27-يوليو-2020

هل يعود الخط العربي في تونس لألقه بعد عقود من التهميش المتعمّد؟

 

ثمة حقيقة ثقافية وحضارية في تونس لا يمكن الاختلاف حولها وحان الوقت للإصداح بها وهي أن "الخط العربي" تعرّض طيلة فترة الاستقلال للإقصاء والتهميش، بل يذهب البعض إلى وصف ما حصل بالمؤامرة على تاريخ الشعب وذاكرته البعيدة وتشويه ملمح من ملامح هويته. إذ سعت دولة الاستقلال قصدًا إلى إبعاد هذا المكوّن الحضاري الأساسي في الثقافة العربية الإسلامية وطمسه وتحويله إلى فعل حرفي وذلك على خلفية اعتقاد مازال سائدًا إلى اليوم، مفاده أن الخط العربي هو أحد عناصر الجذب إلى الوراء أمام طموحات وأحلام بناة الدولة الاستقلال الفتية الذين حاولوا التشبه بتركيا الكمالية مع بداية القرن العشرين التي قامت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، فأقصت اللغة العربية وأبدلتها بالأحرف اللاتينية وحوّلت الخط العربي إلى ممارسة فنية فلكلورية.

تعرّض "الخط العربي" في تونس بعد الاستقلال للإقصاء والتهميش في سياق التشبّه بتركيا الكمالية وأُقصي من جغرافيا الفن كعدم تدريسه في مدارس الفنون الجميلة

ومع إغلاق المدارس الدينية وتعميم التعليم النظامي في السنوات الأولى للاستقلال في تونس، تحوّل الخط العربي من لازمة فنيّة وجمالية للقرآن الكريم والعلوم المحيطة به إلى مجرّد مادة تقنية بضارب ضعيف ضمن التعليم العصري سرعان ما تنتهى مع نهاية التعليم الابتدائي. كما شملت حملة الإقصاء التي استمرّت لعقود، العديد من المجالات الأخرى مازالت مخلفاتها بادية إلى اليوم منها اندثار "الخطاطة" كفعل فني وجمالي كان سائدًا لقرون ضمن الحياة اليومية للمجتمع التونسي. وتنكّرت الجامعة التونسية للمنزلة التاريخية للخط العربي في ظل غياب البحوث المتينة ذات الخلفية الفكرية والفلسفية. كما أُقصي الخط العربي من جغرافيا الفن في تونس فلا يدرّس بمدارس الفنون الجميلة ولا يدخل ضمن مجال مقتنيات الدولة من الأعمال الفنية مقابل رواج الحروفية كبديل لفنّ الخطّ العربي.

اقرأ/ي أيضًا: "الرسم على الماء" أو "الإيبرو".. الإقصاء القسري لفنّ عظيم

ولم يكن إنشاء "المركز الوطني لفنون الخط بتونس" سنة 1997 ضمن سياق ثقافي سليم ونتيجة لمراجعات صادقة للضيم الذي تعرض له الخط العربي طيلة فترة الاستقلال، بل كان يندرج ضمن سياق مغاير وهو تلميع السلطة النوفمبرية لصورتها التي طالها التشويه بخصوص تضييقها على الحريات العامة وخاصة الدين وما جاوره، فكان هذا المركز مجرد واجهة، إذ لم تكن له الاستقلالية الإدارية والمالية والعلمية المطلقة حيث تم إلحاقه بوزارة الثقافة، واتخذ من مقام الولي الصالح سيدي شيحة بالحلفاوين بباب سويقة مقرًا له، وكان ينهض بأدوار ورشوية بسيطة كتلك التي تنفّذ بنوادي المدارس والمؤسسات الشبابية ولم تكن له معارض سنوية وأنشطة علمية ذات بال.

تنكّرت الجامعة التونسية للمنزلة التاريخية للخط العربي

 

وضمن نفس سياقات ما قبل الثورة في تونس وبحذر شديد، اُدرج الخط العربي في البرامج البيداغوجية لمدارس الفنون الجميلة بتونس وسط استنكار العديد من "البوزاريين" الذين يرون في هذه الخيارات الجديدة تدنيسًا لمعبدهم وشكلًا من أشكال الرّدة الثقافية، وهي أحكام غير علمية وذات خلفيات أيديولوجية وسياسية خاصة إذا علمنا أن الخط العربي يُدرّس بالعديد من مدارس ومعاهد الفنون الجميلة الأوروبية. ولم يكن يُسمح في فترة الرئيس السابق زين العابدين بن علي للخطاطين التونسيين بالمشاركة في التظاهرات الدولية إلا بشرط أن يمثلوا أنفسهم فقط.

