03-سبتمبر-2019

تحتاج السياسة الخارجية في السنوات الخمس القادمة إلى رئيس يتميز ببعد النظر والطموح العقلاني (صورة أرشيفية/ زبير السويسي/ أ ف ب)

مقال رأي

 

مع احتدام النقاش والتنافس في السباق الانتخابي الرئاسي، طفى على السطح مجددًا ملف السياسة الخارجية لتونس منذ الثورة إلى حدود اليوم في سياق التقييم واستشراف التحديات المرتقبة لا سيما ونحن نعيش في عالم متقلب وتحولات جيو- استراتيجية دولية وإقليمية قد تنقلب خلالها المعادلات أحيانًا رأسًا على عقب بنسق جنوني تسقط معه أوهام المسلمات الكلاسيكية.

ضمن هذا المضمار، عقد مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي الذي يترأسه الأستاذ عدنان منصر المدير السابق لديوان رئاسة الجمهورية، يوم السبت 31 أوت/أغسطس 2019، ندوة حوارية على غاية من الأهمية تحت عنوان "أية سياسة خارجية لتونس بعد الانتخابات الرئاسية" جمعت نخبة من الدبلوماسيين والصحفيين والباحثين الأكاديميين وممثلين عن أحزاب سياسية والمجتمع المدني.

اقرأ/ي أيضًا: في الرئاسيات.. لا تأمن السّكوت ولا تصدقن "البلعوط

 أما آن الأوان لمراجعة هذا شعار ثوابت الدبلوماسية التونسية المتداول في الخطاب السياسي لمعرفة مدى مواكبته لعصرنا الحالي؟

وقد مثّل هذا اللقاء فرصة لي كصحفي وباحث مهتم بالشأن السياسي والتاريخي لتنشيط التفكير حول مجموعة من التساؤلات في علاقة بملف حارق شحيحة هي النقاشات حوله في المنابر الإعلامية التي عادة ما تكون الحوارات فيها سطحية و تنحو أكثر نحو البحث عن الإثارة السياسية لإكراهات متعقلة أساسًا بضيق الوقت وأيضًا بطبيعة الضيوف الذين يدلون بدلوهم في هذه الإشكالية التي تتطلب قدرًا كبيرًا من الموضوعية والزاد المعرفي وأدوات التحليل والاستشراف.

ما لفت انتباهي خلال النقاشات تكرّر تواتر استعمال عبارة ثوابت الدبلوماسية التونسية سواء لنقد تجربة الرئيس السابق محمد منصف المرزوقي زمن حكم الترويكا أو للإشادة بالسياسة الخارجية لتونس خلال عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. كان هناك لفيف من قدماء الدبلوماسيين خاصة من الذين تقلدوا مهام رسمية إبان حكم الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي قد أكدوا ضرورة أن يلتزم الرئيس القادم بهذه الثوابت المتمثلة حسب رأيهم أساسًا في الالتزام بالشرعية الدولية ضمن دائرة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وعدم التدخل في شؤون الغير وإعلاء مصلحة تونس فوق كلّ اعتبار أو مصالح ضيقة.

صحيح أنّه لا يمكن الاختلاف حول هذه المبادئ العامة في السياسة الخارجية لأي دولة نامية من العالم الذي كان يوصف بالثالث زمن القطبية الثنائية والحرب الباردة، فتونس مازالت تتلمس طريقها نحو الديمقراطية ضمن فضاء عرف تاريخيًا بالاستبداد السياسي وتفشي مظاهر الحكم السلطوي والوهن التنموي والارتهان الاقتصادي والمالي للدول الغربية الكبرى والقوية والذي خلق حالة من السيادة الوطنية التي يجوز القول إنها منقوصة لكي لا نسقط في الخطابات الشعبوية والثورية الراديكالية التي يرى فيها أصحابها تونس كبلد غير مستقل تمامًا مثلما كان الحال زمن الحماية والاستعمار المباشر.

رئيس الجمهورية هو المسؤول عن الدفاع على مصالح شعبه في مختلف المجالات والقطاعات ضمن رؤية شاملة

لكن السؤال الأبرز والأخطر الذي كانت الندوة منطلقًا لطرحه بصوت عال هو: أما آن الأوان لمراجعة هذا الشعار المتداول في الخطاب السياسي لمعرفة مدى مواكبته لعصرنا الحالي والرهانات والتحديات التي تنتظر رئيسنا المقبل؟

يستمد هذا السؤال مشروعيته من الصلاحيات التي منحها دستور الجمهورية الثانية لرئيس الدولة الذي يكون منتخبًا بشكل مباشر من الشعب فهو المؤتمن على السياسة الخارجية وهو أيضًا عقلها المدبر على المستوى الاستراتيجي سواء في علاقة بالدبلوماسية الاقتصادية وكذلك صورة البلاد وموقعها بين بقية الأمم في كبرى المحافل الدولية والإقليمية والقارية والتي تكون عادة مرتبطة بالمواقف تجاه أهم القضايا، كما أنه المسؤول عن الدفاع على مصالح شعبه في مختلف المجالات والقطاعات ضمن رؤية شاملة تراعي حدود الإمكانيات وآليات التفاوض والمناورات الممكنة.

