01-مايو-2020

فرضت أزمة كورونا أجواء خاصة في شهر رمضان (وسيم الجديدي/جيتي)

 

تحضر مقولة "رمضان ملء قلوبنا" في الفضاء اللّغوي اليومي مع كل حلول للشهر الكريم كاستعارة لاشعورية مرتبطة بجوهر الدين الإسلامي، وتبدو أيضًا كمفردة روحية وهوية صغيرة في الحضارة العربية العريقة برمزياتها الإثنية القديمة.

هي مقولة ذات معاريج تخلق تجددها الداخلي في كل دورة حول، فيكون حضورها مؤنسًا للمسلمين في شهر الصيام والقيام، قد نلفظها ببساطة ونمرّ لترتيب أيّام الصيام وما تعلّق بها. أمّا إذا ما تمعنّاها مليًا، نجد أنّ هذه المقولة مرتبطة بتفاعل سريّ بين الرؤية الأكثر ذيوعًا وعمومية للشهر الكريم والنظام الروحي الذي يسكنها حتى قبل مجيء الإسلام فتظلّ تدهشنا في كل مرّة وفي كل حين.

تحوّلت شبكة الأنترنت إلى ملاذ كاسر للقيود التي وضعها وباء كورونا وإلى فضاء ميسّر للشأن الديني في شهر رمضان

أمّا السؤال الذي يمكن أن نطرحه هذه الأيام في الشهر المعظّم لسنة 1441 هجري الموافق لسنة 2020 ميلادي والعالم تعصف باستقراره جائحة كورونا المنتشرة في أغلب البلدان في ظل أرقام مخيفة سواء في عدد الموتى أو التداعيات الاقتصادية هو: كيف ستمتلئ القلوب بعطر رمضان في زمن العطالة والتباعد الجسدي والاجتماعي؟

يبدو أنّ مقولة "رمضان ملء قلوبنا" تتزيّ هذه السنة بأزياء "الاستثناء الكوروني" المفروض على المسلمين في كل بقاع الدنيا، وتعيش تونس كغيرها من البلدان الإسلامية ولأول مرّة رمضانًا بنكهة مختلفة. إذ حلّ الشهر الكريم ملء قلوب التونسيين في ظل تعطّل الأنشطة الدينية وغلق جميع المؤسسات الدينية ومن بينها ما يفوق عددها إلى 5470 جامعًا ومسجدًا وانقطاع حلقات الذكر والدروس الدينية.

اقرأ/ي أيضًا: حوارات | كيف يفهم كبار أساتذة الفلسفة في تونس أزمة كورونا؟

يبدو أنه ثمة حلول بديلة تعيد الوصل الروحي والديني بين الناس، إذ ذهب جانب من التونسيين إلى بعث ما سمّاه البعض بـ"رمضان الافتراضي". فإلى جانب موجة التهاني الإلكترونية بالشهر الكريم، تعددت الدّعوات عبر المنصّات الألكترونية ومواقع الجمعيات الدينية وصفحات شبكات التواصل الاجتماعي للقيام بالصلوات عن بعد ونقلها عبر خدمات البث المرئي المباشر المتاحة عبر الأنترنت بما ذلك فيها صلاة التراويح وتقديم الدروس الدينية وتواصل الأئمة والوعّاظ مع المؤمنين والإجابة عن أسئلتهم المتعلقة بتفاصيل صوم شهر رمضان أو بالشأن الديني عمومًا أو تقديم حصص تجويد القرآن الكريم أو الأناشيد الدينية أو تعليم الخط العربي.

تحوّلت بذلك شبكة الأنترنت إلى ملاذ كاسر للقيود التي وضعها وباء كورونا وإلى فضاء ميسّر للشأن الديني، تمنح الناس فرصة استثنائية لتعزيز ثقافتهم الدينية.

لكن "رمضان الافتراضي" المستجدّ هو محل نقاش وجدل بين عامة الناس والمختصين في الشأن الديني، فثمة من يؤيّد هذا الخيار إفتراضي ويرى في ذلك مرونة وتيسيرًا لحياة المسلم، وثمة من يرى أن في ذلك تعسفًا على الدّين في ثوابته وجوهره.