لكن ومع وصول الرئيس قيس سعيّد لقصر قرطاج وثبوت شغفه بالخط العربي وبالخط المغربي على وجه الخصوص، وذيوع مراسلاته الجميلة التي تحمل إمضاءه على شبكة الأنترنت، استشعر أهل الخط المنسيين منذ عقود تحرّكًا لامرئيًا في الساحة الثقافية التونسية، حيث فُسح المجال أكثر من ذي قبل لأنشطة تتعلق بالخط العربي حتى أنه ثمة من أكّد لـ"ألترا تونس" أن وزير الشؤون الثقافية الأسبق كانت له نية فصل المركز الوطني لفنون الخط عن المعهد الوطني للتراث وجعله ذا استقلالية مالية وإدارية وتعيين شخصية مرموقة في مجال الخط العربي تتولى إدارته، لكن مغادرة الحكومة حينها لتترك مكانها للحكومة التي لحقتها لم تمهل وزير الثقافة الوقت الكافي لتنفيذ ما كان يدور في خلده.

ولمزيد فهم وضعية الخط العربي في تونس، اتصل "الترا تونس" بعدد من الفاعلين في المجال فكانت هذه آراؤهم: 


 خليل قويعة (أستاذ الفنون الجميلة): آن الأوان أن يسترجع الخطاط مجده

خليل قويعة، أستاذ الفنون الجميلة بالجامعة التونسية، فضلًا عن انشغالاته الاكاديمية تدريسًا وتأطيرًا للبحوث العلمية، هو ناقد فني يكتب في المنصات المختصة في الفنون التشكيلية، وهو أيضًا صاحب عدّة إصدارات فكرية وفلسفية مختصة في الفن نذكر منها كتاب "الخط العربي بين العبارة التشكيلية والمنظومات التواصلية " وهو من منشورات بيت الحكمة بتونس سنة 2008.

أستاذ الفنون الجميلة خليل قويعة

 

أكد، في حديثه معنا، أن راهنية المرحلة التاريخية في وطننا بها من الثراء الإشكالي بما يتسع لإعادة طرح ملف الخط العربي بقوّة في إطار التأسيس وإعادة التأسيس والمراجعة والمحاسبة لما حدث في العقود التي تلت الاستقلال إلى اليوم، مضيفًا أن هذا الملف أفرز في السنوات الأخيرة كمًا استفهاميًا نلتقط بعضها: لماذا يبحث فنانو الخط العربي في تونس عن تظاهرات عربية وأجنبية لترويج إبداعاتهم فيما تتمنع لجنة الشراءات الوطنية عن اقتناء أعمالهم؟ أليس حريًا بتونس الآن أن يكون الخط العربي مؤسسًا لحساسية تشكيلية ذات خصوصية في الثقافة الوطنية وذلك عبر مراجعات عميقة تهم الجانب القانوني والمؤسسي وجوانب أخرى تهم إعادته لبرامج التربية والتعليم بمختلف المراحل وخاصة معاهد الفنون والحرف المختصّة؟ لماذا لم يحقق المركز الوطني لفنون الخط الذي تأسس بمقتضى الأمر عدد 2369 المؤرخ في 18 نوفمبر 1994 وبُعث سنة 1997 الإشعاع الذي كان يراهن عليه أهل الخط العربي في تونس؟ 

خليل قويعة: لماذا يبحث فنانو الخط العربي في تونس عن تظاهرات عربية وأجنبية لترويج إبداعاتهم فيما تتمنع لجنة الشراءات الوطنية عن اقتناء أعمالهم؟

وشدّد قويعة أن الباحثين التونسيين تنكروا لمنزلة الخط العربي في تاريخية الفن الحديث والحال أن الحرف العربي كان حاضرًا بعمق في المنعرج الجمالي الذي قدّمه بول كلي صاحب نظرية "الفنّ الحديث" أواسط القرن العشرين. وذكر محدّثنا أن الإقصاء الذي تعرض له الخط العربي طيلة سنوات أثّر في المرحلة الحالية على المئات من طلبة التصميم الغرافيكي بالجامعة التونسية الذين باتوا يقتصرون على البرامج الخطية المرقمنة وهي مستوردة من المعامل البريطانية والهندية والألمانية.

