21-أبريل-2020

بيّنت أزمة كورونا وبالخصوص الحجر الصحي عمق الانقسام الاجتماعي (أ.ف.ب)

 

في أكثر من مناسبة شدّدنا على أهميّة الانقسام الاجتماعي في فهم المشهد السياسي المتحوّل في تونس، وأنّ الخطأ في تقدير هذا البعد الاجتماعي حقّ قدره لا يتوقّف عند الخطأ في فهم حاضر البلاد وإنّما في ماضيها ومستقبلها أيضًا. ذلك أنّ تاريخ الانقسام الاجتماعي في تونس مرتبط بتاريخ الدولة ذاتها. وهذه ليست خصيصة تونسيّة بقدرما هي حقيقة تلازم الدولة ذاتها.

الحجر الصحّي الذي أقرّته الدولة في مواجهة وباء كورونا كان مناسبة مهمّة لانتباه الحكومة إلى حقيقة الانقسام الاجتماعي

فالدولة سليلة الانقسام وتغيّر في صلب علاقات الجماعة الإنسانيّة من الأفقيّة العموديّة، ولكنّها في الآن نفسه سببًا في الانقسام حين لا تغطّي كلّ المساحة الاجتماعيّة فينقسم الناس تحت سلطتها إلى أقليّة غنيّة وأغلبيّة تتوتّر بين هويات طبقيّة مختلفة تمتدّ من الطبقة الوسطى التي تعرف تحللًا مخيًفا إلى الطبقات الشعبيّة في الأحياء القصديريّة وفي الدواخل البائسة.

اقرأ/ي أيضًا: تونس وضرورات سياسة اجتماعية من "خارج الصندوق"

الحجر الصحّي الذي أقرّته الدولة في مواجهة وباء كورونا كان مناسبة مهمّة لانتباه الحكومة إلى حقيقة الانقسام الاجتماعي وأنّ تطبيقها للحجر ربّما لم يراع هذه المستويات الاجتماعيّة المختلفة ولا سيّما الفئات الاجتماعية التي تركتها الدولة عارية من كلّ تغطية اجتماعيّة أساسيّة وأسلمتها إلى هشاشتها وأعطابها المؤلمة. وهي هشاشة وأعطاب قد تكون عقبة أمام تحقيق الحجر الصحّي لغاياته الوقائية. ويفسد ما تحقّق من نجاح في خطة الحكومة.

الحجر الصحّي والهشاشة الاجتماعيّة

الحجر الصحّي من معجم كورونا الجديد، ومن خلاله أعادت الدولة اكتشاف علاقتها بفئات المجتمع وطبقاته. ومهما قيل في علاقة السلطة التي تشدّ الناس إلى الدولة، فإن الحجر بما هو سلطة شاملة تفرضها الدولة على منظوريها خوفًا عليهم لا خوفًا منهم يكشف مساحات الحريّة التي كان يتمتّع بها الفرد في ظلّ الأوضاع العاديّة، في ظلّ الدولة (الديمقراطيّة). فهو غير مدعوّ إلى ملازمة بيته وليس مطالبًا بترخيص يخوّل له التنقّل لاقتناء حاجاته. وله أن يخرج في أي وقت شاء وإلى أي مكان أراد. لذلك يكتشف الناس ما كانوا فيه من حريّة واسعة لم ينتبهو إليها إلا عندما داهمهم الوباء واقتضت مواجهته "تباعدًا اجتماعيًا".

فالحجر الصحّي انقلاب في علاقة الناس ببعضهم البعض وفي علاقتهم بالزمان وبالفضاء الذي يتحركون فيه. فيصبح الفضاء العمومي تحت الرقابة الشاملة والدائمة. لذلك سرعان ما يكتشف الناس الشبه الكبير بين السجن وخارج السجن في ظل الحجر الصحّي. وإذا كان السجن إذعانًا اضطراريًا تحت "قوّة رادعة" تستمدّ مشروعيّتَها من الجماعة السياسيّة، وسلامتَها من عدوان من جنح من أفرادها، فإنّ الحجر الصحّي إذعان اختياريّ تحت "قوّة راعية" تستمدّ مشروعيّتها من سلامة الفرد والمجموعة في الوقت نفسه. وهذا الاختيار يكون ذا مصداقيّة عندما تَعْدِل الدولة وعدْلها ليس خطابًا عن العدل وإنّما هو سياسة عادلة.

