28-يونيو-2020

يعدّ حاتم المكي من رموز الفن التشكيلي التونسي (رمزي العياري/ألترا تونس)



ليس غلوّا القول إنه إثر حدث الاستقلال سنة 1956، سرت في البلاد معاني جديدة وساد شعور غامر باسترداد الذات المسلوبة التي كانت تقيم في مدارات الاستيلاب والتشضي. وقد لخّصها مفهوم بديع مستجدّ وهو "التّونسة"، أي ذاك المطلق الجديد الذي يقطع في الزمان والمكان مع سرديات الاستعمار الفرنسي التي كانت تمنع الإنسان التونسي حرّيته وحقّه في حركة تاريخ سليمة وغير مشوّهة. فشمل فعل "التّونسة" كل المجالات والقطاعات، وانبرى التونسيون صباحًا مساءً لترميم صورتهم التي شوّهها ونمذجها الاستعمار بإرادة صلبة لا تلين والبحث لهم عن هويّة زمنية جديدة قوامها العمل.

ومن القطاعات الثقافية والفنية التي كرّست مفهوم "التّونسة" وشاركت في ترتيب الأحلام الجديدة لدولة الاستقلال، نجد قطاع المسرح وخاصة مع فرقة بلدية تونس ورموزها الكبار: حمدة بن التيجاني، وعلي بن عياد والزهرة فائزة، وأيضًا الفرقة التمثيلية بالإذاعة التونسية، والفرقة المسرحية القارة الكاف وفرقة مسرح الجنوب بقفصة. وكذا قطاع الموسيقى والغناء وتلك الأصوات الخالدة: يوسف التميمي، وأحمد حمزة، ونعمة، ومحمد الجموسي، وعلي الرياحي والهادي الجويني

لم تكن فترة الستينيات والسبعينيات بالنسبة للرسامين التونسيين سوى محايثة لمفهوم بناء الذات التونسية الجديدة

أما قطاع الفنون التشكيلية الذي كان يتمتع بدرجة من الوعي السياسي فكانت له آراء جمالية في مخططات التنمية والاقتصاد أو ما عرف في تلك الحقبة بـ"البناء والتشييد". وكان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة دائمًا ما يلتقي الرّسامين والفنانين التشكيليين سواء يدعوهم الى قصر قرطاج أو يحضر معارضهم، وكان يستمع إلى اقتراحاتهم وتصوراتهم الجمالية، ويدعوهم إلى المساهمة في بناء ذائقة تونسية جديدة غير تلك التي أرساها الاستعمار الفرنسي بطرق شتى. وكان لرسّامي وفناني تلك الفترة مساهمة نوعية في خلق أفق جمالي تونسي ناجز استوعب كل النقاشات النظرية التي تطرحها "مدرسة تونس" وما جاورها من مختلف الرسامين.

اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

لم تكن فترة الستينيات والسبعينيات بالنسبة للرسامين التونسيين سوى محايثة لمفهوم بناء الذات التونسية الجديدة، فطرح حينها نقاش عميق حول توقيع الأعمال الفنية باللغة الفرنسية. كما شارك رسّامون في هيئات فنية بالبلديات، واشتغل آخرون على الساحات العامة فركزوا النصب التذكارية والتماثيل، كما أسهموا في هندسة ديكور العديد من المسرحيات، وأعدوا أغلفة الكتب التونسية الصادرة في تلك الفترة، وساهموا مساهمة بارزة في الكتب المدرسية فألهبوا خيال الأطفال عبر رسومات بسيطة لكنها حمّالة لقيم ومشرّعة على أبواب الحلم.

من كلاسيكيات الرسام حاتم المكي

 

ومن الأعمال الفنّية التي أنجزت في فترة بناء دولة الاستقلال ومازالت باقية الى اليوم هي تلك الموجة من الجداريات التي غمرت الساحات العامة والنزل إبان طفرة السياحة والبنوك العمومية والخاصة والمؤسسات الإدارية كالبريد والمدارس والمشافي. لم تكن تلك الجداريات عملية سهلة بالنظر لكبر حجمها ومساحتها بل كانت مغامرة تشكيلية وفنّية بالمعنى التقني والفكري للكلمة لم تشهد تونس مثيلًا لها إلى اليوم.