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات: مبادئ التغطية الصحفية الخائبة!

كان هناك إجماع خلال الندوة على ضرورة أن تخرج السياسة الخارجية لتونس خلال المرحلة القادمة من بوتقة النمطية والمقاربة الكلاسيكية إذ لم يعد مسموحًا لرئيس الجمهورية الاكتفاء فقط بلعب دور انتظاري لنظرائه في العالم لاسيما الغربي وما سيقدمونه لتونس من إعانات وقروض وهبات بشروط عادة ما تكون مجحفة ولا تخدم مصلحة البلاد. فالمديونية الكريهة تحولت إلى أحد ثوابت رؤيتنا الدبلوماسية عوض أن تقوم سياستنا الخارجية على قاعدة فنّ الممكن واستنباط الحلول الكفيلة باستغلال الفرص المتاحة.

إنّ العديد من الآفاق الواعدة تتنظر تونس خلال المرحلة القادمة مع الرئيس الذي سينتخبه الشعب ليس ضمن الفضاء التقليدي الغربي الأوربي-الأمريكي والمغاربي- الإفريقي فحسب بل حري بنا التفكير في إعادة الانتشار الدبلوماسي ورسم معالم سياسة خارجية مواكبة لروح العصر بأدوات ومقاربات تتخلص فيها الدولة من أغلال خرافة الثوابت الممجوجة.

الشأن الدبلوماسي هو شأن سياسي بامتياز وهو يتطلب توافقًا واسعًا ورؤية جديدة وشاملة من داخل مؤسسات الدولة

ما يمكن استنتاجه من خلال هذه الندوة هو أنّ ملف السياسة الخارجية لتونس في المستقبل يتطلب وضع آليات جديدة واجتراح عقل سياسي غير نمطي يتجاوز فكرة ترديد مقولة الثوابت الدبلوماسية التي تجاوزتها الأحداث. ففي البحث عن مسالك أرحب تكمن مصلحة تونس وشعبها. ومن المهم هنا التأكيد على الحاجة إلى مأسسة هذا المسار حتى يكون بمثابة البوصلة التي تنير الطريق لكي لا تزيغ الدولة عن أقوم الطرق في جعل تونس الصغيرة بجحمها الجغرافي والديمغرافي قوّة صاعدة وسط منطقة مشحونة بالصراعات الدموية والعبثية السياسية تجاه رغبة الشعوب في التحرّر والانعتاق والتصدي لمخاطر المستقبل بإرادات مشتركة ومصالح متبادلة لا تكون دائمًا رهينة موازين القوى بالمفهوم التقليدي.

إنّ الشأن الدبلوماسي هو شأن سياسي بامتياز وهو يتطلب توافقًا واسعًا ورؤية جديدة وشاملة من داخل مؤسسات الدولة لكي يتبلور في شكل سياسة خارجية لا تقتصر فقط على مجرد مبادرات ظرفية أو ردود فعل بل هو يجب أن يرتكز على مقاربة استباقية واستشرافية ينظر لها على أنها مفتاح النجاح للخروج من  التكلس والتذبذب والضبابية ولبناء استراتجية متكاملة.

هذه الاستراتيجية الجديدة لا مناص من أن تكون جامعة للرسمي بالحزبي والاقتصادي بالإعلامي والثقافي بالسياحي والمدني بالسياسي والإقليمي بالدولي. فلتونس مصالح مع الاتحاد الأوروبي وأفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وإيران وكندا واتحاد المغرب العربي ودول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من الأقطار والتكتلات الاقتصادية والسياسية وجب الاستفادة منها بعيدًا عن ترديد خرافة ثوابت الدبلوماسية التونسية.

حتمًا تحتاج السياسة الخارجية في السنوات الخمس القادمة إلى رئيس يتميز ببعد النظر والطموح العقلاني والقدرة على الحركية الدبلوماسية والانفتاح والمبادرة للقطع مع فلسفة الحياد العقيم الذي أضحى ضربًا من ضروب السلبية ولعلّ الملف الليبي خير مثال على ذلك. علاوة عن تجديد السلك الدبلوماسي بكفاءات شبابية وليدة عصرها لكي تعطي دفعًا جديدًا لمكانة تونس في مختلف أقطار العالم فتسير بذلك على خطى المنجي سليم والحبيب بورقيبة ولكنها لا تبقى فقط حبيسة الماضي والخرافات الممجوجة وتكون بذلك فوق الاستقطابات الأيديولوجية والتبعية السلفيّة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رسائل نقاط الزبيدي الخمس..

حتى لا يتحوّل القطاع الثّقافي إلى حطب انتخابي