الحجر الصحّي وسياسته في تونس وردود الأفعال الاجتماعيّة زاوية مهمّة تقرّبنا من حقيقة ما عرفته البلاد منذ 2011، وتساعد على الإجابة عن هويّة الثورة ومدى نجاح مهمّة الإدماج الاجتماعي

الفئات الاجتماعيّة المهمّشة والهشّة والمعطوبة تدرك تهميشها وهشاشتها وعَطبَها قبل الكورونا. يشهد لهذا تاريخ علاقتها بالدولة وهو تاريخ الانتفاض الدوري على الحيف الاجتماعي والظلم السياسي. والانتفاض في ظاهره احتجاج على منزلة اجتماعيّة مهينة وهو في عمقه السوسيولوجي محاولة جديّة للاندماج في النمط المسطّر من قبل الدولة. و يكون إخماد الانتفاضات من هذه الزاوية قمعًا لمحاولة اندماج أصيلة تشهد بعجز الدولة عن استيعاب فئات اجتماعيّة واسعة لم تعد تشدّها إليها إلاّ وثائق الحالة المدنيّة.      

وبين انتفاض وانتفاض تعود هذه الفئات إلى ذاتها في أحيائها وفضائها الشعبي في توجّه "حوماني" (نسبة إلى "الحومة" وهي الحي الشعبي) تصنع في سياقه توازنها ويكون لها أخلاقها و"لغتها" ونظامها الاستعاري وأبطالها ورموزها واحتفالها وغناؤها. وهذا الانكفاء على الذات خطير، فقد تنجح النظم الاستبداديّة في جعل هذه القوى الاجتماعيّة الهامشيّة قوى هدم وأدوات لوأد الثورات الاجتماعيّة الأصيلة واستهداف قياداتها السياسيّة (أمريكا الجنوبيّة، وبعض دول آسيا مثل اندونيسيا في ثمانينيات القرن الماضي). لكن عنصر القوّة في المشهد التونسي هو أنّ الهامش كان إيجابيًا فهو من قاد الانتفاض المواطني في 17 ديسمبر في دعوة إلى الاندماج تجاوزت المطالبة الاجتماعيّة إلى المغالبة السياسيّة (رمزيّة القدوم إلى القصبة والاعتصام بها).

المنظومة تمنع الاندماج المطلوب

الحجر الصحّي وسياسته في تونس وردود الأفعال الاجتماعيّة زاوية مهمّة تقرّبنا من حقيقة ما عرفته البلاد منذ 2011. وتساعد على الإجابة عن هويّة الثورة ومدى نجاح مهمّة الإدماج الاجتماعي. وهي المهمة التي أسميناها في سياقات أخرى بـ"عملية توحيد تونس المنقسمة اجتماعيًا" بفعل مركزيّة الدولة ونخبتها الطبقيّة التي احتكرت الثورة والامتيازات منذ عهد البايات لترسّخها مع دولة الاستقلال رغم بعدها الاجتماعي في عشريّتيها الأوليَيْن.

