12-أبريل-2020

تقديرات فلسفية لأزمة كورونا وآفاقها

 

يصف الفيلسوف الألماني هيغل الفلسفة، في كتابه "فلسفة الحقّ"، بأنها مثل طائر المينيرفا الذي يأتي متأخرًا ولا يشرع في الطيران إلا عندما يرخي الليل سدوله أي أن الفلسفة هي فكر لاحق لما يحدث في الواقع بكل متناقضاته ضمن التحولات الاجتماعية والسياقات التاريخية.

وبما أنّ البشرية تعيش "الآن وهنا" لحظة وبائية عاصفة هزّت أركان العالم كما هزّته من قبل الحرب العالمية الثانية وانهيار الاستقطاب الثنائي، فزعزعت ما كان يعتبره الإنسان استقرارًا وأعادت خلط كل الأوراق مهيّئة بذلك لمرحلة كونية جديدة، يأتي السؤال: هل يمكن اعتبار هذه اللحظة عاملًا مستجدًا نحو توجيه الفلسفة وحثّها على الذهاب إلى تخوم ما يجري ومدّ يد المساعدة بإفهامنا ما يحدث من حولنا وتحت سمائنا وتشوّف الآتي والقيام بتجسير متأنّ ومتبصّر بين الفكر والواقع المحفوف بـ"كورونا

تحادث "ألترا تونس" مع بعض كبار أساتذة الفلسفة في تونس وهم محمد محجوب وفتحي التريكي ومحمد علي الكبسي ومها البشيري بخصوص تأملاتهم واستشرافاتهم لأزمة الكورونا 

تحرّكت تقريبًا أقلام كل الفلاسفة في العالم هذه الأيام وتحوّلت إلى سيّارات إسعاف فكرية تناولت المطبات والمآزق التي أدّت بالبشرية إلى أزمة كورونا، فالفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي اعتبر هذه الأزمة تمهيدًا لأزمات أخرى ستعيشها البشرية مثل أزمة الاحتباس الحراري والحرب النووية المتوقعة جراء عدم التفاهم بين الشعوب.

اقرأ/ي أيضًا: هل يمثّل وباء كورونا "طقس عبور"؟

فيما يقدّر الفيلسوف الفرنسي جاك أتالي أنه في حال فشلت الدول في إيجاد حلول لأزمة كورونا، سيؤدي بنا ذلك إلى نظم سلطة جديدة ستقود العالم في السنوات القادمة. أما إدغار موران يحمّل المسؤولية مباشرة إلى العولمة التي يرى أنها وحّدت العالم في المستوى التقني والاقتصادي لكنها لم تآخي بين الشعوب وذهبت إلى إبادة الخصوصيات الثقافية. ويضيف أن الكورونا هي بصدد إخبارنا أن البشرية ستبحث لها عن مسالك جديدة بعيدًا عن النيوليبرالية. من جهته، وصف الفيلسوف مارسال غوشي ما تعيشه البشرية الآن بـ"التشيرنوبيل الصحي".

أما في تونس، انبرى مفكرون وكبار أساتذة الفلسفة للكتابة حول ما يحدث للإنسان جرّاء جائحة كورونا مقدّمين وجهات نظرهم ورؤاهم وتحاليلهم وتخوفاتهم وتأملاتهم واستشرافاتهم، فنشروا وانخرطوا كمثقفين عضويين في مساعدة المجتمع على فهم ما يحدث وما ستؤول اليه الأمور في قادم الايّام.

"ألترا تونس" تحادث مع بعض كبار أساتذة الفلسفة تونس حول الخوف الذي استبدّ بالبشرية جرّاء أزمة الكورونا التي فاجأت الإنسان وهو في أوج استقراره واستقوائه بالتكنولوجيا، فكانت هذه أراءهم وتقديراتهم:


محمد محجوب (أستاذ التأويليات وتاريخ الفلسفة): الوباء أدخل الإنسان في منطق رؤية ما لم يكن يرى

يذهب محمد محجوب، أستاذ التأويليات وتاريخ الفلسفة في الجامعة التونسية، إلى أن وباء كوفيد-19 حملنا إلى استئناف كل شيء والحرمان الذاتي من الحرية وهو ما أدخل الإنسان في منطق رؤية ما لم يكن يرى، ويضيف أن الحرية التي أخذ الإنسان نفسه بالتنازل عنها ليست حرية سياسية من قبيل حرية التعبير أو الكتابة أو التنظّم السياسي، وإنما هي الحرية اليومية في التنقل وحرية تلك الحركات البسيطة التي كنا لا نبالي بها وتكاد أن تكون آلية، بل هي آلية فعلًا، وفق تعبيره.