ألترا تونس تناول "رمضان الافتراضي" مع مختصين وباحثين في العلوم الإسلامية والتعليمية، وكانت هذه محصّلة اللقاءات:


معتز عكاشة (رئيس جمعية صاحب الطابع للثقافة الإسلامية): كورونا هي رسالة مقاصدية

تأسست جمعية صاحب الطابع للثقافة الإسلامية سنة 2011 وينسب اسمها إلى يوسف صاحب الطابع المكنى بأبي المحاسن لكثرة محاسنه وفعل الخير الذي كان يقوم به وهو تاجر ثري وسياسي معروف عاش في عهد حمودة باشا. ويوجد مقرّ الجمعية في ربض الحلفاوين بالمدينة العتيقة وهي ذات أنشطة دينية وثقافية متعدّدة متجسدة في شكل نواد للموسيقى العربية الأصيلة والسينما الهادفة وتظاهرات ومسابقات في حفظ القرآن، وتضمّ أزيد من ألف منخرط أغلبهم من الشباب.

تكيّفت هذه الجمعية مع الوضع الاستثنائي الذي فرضته جائحة كورونا، فقدّمت منذ بداية الحجر الصحي ومضات تحسيسية وتوعوية مرئية وردت على صفحتها الرسمية تحت عنوان "دقيقة كورونا". كما أعدت لشهر رمضان المعظّم برنامجًا خاصًا على شبكة الأنترنت.

معتز عكاشة: تحمل صلاة التراويح الافتراضية فوائد لعل أهمها متعة الصلاة في المنزل وإشاعة أجواء روحية رمضانية لم تعهدها البيوت من قبل

وفي اتصال لـ"ألترا تونس" بمؤسس الجمعية ورئيسها الشرفي معتزّ عكاشة، أكّد، بداية، أن شهر رمضان هو شهر المثابرة الدينية والروحية بامتياز، وقال إنّ كورونا لا تستطيع بأيّ حال من الأحوال أن تمنعنا من ذلك باعتبار أن "رمضان ملء قلوبنا".

معز عكاشة مؤسس جمعية صاحب الطابع للثقافة الإسلامية

 

وأضاف أن الجمعية استطاعت بعد تدبّر وتفكير واجتماعات عن بعد بين أعضائها أن تحوّل الكورونا إلى رسالة مقاصدية وفق تعبيره، مشيرًا إلى الاتفاق على تنظيم صلوات افتراضية بما في ذلك صلاة التروايح. وأشار إلى أن الجمعية شرعت في ذلك منذ الليلة الأولى لرمضان، موضحًا أن التقديرات تشير إلى متابعة 4 آلاف شخص لـ"لايف التروايح" التي أمّنها إمام جامع صاحب الطابع الدكتور أمين بنور على صفحة الجمعية من الساعة التاسعة إلى العاشرة والربع مساء. وأوضح، في هذا الصدد، أنه إذا ما قمنا بالمقارنة، فإن جامع صاحب الطابع لا تتجاوز طاقة استيعابه في الأيام العادية خلال صلاة التراويح حوالي 500 شخص.

واعتبر أن لهذه العملية فوائد عديدة لعل أهمها متعة الصلاة في المنزل، وإشاعة أجواء روحية رمضانية لم تعهدها البيوت من قبل، إضافة للإحساس الرائع بالمشاركة الافتراضية والتيسير الذي قدمته الثورة التكنولوجية لحياتنا بما في ذلك الصلاة.

وحسب مؤسس جمعية صاحب الطابع للثقافة الإسلامية، يشمل البرنامج الرمضاني أيضًا شريحة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 سنة وذلك بإعداد حصة بث مرئي مباشر مسائية عبر صفحة الجمعية على فيسبوك عنوانها "صغارنا في رحاب القرآن" لحفظ القرآن الكريم.

وختم محدثنا بأن ردود أفعال أصدقاء الجمعية على مقترحاتهم وأنشطتهم الافتراضية لاقت استحسان طيف واسع من التونسيين، فتعاملوا إيجابيًا مع هذه الثقافة الجديدة التي على ما يبدو أنها ستتعمق في قادم الأيام وتصبح جزءًا من حياتنا اليومية، وفق تأكيده.

عبد العزيز الكردي (مختص في التعليمية): التعبد الفردي إذا ضاق الفضاء عن التّعبد الجماعي

عبد العزيز الكردي الباحث بالجامعة التونسية والمختص في التعليمية، يقول في حديثه لـ"ألترا تونس"، إنّ الوضع الراهن الذي فرضه وباء كورونا ذكّرنا بعنوان لكتاب مفقود للتوحيدي عنوانه: "الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الفعلي" قائلًا: "بصرف النظر عن التأويلات المختلفة التي خاض فيها المهتمون بالتوحيدي، فإن حالة الحجر ألزمت الناس البيوت وحالت بينهم وبين عبادات جماعية ألفوها منها صلاة الجمعة وصلاة التراويح وبعض حلقات الذكر في رمضان، وممارسات اجتماعية ترسخت لديها".

