18-مارس-2018

الطاهر بن عمار يوقع اتفاقية الاستقلال الداخلي (ويكيبيديا)

 

تحتفل تونس يوم 20 مارس/ آذار من كل سنة بذكرى عيد الاستقلال الذي ناضل لأجل الوصول إليه عديد التونسيين والتونسيات وضحوا بحياتهم وأرواحهم لطرد المستعمر الفرنسي. ولئن لعبت شخصيات وطنية كثيرة دورًا هامًا وبارزًا في معارك التحرير وناضلت وبذلت وقتها وجهدها في مقاومة المستعمر، إلا أنه وقع تغييبها بعد الاستقلال لأسباب سياسية ومآرب زعاماتية وغير ذلك.

ولعلّ من أبرز الشخصيات الوطنية التونسية التي عانت التغييب بل والسجن بعد الاستقلال، الطاهر بن عمار، الرجل الذي قاد مفاوضات عسيرة مع السلطات الفرنسية وأمضى وثيقة الاستقلال يوم 20 مارس 1956، ومع ذلك يكاد يكون مجهولًا لدى عامة التونسيين.

ولد الطاهر بن عمار في العاصمة تونس يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1889، وهو سليل عائلة فلاحية بورجوازية. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في معهد العلوي قبل أن يلتحق بمعهد كارنو بتونس العاصمة. لكن وفاة والده عام 1907 أجبرته على ترك مقاعد الدراسة وإدارة المشاريع الزراعية التي تمتلكها عائلته. كان بن عمار شغوفًا بتطور التقنيات الزراعية وتنقل كثيرًا بين تونس وأوروبا لشراء أحدث الآلات ومواكبات الآليات المتطورة في الزراعة، مما مكّنه من تكوين علاقات مع رجال أعمال وبرلمانيين فرنسيين.

ساهم الطاهر بن عمار بعد نهاية الحرب الكبرى في مقاومة مشروع القرض الفرنسي لتونس والمخصّص أساسًا لتنمية الاستعمار الاستيطاني

الطاهر بن عمار (ويكيبيديا)

بدأ اهتمام الطاهر بن عمار بالسياسة في سن مبكرة وتعاطف مع الشبان التونسيين والمتابعين للشأن السياسي المحلي في ظروف غلب عليها التوتر والتصعيد بعد الخروج التدريجي لحركة الشباب التونسي من طابعها النخبوي عندما كان يبلغ من العمر 23 ربيعًا. وأصبح الطاهر بن عمار يرتاد منذ سنة 1913 "النادي التونسي" الذي كان يُعنى بالمسائل الاقتصادية التي تهمّ الأهالي.

ساهم الطاهر بن عمار بعد نهاية الحرب الكبرى في مقاومة مشروع القرض الفرنسي لتونس والمخصّص أساسًا لتنمية الاستعمار الاستيطاني. كما شارك في حركة الشبان التونسيين وانضم إلى القيادة الحزبية العليا صحبة مجموعة من المحامين والأطباء والصحفيين والملاكمين وأصبح بالتالي من العناصر القيادية التي التحقت بـ"الحزب التونسي"، والتي تتميّز عن النواة القديمة للشبان التونسيين المتمثلة في في عبد العزيز الثعالبي وأحمد الصافي وحسونة العياشي والصادق الزمرلي.

في جوان/ حزيران 1920، أرسل الحزب الدستوري وفدًا مكونًا من 3 محامين وشيخين من الزاوية إلى باريس لتقديم المطالب الدستورية التونسية للحكومة الفرنسية.وقام الطاهر بن عمار بدور هام لإنجاح مساعي هذا الوفد. ولكن ورغم مختلف التدخلات لم ينجح الوفد في مهمته علمًا وأنه التقى بعض المسؤولين الفرنسيين وقد تمّ إيقاف عبد العزيز الثعالبي يوم 30 جويلية/ تموز 1920.

 بعد فشل الوفد الأول، تمّ تشكيل وفد ثان ترأسه هذه المرة الطاهر بن عمار نظرًا لمتانة علاقته مع الأوساط الفرنسية. واختار بن عمار حسونة العياشي وإيلي زراح، وهو محام يهودي، وعبد الرحمن اللزام وحمودة المنستيري وفرحات بن عياد، ليكونوا معه في الوفد.

تمكّن هذا الوفد من مقابلة رئيس مجلس الوزراء أرستيد بريان ووزير الشؤون الخارجية جورج لايغ والمقيم العام الجديد لوسيان سان قبل التحاقه بمنصبه في تونس. طالب الوفد المسؤولين الفرنسيين بإطلاق سراح المعتقلين الدستوريين المتهمين بالتآمر على أمن الدولة ومنح دستور للشعب التونسي. وبعد هذه اللقاءات اقتنع الوفد باستحالة الحصول على الدستور فتمّ تعديل المطالب وتضمين مطلب إجبارية التعليم وتعميمه في تونس ومنح التونسيين ميثاقًا دستوريًا ملائمًا لتطورهم الاجتماعي تحت الرقابة الفرنسية.