ويشير إلى أنه يوجد حديث الآن وسيناريوهات ممكنة عن حياتنا ما بعد الحجر الصحي وعن طرق رفع  الحجر وكأن الإنسان في حصار حربي، ويرى أن المدهش في مشهدية الرفع هو أننا لن نكون بعيدين عن تعلّم الأبجديات البسيطة والبدائية والأولية لحركتنا اليومية من جديد كأول عهدنا بها في الحياة.

محمد محجوب: صحيح أن العولمة قربت المسافات وجعلت الأزمنة متواقتة لكنها كشفت لنا أن هذا الآخر لا يكون بعيدًا حين نسيء إليه

ويضيف قائلًا: "لقد كنا نقول إن رؤية الأشياء اليومية تحول دون رؤيتها الحقيقية، لأن العين قد رانت عليها تغاليف العادة والتعود حتى بليت وكلّت وأصبحنا لا نرى تلك الأشياء حقًا إلا عندما تتعطب وتتحول إلى أشياء قديمة نرمي بها إلى غرف الكراكيب البالي ودهاليز الأشياء التي انتهى استعمالها. ساعتها فقط نرى تلك الأشياء عندما نزورها ونقلب جوانبها وجزئياتها المعطبة المغبرة، ساعتها فقط تستعيد تلك الأشياء القديمة سياقات معناها وذكرياتها التي ارتبطت بها، وساعتها فقط تصبح أشياء لنا". 

ويؤكد أستاذ الفلسفة لـ"ألترا تونس" أننا بتنا اليوم نشتاق تلك الحرية البسيطة التي كانت فينا كالآلية مقدمًا تساؤلات حارقة: هل أكثر من هذا تعبيرًا عن هشاشتنا وهشاشة انتمائنا إلى العالم؟ هل سنغادر من جديد هذا المحبس الذي اضطررنا إليه؟ وهل سنكتشف من جديد بساطة حركاتنا اليومية وحرية استنشاق الهواء دون واق يحول بيننا وبينه؟

ويشير إلى أنها مجرد أفكار يومية باتت تصاحب الإنسان تحت سماء الوباء في كل حين وتحمله على أن يسأل عن حدود البداهة التي أغرقتنا حتى مشى هذا الإنسان فوق الأرض مشية المنتصر المالك الذي لا يُسأل عن أفعاله، وفق تعبيره.

 محمد محجوب أستاذ التأويليات وتاريخ الفلسفة 

 

وفي إجابة عن سؤالنا عن الأخدود الذي سيخلّفه هذا الوباء بعد زوال سطوته، أجاب محجوب: "تسألني عن الأخدود الذي حفره هذا الوباء، وهو لقد حفر في النفس قبل الحفر في الجسد. النفس تلك الأرض الفسيحة، ذلك الكوكب الذي نعيش عليه، والذي لا يمكننا أن نخفف الخطو عليه لأنه من أديم تلكم الأجساد بل لم يعد في وسعنا حتى أن نومئ إلى الأجساد على أنها المشار إليها من البعيد، إنها نحن".

ويخاطب الفيلسوف التونسي الإنسان قائلًا: "يا أيها الإنسان إنك عين نفسك تدوس حين تظن أنها نفس غيرك". ثم يتساءل "عمّا فعلته بنا العولمة؟"، ملاحظًا أنّها أجابت بكل بساطة عن سؤال لم نطرحه: "صحيح أن العولمة قربت المسافات وجعلت الأزمنة متواقتة لكنها كشفت لنا أن هذا الآخر لا يكون بعيدًا حين نسيء إليه: بل هو أقرب ما يكون إلينا، إنّه نحن بل هو قد بلغ من –النّحنية- ما جعل جميع الأجساد تفقد شخصيتها وفرادتها أمام هجمة الفيروس" خاتمًا قوله: "إنّها أمامه عرَضٌ واحدٌ".        

