأصلة وباقية وقدرها أن تستمر بسبب طبيعة الإنسان وطبيعة المجتمعات، لكن إذا ما دققنا النظر مليًّا نجد أنه وراء كل ذلك هناك ظاهرة متخفية وغير مصنفة ومن النادر أن يتم التطرق لها بشكل دقيق وتشخيصها بوضوح والاتفاق حولها كعطب في علاقة الزواج، لكنها بدأت في البروز بفضل تعاطي بعض المنصات الإلكترونية المختصة وتم الشروع في الحديث حولها، وهي ظاهرة الطلاق الصامت.
الطلاق الصامت هو أن يعيش الزوجان طلاقًا رمزيًا وروحيًا ويظلَّا يعيشان معًا تحت سقف واحد دون الذهاب إلى أروقة المحاكم. إنه الانفصال واللّاانفصال في نفس الآن. ولهذا النوع من الطلاق أسباب عديدة وتبعات وانكسارات نفسية لا تندمل أبدًا.
-
حالات الطلاق الصامت.. انكسارات لا ترمّم
وبهذا الخصوص، يروي محمد، وهو رجل خمسيني أصيل مدينة قابس بالجنوب التونسي ويشتغل بالعاصمة أستاذًا بالمدارس الإعدادية بإحدى الضواحي الشعبية ومتزوّج منذ عقدين من الزمن، لـ"الترا تونس"، أنّه "تعرّف إلى زوجته في إحدى المناسبات العائلية، حيث انخطف قلبه إليها منذ النظرة الأولى وبادلته نفس المشاعر، وكتب في جمالها قصائد لا تحصى، وتم تتويج ذلك بالزواج".
ويضيف محمد أنّه "بعد أن منّ عليهما الله بتوأم من البنات، اكتشف أنّ بقلب زوجته حنينًا لحبيب قديم رغم سفره خارج تونس وزواجه وإنجابه أطفالًا". وهنا يذكر محمد أنّ تلك الحادثة كانت بعد 5 سنوات من الزواج لكنها كانت قاسية ومحددة لعلاقته بزوجته.
محمد (أستاذ) لـ"الترا تونس": بعد أن اكتشفت أنّ زوجتي لا يزال في قلبها حنين لحبيب قديم قررت اللجوء للطلاق الصامت حفاظًا على صورة العائلة أمام المجتمع وخصوصًا أمام بناتي
وقد وصف مشاعره بأنها تحولت إلى قطعة من جليد قطبي. فبعد أن فاتح زوجته في الموضوع المكتشف قرر الطلاق. لكن الطلاق الذي تخيّره معنوي بالأساس وبعيدٌ كل البعد عن أروقة المحاكم. إنه الطلاق الصامت والانفصال الروحي التام رغم العيش معًا في منزل واحد والتفكير معًا في مستقبل التوأم والذهاب معًا إلى المناسبات العائلية.
ويعلل محمد سبب اختياره هذا النوع من الطلاق بضرورة الحفاظ على صورة العائلة أمام المجتمع وخصوصًا بناته. ويعتبر محمد نفسه "ضحية للتلاعب بعاطفته الصادقة، ورغم ذلك قام بتضحية كبرى تتمثل في البقاء مع زوجته وذلك من أجل المحافظة على صورة مجتمعية وفي نفس الوقت من أجل توازن البنتين"، حسب قوله.
أحلام، سيدة لم تتجاوز العقد الرابع من عمرها تشتغل بقطاع البريد وتقيم بالعاصمة تونس، لها ابن وحيد وتشترك مع زوجها في ملكية شقة بأحد الأحياء الناشئة.
ذكرت لـ"الترا تونس" أنها في وضعية طلاق صامت منذ سنوات وذلك بعد أن اكتشفت صدفة أنّ زوجها اقتنى منزلًا جديدًا بواسطة قرض بنكي وسوّغه منذ خمس سنوات وهي لا تعلم بالقصة أصلًا. واعتبرت ذلك خيانة من زوجها. وقد علّل الزوج ذلك، حسب رواية أحلام، بأنّه أمر شخصي وأنه ليس مطالبًا بالإعلام والتفسير. وهنا تقول أحلام: "في تلك اللحظة شعرت بالانطفاء وماتت مشاعري تجاهه". وأضافت أنّ موت المشاعر أعتى من طلاق المحاكم لذلك قررت الطلاق الصامت.
أحلام (موظفة) لـ"الترا تونس": أنا في وضعية طلاق صامت منذ سنوات وأعيش مع طليقي في منزل واحد ونتحدث ونجلس معًا في غرفة الاستقبال وأساعده عند المرض.. بالنسبة لي موت المشاعر أعتى من طلاق المحاكم
وتفسّر أحلام أنّ "الطلاق الصامت هو حياة مخصوصة مليئة بالانكسار العميق والانتصار للذات المعطوبة رغم التظاهر بعدم السقوط. وتشير محدثتنا إلى أن ابنها الوحيد هو الآن في مرحلة عمرية لا تخوّل له فهم ما ذهب إليه أبواه من قرارات غير معلنة.
وعن كيفية العيش مع الزوج داخل منزل واحد رغم قرار الطلاق الصامت، تؤكد أحلام أن المسألة يصعب تفسيرها، لكنها حالة تعاش ولا تقال، معقبة: "أنا لا أراه رغم تحدثي إليه والجلوس معه في غرفة الاستقبال ومساعدته عند المرض، كل ذلك بدوافع إنسانية وليست عاطفية".