اقرأ/ي أيضًا: الحجر الصحي لمن يعيشون بمفردهم.. الوضع أصعب!

وأشار إلى أنها ألجأتهم إلى التعويض عما فقدوا بممارسات أخرى توحي باستنتاجات كثيرة مهّد لها محدثنا بتعديده لبعض ما استجد من المعطيات التعبدية والاجتماعية في زمن الكورونا على غرار تنوّع أشكال التواصل الافتراضي عبر فيسبوك خصوصًا، من خلال تبادل الرسائل والتهاني بقدوم شهر الصيام، والتي فاقت المألوف منها في الظروف العادية، وأيضًا كثرة الومضات الوعظية والإسهامات الفردية في تقوية المشاعر الدينية. وأوضح أن كثيرين ممن كانوا مستهلكين للخطاب الديني في الجوامع صاروا منتجين لفقرات منه تعددت أشكالها.

عبد العزيز الكردي: الحجر الصحي والتباعد الجسدي لم يزدا عموم الناس إلا تقاربًا وبدل أن يضعف الروابط الدينية والاجتماعية نراه يمتنها

وأضاف أنّ المتعبدين في تونس وباقي البلدان الإسلامية بحثوا عن بدائل لما فقدوا، فهذا يجيز صلاة التراويح خلف إمام تنقل وسائل التواصل الافتراضي صلاته، وذاك يبحث عن حلول لمن لا يحفظ من القرآن الكريم إلا بعض قصار السور ويريد أن يصلي التراويح وفق ما اعتاد، والآخر يسأل عن منزلة التراويح من العبادات إلى غير ذلك. ومن المعطيات أيضًا، تحدث عن إصرار التونسيين على استمرار رفع الأذان في مواعيده، وزادوا إليه عددًا من الأدعية المرتبطة بحدث الوباء فضلًا عن مواعيد لتلاوة القرآن الكريم عبر المآذن.

وخلص كردي، في حديثه معنا، إلى جملة من الاستنتاجات "منها أن الحجر الصحي والتباعد الجسدي لم يزدا عموم الناس إلا تقاربًا وبدل أن يضعف الروابط الدينية والاجتماعية نراه يمتنها ويوقظ الشعور بالحاجة إلى الغير الذي نلتقي معه في العادات الاجتماعية والمناسك التعبدية". وبين أيضًا أن الروابط الدينية والاجتماعية ما تزال قوية، وحاجة التونسي والعربي المسلم عمومًا إلى غذاء روحي وخصوصًا في بعض المحطات كالجمعة ورمضان بدت حاجة حيوية.

أكد المختصّ في التعليمية عبد العزيز الكردي أن الروابط الدينية والاجتماعية ما تزال قوية

 

كما كشفت أزمة كورونا توق التونسي إلى ثقافة دينية تنزل كل عبادة منزلتها الحقيقية، وتجعله يطمئن إلى اجتهاده الشخصي القائم على معارف يقينية. وأضاف أنّ التونسي في ظل هذه الأزمة قد يبدو منصرفًا إلى مشاغل الحياة اليومية لكن ذلك لم ينسه أنه مكلف شرعًا بتلبية حاجاته الروحية التي لا تقل قيمة في حياته عن الحاجات الحيوية الأخرى.

وختم الكردي بأن التونسيين يمكن تقسيمهم إلى شقين في تصوّرهم للعبادة: شقّ ينزّل العبادات المفروضة منازلها ويؤديها كما فُرضت دون تحريف أو انزياح، وشقّ آخر في حاجة إلى التنمية والتطوير الديني على نحو يجعل المؤمن يعتقد أنه في عبادة في كل ما يفعل.

بشير لسيود (باحث في الفلسفة الإسلامية): لا شيء يعوّض العبادة المباشرة

من جانبه، يرى البشير لسيود أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الزيتونة أنّ جائحة كورونا فاجأت استقرار الإنسان ففرضت عليه بكل عنوة إعادة ترتيب جوانب اجتماعية من حياته على نحو مغاير والتخلّي على عاداته اليومية بل ذهبت إلى حدّ احتجازه في البيت.