فتحي التريكي (أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة): إنسانيّة للحياة وإنسانية للموت

فتحي التريكي، أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة في الجامعة التونسية، يقدّر أن الإنسانية تعيش في هذه اللحظة حالة من الفزع جرّاء وباء كوفيد-19 مبينًا أنه لم يحسم بعد بخصوص التغيرات الجوهرية التي يمكن أن تطرأ على نمط حياتنا.

ولكن يرى، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أنّ هذا الوباء الذي خلخل النظام العالمي المعولم سيعيد ترتيب البيت من جديد ولو جزئيًا، مضيفًا أنه يقدّر أن رأيه الشخصي في المسألة يخصّ التّغيّر الممكن في السلطة سيّما في العالم الرّأسمالي.

ويربط وجهة نظره بالفرضية الشهيرة للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو موضحًا أنّ السلطة قد غيّرت منهجيّتها بداية من القرن التاسع عشر حيث لم تعد تستعمل الموت سلاحًا أساسيًا للحكم (الإعدامات العموميّة) بل طوّرت تقنيات مختصّة تستعمل القبض على تلابيب الحياة وتطبّقها على الأجساد والسكّان، وهو ما سمّاه فوكو بالسلطة الحيويّة التي تنضاف إلى سلطة الضبط والمراقبة والمعاقبة.

فتحي التريكي: أصبحت الصحّة تًشترى بالمال وقد فضحت أزمة الكورونا أسّ هذا النّظام الرأسمالي المكثّف الذي نستطيع تلخيصه في هذه الجملة المعبّرة "المال قبل الرجال"

ويبيّن أنّ فوكو كان يحلّل تصوّر السلطة انطلاقًا من حاضر عصره عندما كان العالم يسيطر عليه النظام الليبيرالي الرأسمالي، أمّا اليوم وبعد التسعينيات من القرن الماضي أصبح العالم يرزح تحت وابل من الأزمات والمصائب وهو ما سمّاها بـ"الليبيراليّة المكثّفة".

وفي نفس الصدد، أوضح التريكي أنه في كتابه "فلسفة الحياة اليوميّة" الصادر سنة 2019، ذكر أنّ هذا النظام الجديد للعالم يقوم على ممارستين للسلطة تتحكمان في العالم وهما السلطة الاستعمارية وسلطة العنصريّة، أما السلطة الحيويّة فهي التي تتحكّم، بصفة غالبًا ما تكون سريّة، لا في نمط حياتنا وكيفيات موتنا فقط بل وأيضًا في ذات الحياة وكنه الموت والمؤسّسات التابعة للدولة كمراكز العلاج والمستشفيات وديار العجّز وغيرها من آليات هذا التحكّم.

فتحي التريكي أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة في الجامعة التونسية

 

اقرأ/ي أيضًا: الكاتب التونسي في زمن الكورونا.. غيمة الوباء قد تمطر أعمالًا أدبية

ويضيف أن "الجديد في الليبيراليّة المكثّفة والمتوحّشة هو أنّ غالب الآليات المذكورة لم تعد بيد الدولة وحتّى المستشفيات التي بقيت تابعة لها هي الآن عاجزة على أداء وظيفتها كما يجب، وأصبحت الصحّة تًشترى بالمال وقد فضحت أزمة الكورونا أسّ هذا النّظام الرأسمالي المكثّف الذي نستطيع تلخيصه في هذه الجملة المعبّرة -المال قبل الرجال-".  ومن وجهة نظره، ازدادت هذه السلطة الحيويّة وحشيّة عندما قامت حسب قاعدتي العنصريّة والاستعماريّة بعمليّة فرز وفصل تقوم على تعبيرين لفوكو هما: "اتركوهم يعيشون" و"اتركوهم يموتون".