وختم قويعة، حديثه لـ"ألترا تونس"، بقوله إنه "آن الأوان أن يسترجع الخطاط مجده خدمة لأدوار جديدة تقتضيها شواغل العصر وراهنية الحياة داخل أزمنة معولمة ومن ذلك المشاركة في صياغة خطاب ثقافة الشارع بعيدًا عن الأطر الذهبية للوحة المتحفية واكتساح مجال التواصل الرقمي والافتراضي". 

عمر الجمني (خطّاط): سيعود ألق الخط العربي بتونس حال توفّر الإرادة السياسية

وُلد عمر الجمني بتونس سنة 1957، وهو خطّاط محترف يمارس فن الخط بشقيه التقليدي والمعاصر وباحث في شؤونه التاريخية والمعاصرة، متحصل على العديد من الجوائز التقديرية العالمية من تظاهرات فنية تعنى بالخط العربي. وأصدر كتابًا فنيًا عنوانه "لحن الكائنات" اشتغل خلاله على أشعار أبي القاسم الشابي، وهو أيضًا عضو لجنة تحكيم مهرجان الجزائر للخط العربي، وعضو شرفي للعديد من الجمعيات التي تهتم بشؤون الخط بتونس والأردن ومصر والمغرب وبالمركز الثقافي العراقي.

ما إن بادر "ألترا تونس" الأستاذ الخطاط عمر الجمني بالسؤال عن الوضعية الحالية للخط العربي بتونس حتى كانت أول الكلمات التي نطق بها مكررًا: "مقلق .. مقلق .. مقلق"، في عبارة وحيدة موجزة لكنها مكثفة وتختزن داخلها كل الأحزان وكل الإهانة التي تعرض لها الخط العربي والخطاطين التونسيين لسنوات طويلة من التهميش المقصود.

عمر الجمني: المرحلة البورقيبية أقصت الخط العربي لارتباطه العضوي بالعلوم الشرعية

اقرأ/ي أيضًا: "الكوميكس" أو "لغة الفقاعات".. إبداع يقتات من الهامش الثقافي

ذكر محدثنا أن تونس في منتصف القرن العشرين كانت تحوز عشرات الخطاطين الذين ظلوا يحملون راية الخط العربي إلى آخر رمق في حياتهم فيما لا يوجد اليوم إلا 8 خطّاطين على أقصى تقدير نذكر منهم الفنان الخطاط محمد سحنون الذي زاوج الخط بالنحت، وطارق عبيد، وعامر بن جدو المختص في الخط القيرواني، وحميدة الخربوشي، والحروفي نجا المهداوي الذي أعطى للحرف أفاقًا أخرى غير معهودة، وفق قوله.

وأكّد الجمني أن الأزمة التي يعيشها الخط العربي الآن لها جذورها التاريخية وهي سياسية بالأساس، ملاحظًا أن المرحلة البورقيبية أقصت الخط العربي لارتباطه العضوي بالعلوم الشرعية وهو ما أزعج الدولة التي تبحث حينها عن عناوين الحداثة فسعت إلى اجتثاثه لكنها لم تفلح لأن الخط العربي جزء لا يتجزأ من الهوية التونسية المنصهرة في الهوية العربية الإسلامية. وأضاف، في ذات الصدد، أن الخط العربي جذوره عريقة في هذه الأرض ولعل محراب جامع عقبة بن نافع خير دليل على ذلك وهو الموشى بالخط العربي منذ عام 256 هجري.