اقرأ/ي أيضًا: رمضان.. شهر تحدّ للمغتربين وتعايش للأجانب في تونس

وأضاف أن هذه الوضعية المستحدثة تتناقض كليًا مع إنسانية الإنسان التواقة إلى الحرية وإلى الحياة الاجتماعية بالمعنى الخلدوني للكلمة، لكن مع ذلك سعى هذا الإنسان إلى التأقلم مع وضعه الجديد حفاظًا على سلامته وحياته.

وأوضح محدثنا أن هناك مجموعة من العادات الاجتماعية قابلة للتّغيير والتّكييف، أما فيما يتعلق بالجانب التعبّدي الروحاني، فإن المسألة ليست بالأمر السهل وخاصة فيما تعلق بشهر رمضان المعظّم حيث يتداخل الروحاني بالثقافي. وأضاف أن مقتضيات الحجر الصحي العام حتمت غلق المؤسسات الدينية بما في ذلك المساجد والجوامع مما ترك أثرًا سلبيًا عميقًا في نفسية الإنسان المسلم الذي شعر أنه سلب حقًا جميلًا سواء في مستوى العبادات أو العادات الرمضانية.

تحدث أستاذ جامعة الزيتونة بشير لسيود عن هبة افتراضية على الأنترنت لمواجهة كورونا

 

وأشار أستاذ جامعة الزيتونة إلى أنه ثمّة "هبة افتراضية" على شبكة الأنترنت من أجل ملء الفراغ الذي تسبب فيه الحجر الصحي بالذهاب إلى تأسيس ما اصطلح على تسميته بـ"رمضان الافتراضي" الذي دعت إليه الجمعيات والمنظمات والأفراد والمجموعات الافتراضية على شبكات التواصل الافتراضي وخصوصًا على فيسبوك فازدهرت الأدعية والتهاني بقدوم هذا الشهر والدعوات الى الصلاة عن بعد وإقامة حلقات الذكر.

واعتبر أن ما يحدث على الأنترنت هذه السنة في جانب منه هو بمثابة عملية التصعيد النفسي والتعويض عن الصدمة التي تعرض لها الصائم بسبب فقدانه للجوامع التي تمثّل محطّات متكرّرة من يوميّات الصائم، بل هناك من يخصص كامل يومه للاعتكاف هروبًا من صخب الحياة اليومية على اعتبار أن رمضان هو شهر التوبة والرجوع إلى الله عز وجلّ.

وبيّن، في ذات الخصوص، أنّ شبكات التواصل الاجتماعي قد تساهم في التخفيف من وطأة المحنة لكنّها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعوّض دور العبادة المباشرة. ولمزيد تثبيت رأيه، ختم لسيود قائلًا: "من يقدر أن يعوّض دمعة ساجد التحمت روحه بالسماء واندسّ وجهه في الأرض؟ ومن يقدر أن يعوّض ابتهال آبائنا وأمهاتنا المرتفعة بين أعمدة الجوامع؟".

بشير لسيود: من يقدر أن يعوّض دمعة ساجد التحمت روحه بالسماء واندسّ وجهه في الأرض

"رمضان الافتراضي" هو جزء من حياة روحية افتراضية يعيشها المسلم منذ انبلاجات الثورة الاتصالية فكانت بداياتها مع التهاني والأدعية الرمضانية والنصائح الدينية والصحية، لكنها تعمّقت هذه السنة جرّاء جائحة كورونا لتشمل الصلاة عن بعد وأيضًا التواصل الاجتماعي عن بعد. وتجلّت للعيان عبر شبكات التواصل الاجتماعي لتؤسس لمجتمع شبكي لا حدود له يعنى برمضان الكريم وما حف به من عادات وتقاليد.

لكن هذه الحياة الشبكية الرمضانية التي مازالت محل جدل فكري وفقهي بين مستحسن ومستهجن هي بصدد التوسّع وصيانة ذاتها على مستوى المجتمع الإسلامي الكبير مما يشي بثباتها في قادم الأيام رغم عواصف المعارضة. وهو ما يقودنا للحديث عن أفق الممارسة العقدية في ظل الثورة الاتصالية التي تحاول منذ سنوات زعزعة مفاهيم الممارسات الدينية القديمة بمطرقة العلم، فهل ستساعد أزمة كورونا على الدفع نحو ذلك؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

التباعد الاجتماعي يعزّز الهجرة إلى الريف زمن الكورونا

"أحكيلي".. منصّة مساعدة نفسية لمواجهة "الكورونا فوبيا"