ويبين، في نفس هذا السياق، أنه في أمريكا تُرك الفقراء الذين يعيشون في غياهب دهاليز نيويورك والسّود يموتون على الأرصفة وهو ما حدث أيضًا في فرنسا وتحديدًا في سان ديني حيث ترك العرب والمسنين وغيرهم بلا عناية يواجهون الوباء فرادى.

وأكّد أستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة في الجامعة التونسية، في ختام حديثه معنا، أنه يمكن أن تنضاف إلى السلطة ممارسة جديدة هي ممارسة الاحتقار والاستصغار والفرز والإنتقاء، أمّا بالنسبة إلى الرّأسمالية المكثّفة فقد ثبت جرّاء كورونا أنّها قسّمت الإنسانيّة إلى إنسانيّتان: إنسانيّة للحياة وإنسانيّة للموت.

محمد علي الكبسي (أستاذ الفلسفة العملية): قليل من العلم وكثير من الأسطرة

من جهته، أوضح أستاذ الفلسفة العملية محمد علي الكبسي في فاتحة حديثه لـ"ألترا تونس" أن الأوبئة هي موضوع طبي بامتياز ويتجلّى ذلك في محاولات الأطباء ومخبريّين وتقنيي البيولوجيا والفيروسات في البحث عن تفسيرات عقلانية وعلمية للأوبئة منها التغيرات المناخية أو التلوث بمختلف أشكاله جرّاء إفراط الإنسان في أنشطته الصناعية والتكنولوجية.

ويضيف: "شاهدنا على شاشات التلفاز دور الأطباء ومن ورائهم الدولة بمختلف مؤسساتها وعلى رأسها وزارة الصحة ومكونات المجتمع المدني ومن ورائهم أيضًا المجتمع الدولي تتقدمه منظمة الصحة العالمية وهو سعي علمي وتقني لمحاصرة الوباء"، وبالتالي فالمسؤولية، وفق تقديره، هي كليّة مستندًا في ذلك إلى ما أكّده مدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غبريسوس الذي أكّد ذات تصريح: "نحن في هذا الأمر سويًا".

وحسب محدثنا، إن المحيّر والمقلق هو كيف لهذا لفيروس أن يتحول إلى خرافة أو خدعة؟ ومن أين وكيف ينقاد الإنسان طواعية إلى الاختباء خلف جملة من الآراء والشعائر التي لم يأت بها الله من سلطان؟

ويضيف أن المتتبع للنقاشات الجارية على شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك حول كورونا في جميع البلدان يجدها كلها لا تخلو من تناول المسألة من جانب الطب الديني أو الروحي وبذلك يتحوّل موضوع الوباء إلى موضوع أخلاقي ومناسبة للتذكر والعبرة والموعظة مقارنة بما مضى من الأحداث وبما قد يأتي.

محمد علي الكيسي: يتحوّل موضوع الوباء إلى موضوع أخلاقي ومناسبة للتذكر والعبرة والموعظة مقارنة بما مضى من الأحداث وبما قد يأتي

ويبيّن أن ما ينشغل به الفيسبوكيين هذه الأيام هو قول الفقهاء وعلماء الدين القدامى وما قدّموه من تفسيرات وفتاوى دينية للوباء وكيفية التصرّف تجاهه رابطين بينه وبين القدر الإلهي بما هو عقوبة إلهية، ويفسرون بأن الفيروس هو أمر غير معلوم الأسباب والتفاصيل، وأن الله يرسله لأمة حدد لها ميقات فنائها، وأحيانًا أخرى يجعلونه رحمة معلومة الأسباب من جهة بما هو فعل إلهي أشير إليه منذ الأزل في النصوص الدينية.

ويذهب أستاذ الفلسفة إلى أنّ الوباء من منظور أخلاقي ديني يجعل منه قدرًا لا مفر منه وغير متوقع ميقات حدوثه فيتجاوز بذلك الخطاب العلمي، ويتحول الى خطاب تخميني أسطوري يهدف الى تهويل الأحداث وصبغها بصبغة قدسية.