الخطاط عمر الجمني مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد

 

اقرأ/ي أيضًا: تونس واللغة العربية.. لا تقدّم لمجتمع بغير لغته الوطنيّة

وأفاد محدثنا أنه كان مدرسًا بالمركز الوطني لفنون الخط إبان تأسيسه أواسط تسعينيات القرن الماضي وكان يحلم بإنقاذ هذا الموروث الحضاري صحبة خطاطين آخرين، لكنه اصطدم بعدة عراقيل ظاهرها إداري لكن باطنها سياسي ليكتشف فيما بعد أن هذه المؤسسة الوطنية ليست سوى واجهة بلا عمق (فترينة). وذكر لنا حادثة تؤكد قوله ومفادها أن عمادة المهندسين التونسيين وعبر إحدى أنشطتها في تلك الفترة دعت ضيفًا مرموقًا وهو المهندس السوري عفيف بهنسي والذي يعد أيضًا من كبار الخطاطين في العالم وله بحوث وكتب منشورة تتعلق بالهندسة الإسلامية وفنون الخط، "فاقترحنا على مدير مركز الخط استضافة بهنسي لإلقاء محاضرة حول الخط العربي، ولكن بعد الموافقة والاتفاق مع عمادة المهندسين، تمت إهانة الرجل قصدًا وذلك عبر مسائل قد تبدو شكلية لكنها بالنسبة لنا جوهرية" وفق قوله، مبينًا أن وزارة الثقافة لم تحسم وفادة الضيف، ولم يتم توثيق المحاضرة، وهنا طالب الجمني بضرورة محاسبة كل من أذنب في حق الخط العربي.

وأضاف أنه في ظل الغياب التام للدولة، ينهض بالخط العربي اليوم في تونس، خطاطون إضافة للمجتمع المدني ممثلًا في "الجمعية التونسية لفنون الخط" التي تأسست منذ ما يناهز الأربع سنوات، وتقوم، وفق تأكيده، بمجهود محمود سواء في مستوى التظاهرات والأنشطة العلمية أو في مستوى التكوين وذلك بإرساء ورشات أسبوعية بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون ودار الثقافة ابن رشيق.

وفي خاتمة حديثه، أكد الأستاذ الخطاط عمر الجمني أنه متى توفرت الإرادة السياسية سيعود للخط العربي وفنونه ألقه ومجده المفقود، مقترحًا مراجعة هيكلية للمركز الوطني لفنون الخط وخاصة إخراجه من جلباب المعهد الوطني للتراث، وأن يكون داخله مشروع متواصل غير مرتبط بأشخاص، وأن ينهض المركز بعملية مسح كامل للمخزون الخطي بما يشمل كنوز المكتبة الوطنية.

الأمجد النوري: ملف الخط العربي في تونس أكبر من الجامعة

الأمجد النوري هو أستاذ الخط العربي بمدرسة الفنون الجميلة بتونس، والفنان الحروفي الذي زاوج بين الفسيفساء والخط. أنجز العديد من المعارض الفردية وشارك في أخرى جماعية، وله مشاركات في أنشطة اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين المحلية والدولية.

عمل حروفي للأمجد النوري

أوضح النوري، لـ"ألترا تونس" منذ البداية، أن مدرسة الفنون الجميلة بتونس قامت بالعديد من المراجعات فيما يتعلق بالخط العربي وقامت بإدراجه ضمن البرامج والأنشطة البيداغوجية ضمن أطر علمية بعيدة كل البعد عن كل ما هو سياسي وهذا يحسب لمدرسة عريقة تنقد نفسها وتسعى للإصلاح والتطوير وهذا ما حدث فيما يتعلق بالخط العربي، وفق تأكيده. 

ولكن أضاف أن ذلك لوحده لا يكفي لإعادة الخط العربي ضمن دروب الحياة اليومية للتونسيين بعد أكثر من نصف قرن من النسيان والإقصاء لأنه، وحسب اعتقاده، لا يجب النظر إلى ملف الخط العربي جماليًا وفلسفيًا فقط بل كذلك من زاوية ثقافية وهو ما يتطلب استراتيجيا وطنية يشارك فيها المجتمع بمختلف مؤسساته بما في ذلك الجامعة التونسية.

            

اقرأ/ي أيضًا:

الفنان التشكيلي صفوان ميلاد.. عن توحد الحرف والذات وتحرّرهما من الأغلال

جداريات الرسام حاتم المكي... كنز تشكيلي لفّه النسيان والإهمال