كانت هذه الجداريات كالأيقونات لما تحويه من رسائل حضارية وتاريخية وقيم إنسانية، ولنا أن نذكر هنا الجدارية الشهيرة الموجودة بالبهو العلوي لمؤسسة الإذاعة التونسية وهي من إنجاز الفنان التشكيلي زبيّر التركي بمعية الرسام إمحمد مطيمط  سنة 1962، وهي جدارية خلّدت رموز الأدب والفن في تلك الفترة مثل "جماعة تحت السور"، وموسيقيين مشهورين مثل أحمد الوافي، وخميس ترنان، ومطربين مثل صليحة، والراقصتين المشهورتين "زينة وعزيزة" والشاعر محمود بورقيبة. لكن مع مرور الأيام خفت بريق تلك الجداريات فأهمل أغلبها وأزيل بعضها عبثًا وسهوًا، ونسي بعضها تمامًا رغم أهميتها وأهمية من أنجزها من الفنانين.

"ألترا تونس" ينفض الغبار عن جداريات حاتم المكي

من منسيات الأعمال الفنية التي أنجزت في ستينيات القرن الماضي، يقدّم "ألترا تونس" ضمن سبق خاص به مجموعة جداريات الرسام التونسي الشهير حاتم المكّي التي نفّذها بإحدى المؤسسات التربوية العريقة بتونس وهي المعهد الثانوي خزندار. الرسام حاتم المكّي الذي انخرط في فعل "التّونسة" هو مولود بجزيرة جاوة بأندونسيا سنة 1918 من أب تونسي من "الجريد"، نفي إلى جزر الهند الشرقية لأسباب نضالية ومن أمّ أندونسية، وقد قضّى جزءًا من طفولته هناك قبل أن يتحول مع أسرته إلى تونس ليدرس بمدرسة خير الدين باشا الابتدائية ثم بمعهد كارنو.

حاتم المكي في طابع بريدي تونسي

 

وسافر عام 1938 إلى باريس حيث اشتغل رسّامًا بعدّة مجلاّت ودوريات، وقد كلّفه مدير مجموعة الصحافة الفرنسية وهو يهودي تونسي بتصوير بورتريهات لكتّاب فرنسيين منهم أندري جيد وألبير كامي. كما التقى حاتم المكي الفيلسوف الألماني غاستون باشلار وطلب منه أن يرسمه وعند نهاية اللقاء قال له باشلار "لقد كنت انظر إليك وأنت تصوّر وأتأمّل حركاتك وانفعالاتك... لقد كنت حقًا كالممثّل فوق الرّكح، وقد وجدت فيك ما كنت أبتغيه لأني بصدد الكتابة عن تأثّر الرّسام وتفاعلاته مع اللوحة".

ومع اشتداد الحرب العالمية الثانية، عاد المكّي إلى تونس لينغمس في عوالم الرسم وينجز رصيدًا مهمًا عدّه النّقاد "رحلة البحث عن الذات". وبعد أن حطّت الحرب أوزارها، عاد الى باريس مجددًا ليبدأ من سنة 1953 تنظيم معارضه الشخصية بأوروبا وبالولايات المتحدة والصين والعديد من البلدان العربية، وقد قال عنه الصحفي الفرنسي جون غوجون: "إنه من الفنانين الذين يعتقدون أنهم يجسدون العالم في صور إلاّ أنّهم في الواقع لا ينفكّون عن مساءلة العالم ومساءلة أنفسهم". وقد نزع في بعض معارضه إلى تناول القضايا الوطنية في رسوماته مثل البؤس والفقر الذي تسبب فيه الاستعمار، ومن الأعمال التي اشتهر بها في تلك الفترة نجد على سبيل الذكر: "فلاقة"، و"الشحاذون"، و"وجه المجاعة" و"الرحلة الأخيرة".

جدارية لحاتم المكي في بورصة الشغل بتونس

 

الرسام حاتم المكي اشتهر أيضًا لدى عامة التونسيين بإنجازه للطوابع البريدية التي كان يستوحي رسوماتها من الحياة اليومية ومن الأساطير والخرافات التونسية القديمة، وقد انجز طيلة رحلته مع البريد التونسي والتي امتدّت من 1957 إلى 1995 ما يفوق 454 طابعًا بريديًا. وقد صنفه اتحاد البريد العالمي كأحد أهمّ مصممي الطوابع البريدية في العالم.