لا ينفي هذا منحى دولة الاستقلال الإدماجي، ولكنّه كان إدماجًا "انتقائيًا" تأثّر بعمليّة التحديث المطلوبة. وقد كانت فوقيّة وقسريّة وجزئيّة: فهي فوقيّة تحمل رؤية أصحابها للدولة والمجتمع والسياسة على أنّها تصور مشترك، وهي قسريّة لم تُشرك المجتمع بفئاته الواسعة ولم تحترم هويّات انتظامه الاجتماعي الخصب، وهي جزئيّة لم تغطّ كلّ الجسم الاجتماعي. فانتخبت منه ما أسمته "المجتمع المدني" بحدوده التي لا تخرج عن الفئات الجديدة المدينيّة ونمط عيشها الحديث، وتركت فئات واسعة في الدواخل بلا غطاء اجتماعي، هي ما نسميه المجتمع الأهلي.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة والملكيّة والحرب على الكورونا.. أسئلة تونسية

ولو اجتهدت الفئات التي تمّ تفويضها في الاستحقاقات الانتخابيّة في سنوات الثورة في "توحيد البلاد" لكنّا وفّرنا شروط إعادة بنائها، ولكنّا اليوم أفضل استعدادًا في مواجهة الوباء المهدّد. فكأنّ المشهد الاجتماعي منفصل عن التغيرات السياسيّة التي صحبت الانتخابات. وقد عرفت توتّرًا كبيرًا مع النظام القديم. وهو بقدرما ترك مستوى غير بسيط من الدمار الاجتماعي والاقتصادي فإنّه خلّف منظومة أعادت تنظيم صفوفها وهيكلة شبكات مصالحها ولوبياتها مالها وأعمالها وصلتها بالإدارة والإعلام. ونجحت في إيجاد واجهات سياسيّة تمثّلها واجتهدت في توفير الشروط التي تكبح جماح قوى الجديد وتُجبر كثيرًا منها على أن تساعدها في صنع هذه الشروط (جبهة الإنقاذ واعتصام الرحيل: دور الجبهة الشعبية في عودة القديم) أو التراجع عن مسار الإدماج الشامل باسم توافق هو أقرب إلى تسوية سياسيّة يصرّ طرفاها على أنّها في خدمة تونس (النهضة/النداء).

بعد حوالي شهر من الحجر الصحّي، تواجه الحكومة جملة من التحديّات الاجتماعيّة، وتتبيّن عمق الانقسام الاجتماعي وما يمثّله من عقبة تمنع الحجر الصحّي المؤقت من أن يحقّق أهدافه. ولكنّها لم تقدّر اختلاف الفضاء الذي يتحرّك فيه الشاب في الأحياء المرفّهة والشاب في الأحياء الشعبيّة. فيكاد يكون مستحيلًا الالتزام بالحجر بمواصفاته المطلوبة في منزل بحيّ شعبي يوي عائلة لا يقلّ أفرادها عن الخمسة بين أولاد وبنات. فالشارع والأصدقاء والحومة والرصيف تمثّل الفضاء الذي يتحرّك فيه الشاب العاطل عن العمل عطالة مزمنة. وتكاد تنحصر علاقته بالسكن العائلي في حصّة النوم. فمن غير الممكن حصره في مربّع ضيّق هو عنده أشدّ اختناقا وقهرا من السجن ولعلّه كان زاره في أكثر من مناسبة، وتعمّد العودة إليه كلّما ضاقت به الدنيا ولم يجد حاجته الدنيا (ثمن القهوة والسجائر).

هذا في حال الشبيبة في الأحياء الشعبيّة المحيطة، ولا يختلف حال من هم في الدواخل، فالبطالة أكثر المعضلات عدلًا بينهم. سوى ما يجده به شباب الريف من فضاء واسع يعوّض حرج السكنى مع العائلة في مثل هذه الظروف.

المنظومة، باعتبارها شبكة المصالح التقليديّة وتوجها للمحافظة عليها، هي اليوم في أضعف حالاتها. ولكنّها تجد في أداء من تمّ تفويضه وفي اختلافهم منفذًا نحو شرط جديد، مثلما تسنّى لها هذا في منعرجات الانتقال السياسي المعلومة.