قصة أخرى من قصص الطلاق الصامت ترويها سمية التي تقيم باحدى مدن الشمال الغربي التونسي وهي تشتغل في قطاع الصحة العمومية وتزوجت من قريبها الذي اشتغل لفترة بالقطاع البنكي وأنشآ معًا عائلة صغيرة وأنجبًا بنتًا سرعان ما لحق بها شقيقها، ويدرس كلاهما الآن بالمستوى الابتدائي.
سمية (موظفة) لـ"الترا تونس": خيّرت الطلاق الصامت بعد أن تفطنت إلى أنّ زوجي يختلس أموالًا من عمله في البنك.. لم أكن لأتخيّل يومًا أن يقدم رفيق دربي على مثل هذا الصنيع وأن ينفق على العائلة مالًا حرامًا
تقول سمية إنّها، بعد خمس سنوات من الزواج، تفطنت إلى أنّ زوجها كان يختلس مالًا من عمله بالبنك وسرعان ما تطور الأمر إلى عزله من عمله بعد أن تفطن لاختلاسه متفقد مركزي.
وتضيف محدثتنا أنّ شرخًا حصل بينها وزوجها، فهي لم تكن لتتخيل يومًا أن يقدم رفيق دربها على هذا الصنيع وأن ينفق على العائلة مالًا حرامًا، وفق قولها. وعلى هذا الأساس، قررت سمية الانفصال عن زوجها انفصالًا عاتيًا وهو الطلاق الصامت.
واعتبرت سمية ذلك عقوبة أشد من عقوبة الطلاق القانوني، فأصبحت تعيش بغرفة منفردة بمنزل الزوجية متعللة في ذلك أمام الأهل والعائلة بأسباب صحية وأن الطبيب دعاها لذلك.
وعن قبول الزوج بهذه الوضعية، أشارت سمية إلى أنه يشعر بوخز الضمير وأنه حاول أكثر من مرة ترميم العلاقة لكن ما يفعله كان عبثًا. وأكدت أن زوجها يعيش هذه الوضعية "المابينية" على أمل العودة إلى قلبها.
-
رأي علم النفس: "تبقى العائلة في حرمان دائم من السعادة"
بخصوص الطلاق الصامت، تقول المختصة في علم النفس والباحثة بالجامعة التونسية سوسن درين، في حديث مع "الترا تونس"، إنّ "هذه الحالة هي نفسية بالأساس، إذ لا يجود قانونيًا ما يسمّى بالطلاق الصامت".
مختصة في علم النفس لـ"الترا تونس": الطلاق الصامت هو نوع من التصعيد الذي يذهب إليه أحد الزوجين كعقوبة رمزية ومعنوية على عمل مشين أو حط من الثقة التي تربطهما
وتضيف: "هو نوع من التصعيد الذي يذهب إليه أحد الزوجين كعقوبة رمزية ومعنوية على عمل مشين أو حط من الثقة التي تربطهما"، معقبة أنّ "هذا النوع من السلوك النفسي يسمى الهجر أيضًا وهو اصطلاح حضاري أدبي، وفقها.
أما عن الأسباب التي تؤدي إلى الطلاق الصامت، فتبين المختصة في علم النفس أنّ الزواج ينبني أساسًا على رابطة عاطفية وهي الوثاق الأبدي للزوجين، وهو نوع من الالتزام الأخلاقي الدائم لا ينقطع مهما حصل"
واستدركت سوسن درين قائلة: "يحدث أن يعبث أحد الزوجين داخل هذه المنطقة المحرمة فيفضي ذلك إلى قطيعة لا مرئية وإلى شرخ لا يندمل وإلى هجر بالرضى قد يتطور أحيانًا إلى طلاق قانوني لكنه قد يدوم لاعتبارات عديدة منها مراعاة الصورة الاجتماعية أمام العائلة والمكانة في العمل".
مختصة في علم النفس لـ"الترا تونس": تبعات الزواج الصامت قاسية أحيانًا، إذ تظل العائلة محرومة من السعادة ومقيمة في مناطق الحزن والحذر، وسيكون لذلك خصوصًا انعكاس على الأطفال والعلاقات بين الأصهار
وتشير الأستاذة المختصة في علم النفس إلى أن "تبعات الزواج الصامت قاسية أحيانًا، إذ تظل العائلة محرومة من السعادة ومقيمة في مناطق الحزن والحذر، وسيكون لذلك خصوصًا انعكاس على الأطفال والعلاقات بين الأصهار إذا كانوا من الأقارب".
أما عن الحلول المقترحة، فترى محدثة "الترا تونس" من وجهة نظرها كمختصة أنّ الشروخ الحاصلة بين أي زوجين لا تعالج فرديًّا، بل لا بدّ من تدخل المقربين والمختصين.
إن الطلاق الصامت هو ظاهرة تهم كل المجتمعات بما فيها المجتمع التونسي، لكنها ظاهرة منسية وغير متطرق لها من قبل المؤسسات الرسمية للدولة، إذ تغيب المعطيات والمؤشرات والدراسات التي تنبه إلى الظاهرة وطرق التعاطي معها وعلاجها، خاصة وأن انعكاساتها شديدة السلبية على مؤسسة الزواج وعلى الأفراد.