الفنّان حاتم المكي ظل يرسم لستّين سنة كاملة ترك خلالها مسيرة متوّجة بمئات الأعمال الفنية المتنوعة التي تستحق الصيانة والتثمين وإعادة الإحياء، ويعود أقدم عمل للمكي يحمل توقيعه لسنة 1929 أما آخر لوحة مؤرخة  تعود لسنة 1989.

جداريات معهد خزندار.. أعمال ذات بعد تربوي

أمّا الجداريات التي أنجزها المكي ضمن هبة النخب التونسية مع بداية الستينيات من أجل بناء الوطن كل من موقعه، من أشهرها تلك التي رسمها ببورصة الشغل قرب محطة قطار الضاحية الشمالية بتونس العاصمة. لكن ما  نسي تمامًا من المجموع العام لجدارياته هي الباقة التي رسمها بمعهد خزندار وهو مؤسسة تعليمية رمزية تعتبر مفخرة التعليم النظامي في تونس ما بعد الاستقلال.

اقرأ/ي أيضًا: الفنان التشكيلي لمجد النّوري: الحروفية أعادت الرّوح لسبّورات المدارس (حوار)

رسم حاتم المكّي بخزندار ما يناهز 15 جدارية موزعة على قاعات التدّريس وقاعات الأكل والمكتبة والأروقة، وهي أعمال ذات بعد تربوي وتراوح بين التعبيري والواقعي حاول خلالها الرسام حاتم المكي أن ينهض بدور المربّي وصانع أجيال وأن يزرع قيمًا إنسانية خالدة لدى الناشئة مثل قيمة العمل والابتكار والتضامن.

من جداريات حاتم المكي في معهد خزندار

 

كانت فرشاة حاتم المكي على جداريات معهد خزندار متّسمة بالبساطة في ظاهرها وخاصّة في مستوى الألوان التي استعملها وانكسارات خطوطها وتشابك الوجوه ولمعات الضوء، لكنها في نفس الوقت كانت حاثة لمشاهديها من التلاميذ على التأمل وإطلاق عنان الخيال لتربية الحلم، وهو ما كانت تهدف إليه هذه اللوحات فيكتشف التلميذ ذاته ويبدأ في صناعة رموزه الذهنية.

لم تتوخ جداريات المكي على حيطان معهد خزندار بالعاصمة عقيدة الفلكلور والاتباعية الكلاسيكية كما فعل رموز "مدرسة تونس للفن التشكيلي" في جدارياتهم، بل تقيدت بالمنظور البعدي والأغراض والمواضيع المرتبطة بالحركة وضجيج الحياة  بإيقاعاتها المختلفة.

بقيت الجداريات التي تحمل إمضاءة الفنان الكبير حاتم المكي أحد آباء ورموز الثقافة التونسية والحركة الفنية التشكيلية خارج دوائر الضوء بل بدأ النسيان في لفّها

هذه الجداريات التي تحمل إمضاءة الفنان الكبير حاتم المكي أحد آباء ورموز الثقافة التونسية والحركة الفنية التشكيلية على وجه الخصوص، بقيت خارج دوائر الضوء بل بدأ النسيان في لفّها، إذ لا نجد علامات تشير إلى صاحبها أو الفترة التي رسمت فيها. كما لا أحد من الباحثين الثقافيين أو الجامعيين المختصين في الفنون التشكيلية تناول هذا الكنز المفقود باستثناء بحثين: الأول للباحثة والرسامة نجاة الذهبي وهو بحث في مستوى الماجستير "عنوانه الالتزام التشكيلي في معلقات ولوحات حاتم المكي"، والثاني بحث ماجستير أيضًا للباحثة ألفة معلى وعنوانه "مفهوم العمل التصويري عند حاتم المكي".  فوزارة التربية التي يوجد هذا الكنز في أحد مؤسساتها التعليمية غير منتبهة لهذه الجداريات، ولا وزارة الشؤون الثقافية تعلم بوجودها أصلًا فتذهب اليها لتعتني بها وتضع برنامجًا لصونها وترميمها والتوثيق حولها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر.. عندما تنتصر إرادة الشعب للذاكرة الثقافية

"الرجل الذي أصبح متحفًا".. حينما تحتفي السينما بالتشكيلي علي عيسى