نقد الأداء لا يشكّك بالمبدأ

مواجهة الوباء مضافةً إلى تفويض الانتخابات الأخيرة بـ"مزاجها الثوري" يمثّلان سياقًا يُفقدها المبادرة ويدفعانها إلى منزلة لم تتدحرج إليها حتّى في أحلك فترات الانتفاض ومسار التأسيس. وفي هذا السياق مثّلت جملة رئيس الجمهورية في كلمته الثانية في اجتماع مجلس الأمن القومي بأنّ "المال مال الشعب ويجب أن يعاد إليه" مصدر رعب حقيقي للمنظومة ومصالحها المانعة للإدماج الاجتماعي. فهي لا يمكن أن تفهمه في حدودها الإنشائيّة، وترى فيها عنوانًا جديدًا يمكن أن يقلب الأوضاع. ولم تتنفّس الصعداء إلاّ بعد "التفسير" الذي جادت الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة بعد سويعات من التصريح والذي يبدو أنّه نتيجة لتدخّلات "أنيقة ومتأنّية" وجدت طريقها إلى رئاسة الجمهوريّة مخترقةً التفويض الشعبي غير المسبوق وعنوانه: النظافة والأمانة وردّ الحقوق إلى أصحابها.

ليس المطلوب تدخّل الدولة لافتكاك الأموال من "أصحابها" وإنّما هو سياق يسمح باستعادة دور الدولة الاجتماعي بأفق إصلاحات عميقة

والأمر نفسه كان مع تصريح وزير أملاك الدولة بإمكانيّة اللجود إلى المصادرة إذا احتاجت الدولة إلى مزيد من المال في مواجهة الوباء وما يمكن أن يصاحبه من شلل في الحياة الاقتصاديّة والحركة الاجتماعيّة. ولم يبطئ "التفسير" في الظهور حتّى في هذه الحالة، فكان التصحيح والتدقيق والتوضيح. وليس في هذا استنقاص من جهد أي جهة، وإنّما هو محاولة لرصد جهد المنظومة في إنقاذ نفسها، فوباء الكورونا غيّر من وجهة المسار السياسي، ووفّر شرطًا جديدًا للإدماج الاجتماعي بما هو إصلاحات كانت الحكومة قد أعلنت عنها وهي تقدّم برنامجها أمام البرلمان في جلسة التصويت على الثقة.

في السياق نفسه، يأتي التفويض الذي منحه مجلس النواب لرئيس الحكومة. وهو (بعد أن كيّفه رئيس مجلس النواب) من وجهة نظر المنظومة، أشبه بسكّين يضعه رئيس مجلس النواب على رقبتها بيد رئيس الحكومة، دون أن يمنع هذا فسح مجال للجوء بعض الفزعين.

ليس المطلوب تدخّل الدولة لافتكاك الأموال من "أصحابها" وإنّما هو سياق يسمح باستعادة دور الدولة الاجتماعي بأفق إصلاحات عميقة تمرّ عبر تعديلات مهمّة تطول الثروة ودورها في مواجهة الوباء وفي بناء قدرات البلاد وإعادة بنائها بشروط ذاتيّة.

الأولويّة في هذه المرحلة هو دعم توجّه الإصلاح وامتلاك الدولة لأدوات مواجهة الوباء. فلن نبقى تحت الحجر إلى ما لا نهاية له. والنجاح كلّ النجاح في الخروج المتدرّج منه والموازنة بين تواصل الخطّة الوطنية في مواجهة الوباء وبين استئناف الحياة الاقتصاديّة التدريجي. وهذا بمعنى آخر موازنة دقيقة ووظيفيّة بين المقاربة الطبيّة والمقاربة الاجتماعيّة. في ظلّ كلّ هذا يستمرّ دعم توجّه مكافحة الفساد، رغم التعثّر. ويكون نقد الأداء بغاية تلافي التعثّر لا بالانزياح إلى التشكيك في المبدأ فذلك ما يريد أصحاب المصالح القديمة المتجدّدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كورونا.. المقايضة والخيارات القاسية تونسيًا

الدولة والثورة والوباء