محمد علي الكبسي أستاذ الفلسفة العملية 

 

اقرأ/ي أيضًا: الدولة والملكيّة والحرب على الكورونا.. أسئلة تونسية

ويؤكد أنه من الطبيعي أن تحاط الأمراض والأوبئة بتصورات وبناءات رمزية تُحدد أليات التعاطي معها تعاطيًا غيبيًا، وتصير مدخلًا لقراءة الذّهنيات وتفكيك البنيات الاجتماعية أو السلوكية ومنها نفهم جيدًا كيف تتحول الأوبئة من واقعة بيولوجية وسوسيولوجية إلى معطي ثيولوجي صرف. ويضيف، في هذا الجانب، أن حديث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بخصوص عدم دخول الأرض التي فيها الطاعون وعدم الخروج منها يتوزع داخل متغيرات وتمثلات وممكنات لغوية وتواصلية للأفراد والجماعات جعلت الوباء يسمى "الخبيث"، و"الابتلاء"، و"النقمة" و"الغضب الإلهي".

ويبين أنه في فضاء اللغة الأنثربومورفية المرتبطة بالذاكرة، لا تخلو من دلالات الرعب والموت السريع متقاطعة في ذلك مع لغة الأطباء والباحثين المفتوحة على الوباء بما هو انتشار سريع لفيروس. ويوضح، في ذات السياق، أنه يمكن تسجيل رفضًا للمصالحة الفكرية يخوضها الخطاب الأخلاقي الديني مع الجسد خاصة ومع الصحة عامة. فبدل أن يصبح تاريخ الوباء شأنه شأن تاريخ القحط والفيضانات والزلازل، هو تاريخ الصحة وتاريخ المؤسسات الصحية وتقدير تاريخية أوضاعها وتاريخية المعرفة المتعلقة بها، أو تلك التي تنشأ على تخومها أوعن علاقتها بالعدالة الاجتماعية التي أو ربما تكون ظهرت معها وفيها، فإن خطاب الوباء يجنح هذه الأيام داخل المجتمع التونسي وفي العديد من المجتمعات الأخرى إلى قليل من العلم، وكثير من "الأسطرة" و"المبالغة" و"المواربة".

وختم الكبسي بأن من جملة ما يحتاجه البحث عن كورونا والحرب التي نخوضها ضده هو البحث في التاريخ الحديث للعيادة وتمثل الوباء والعمل المخبري الطبي والبيولوجي، وبالتالي ضرورة الكتابات التي تتحدث عن مولد عيادة الجوائح على طريقة مولد العيادة لميشال فوكو وذلك حتى نؤسس في تونس لمعرفة جديدة بالجوائح وبالصحة الاجتماعية والعقلية لمجتمعنا.

مها البشيري (أستاذة مبرّزة في الفلسفة): العدالة والكرامة للإنسان مطلب عاجل

مها البشيري أستاذة مبرّزة في الفلسفة في الجامعة التونسية أكدت منذ البداية أنه من الصعب على الفلسفة أن تجد الكلمات المناسبة لوصف ما يحدث منذ ما يناهز الشهرين تحت مسمي وباء كوفيد-19 فـ"هذا الكائن المجهري يعتبر تحدي حقيقي للفكر واللغة فهو عملية رجّ لكل استقرار مفهومي لفكرة الانسان وعلاقته بالطبيعة وبالأحياء الأخرى من حيوان ونبات وكل ألفة له مع العالم ومع الآخرين".

وتضيف أن "أسئلة جديدة تقفز الآن في الأذهان فجأة حول مسألة الحياة اليومية التي يبدو أننا لم نلتفت إليها مليًا من قبل بفعل نسق المجتمع الاستهلاكي الذي نعيش هذا -اليومي الجديد- الذي صرنا فيه جميعًا بيتوتيين لا بحكم قرار السلطة السياسية للدولة فقط بل بحكم وعينا الأخلاقي الذي يحتم علينا عدم أذيّة الاخرين وافتكاك حقهم في الحياة".

وتذهب أستاذة الفلسفة إلى أن "الآخر" لم يعد ذلك القريب منّا بل أصبح "عدوًا مفترضًا قد يتسبب في هلاكي أنا دون أن يعلم أو يقصد"، وتضيف أنه هكذا أصبحت لواقعة الموت فجاجة وبراءة لا تحتمل وهو ما يغير عميقًا في علاقتنا به، فلئن كان الإنسان قبل الكورونا كائنًا من أجل الموت فإنه أصبح بعدها كائنًا يهلك أو ينفق كالحيوان من دون جنازة ولا توديع ولا مرافقة في فترة مرضه. وتوضح أن ما يسمي بالتباعد الاجتماعي أسقطنا في عوالم داخلية معزولة وهو تحول أنثروبولوجي غير مسبوق في اجتماعية الانسان التي كانت عماد فكرة الطبيعة الإنسانية، وفق قولها.

مها البشيري: ما نراه اليوم من انضباط يهيء لنظم أمنية وبولسة للدولة قد يكون إعلانًا عن الخروج من الديموقراطية تمامًا كما كان الإرهاب خروجًا من الدّين

وتشير البشيري أنه سواء أكانت كورونا مصطنعة أو طبيعية، فإن ما بعدها سيكون مختلفًا تمامًا "فما نراه اليوم من انضباط يهيء لنظم أمنية وبولسة للدولة قد يكون إعلانًا عن الخروج من الديموقراطية تمامًا كما كان الإرهاب خروجًا من الدّين ولن يكلفنا ذلك أقل من تنازلنا الإرادي عن حريتنا لفائدة البقاء أحياء".

وتؤكد على أن الإنسان هو بصدد استعادة سيناريو حالة الطبيعة التي شرّعت بها الدولة الحديثة سلطتها واحتكارها للعنف، وتذهب، في نفس السياق، بالسؤال إلى مفهوم العولمة فتقول: وأين هي الدولة التي تسببت العولمة في انحسار دورها لفائدة السلطة الليبرالية وللشركات العابرة للقارات؟

مها البشيري أستاذة مبرّزة في الفلسفة في الجامعة التونسية

 

وتشير أيضًا إلى أن مقاومة كورونا تحتاج إلى إعادة تنشيط دور الدولة السيادية من جديد سواء في شكل دولة راعية أو اجتماعية أو قومية، وهو في اعتقادها مطلب يتجاهل إمكانية أن تكون سياسات دولية وراء الوباء، فصراع العملاقين الأمريكي والصيني الذي قسم أوروبا بدأ يسفر عن تحالفات واصطفافات جديدة. كما أن فتك الفيروس بشرائح بعينها دون أخرى كالمسنين والمرضي والفقراء واللاجئين يجعل من نظرية المؤامرة تعود للواجهة بعد التقارب الواضح بين الجائحة والإبادة لمن يعرقل الإنتاج داخل ماكنة الرأسمالية العالمية.

أمّا في تونس، ترى مها البشيري أنه لا يزال الوعي العمومي مشتتًا بين واقع الهشاشة الاجتماعية وخطر العدوى المتعاظم بفعل كسر الحجر، أما الدولة، من وجهة نظرها، تبدو متساهلة لكنها في الواقع مورطة فهي تجد نفسها وريثة ما تسببت فيه دولة الاستقلال وحكم الدكتاتور وعشرية الثورة من سياسات ارتجال وتهميش أنتجت تفاوتًا طبقيًا واجتماعيًا وجهويًا به نفسّر اليوم صعوبة وعي الناس بقيمة حياتهم وحفظها.

وتختم أستاذة الفلسفة، حديثها لـ"ألترا تونس"، أنّ التهميش في تونس بدأ في التجلي ويظهر بالخصوص في التفاوت في تملّك الوسائل التكنولوجية لمزاولة التعليم أو العمل عن بعد وفي التمتّع بخدمات الصحة العمومية، فالكورونا كشفت كل التناقضات والتفاوتات الاجتماعية والطبقية لذلك فإن كان ثمة مطلب عاجل فلن يكون غير العدالة والكرامة للإنسان في عالم مشترك، وفق قولها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدولة والثورة والوباء

كورونا.. المقايضة والخيارات القاسية تونسيًا