بعد عودة الوفد إلى تونس، تمّ رفع حالة الحصار المفروضة منذ حوادث الزلاج في نوفمبر/ تشرين الثاني 1911 وإنشاء وزارة عدل تونسية وإطلاق سراح عبد العزيز الثعالبي. ومع ذلك، مثّل تقييم عمل الوفد محور اختلاف حقيقي تحوّل إلى قطيعة مع ظهور الحزب الإصلاحي الذي التحق به الطاهر بن عمار بعد انسلاخه عن الحزب الدستوري ونشط في صفوفه إلى حين اضمحلاله عام 1928 دون أن يتسلّم مناصب قيادية فيه.

هذا ويُلاحظ الباحث الجامعي فوزي السباعي لـ"الترا تونس"، والذي كان قد أعدّ أطروحة دكتوراه حول شخصية الطاهر بن عمار، أن دخول هذا الأخير إلى عالم السياسة فعليًا لم يتجاوز السنتين، بين 1920 و1922 وكان حضوره بارزاً أحيانًا وباهتًا في أحيان أخرى وأنه بات يبتعد تدريجيًا عن الأحزاب السياسية إلى أن انفصل عنها نهائيًا عام 1928 ليلتحق بمؤسسة الحجرة الفلاحية والمجلس الكبير في نفس السنة. ويضيف السباعي أن الطاهر بن عمار اقتنع بإمكانية التحرّك الأنجع داخل المؤسسات التمثيلية التي أحدثها المقيم العام لوسيان سان وحافظ على استقلاليته حتى آخر حياته.

في المقابل، يصرّ الشاذلي بن عمار، ابن الطاهر بن عمار، أن والده أسس الجبهة الوطنية عام 1944 التي تضمّ في تركيبتها ممثلين عن الحزب الدستوري الجديد والحزب الدستوري القديم وجامع الزيتونة والحركة المنصفية والمجلس الكبير. ويؤكد الشاذلي بن عمار في تصريح سابق لإذاعة كاب اف ام أن أباه ترأس هذه الجبهة.

كان الطاهر بن عمار على غرار جلّ الدستوريين مقتنعًا أن مطلب الاستقلال التام لا يمكن أن يتحقق قبل مراحل تحضيرية تسبقه

تولى الطاهر بن عمار رئاسة القسم التونسي للمجلس الكبير 3 مرات متتالية ومرة رابعة في ما بعد. وقد كان لبن عمار دور هام في خلخلة عمل مؤسسة المجلس الكبير منذ سنة 1950 إلى حدّ تقويضه نهائيًا بمساعدة وطنيين تونسيين من داخل المجلس وخارجه وبتحريض من الأمين العام للحزب الدستوري الجديد آنذاك صالح بن يوسف. ورغم انخراطه في سياسة التعاون والمشاركة من داخل مؤسسة المجلس الاستعمارية، لم يصل الطاهر بن عمار أبدًا إلى درجة الابتذال ونجح في توظيف هذه المشاركة لخدمة مصالح وطنية خاصة على الصعيد الاقتصادي.

كان الطاهر بن عمار على غرار جلّ الدستوريين مقتنعًا أن مطلب الاستقلال التام لا يمكن أن يتحقق قبل مراحل تحضيرية تسبقه وتمكن خلال زيارته لفرنسا عام 1947 من إقناع عدد من البرلمانيين الفرنسيين بتبني هذا المبدأ. تلت ذلك تحولات هامة في الوضع السياسي التونسي حيث عاد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى تونس من المشرق العربي في سبتمبر/ أيلول 1949 بالتزامن انحلال الجبهة الوطنية. وفور عودته شرع بورقيبة في وضع برنامج إصلاحي تحرري عرضه في باريس عام 1950.

من جهته، توجه الطاهر بن عمار إلى فرنسا في ماي/ أيار 1950 وقدّم للمسؤولين الفرنسيين مذكرة تضمنت جملة من المطالب التي تتمثل في الاعتراف بمبدأ السيادة التونسية وبعث حكومة تونسية ذات سلطة فعالة وبعث مجلس تونسي له حق التقرير وإصلاح الوظيفة العمومية وإصلاح مؤسسة المجلس الكبير.

رغم الوعود الفرنسية، لم تدم فترة الانفراج النسبي في العلاقة بين تونس وفرنسا طويلًا وسرعان ما تدهورت رغم محاولات الطاهر بن عمار التدخل لدى مسؤولين فرنسيين. وتم إيقاف الحبيب بورقيبة بعد ما دعا إلى الاستعداد للمواجهة الحاسمة وإبعاده إلى منطقة طبرقة بمحافظة جندوبة. وفي نهاية شهر جانفي/ كانون الثاني 1952 عمليات مقاومة غير مسبوقة خاصة في مدن وقرى الساحل والوطن القبلي. وقد قامت القوات الفرنسية بالانتقام من هذه الانتفاضة الشعبية عبر عمليات "تطهير" في قرى الوطن القبلي لم يسلم منها المدنيون العزّل والنساء والأطفال والشيوخ.

الأمر الذي دفع الطاهر بن عمار إلى تكوين لجنة تقصي الحقائق حول ما حصل في الوطن القبلي وكشفها للرأي العام المحلي والسلطات الفرنسية. وقد تمّ تسريب تقرير لجنة الطاهر بن عمار إلى جريدة فرنسية آنذاك الأمر الذي أثار غضب المقيم العام الفرنسي بتونس جون دي هوتكلوك.

حكومة الطاهر بن عمار الأولى (ويكيبيديا)

وفي أوت 1954، تمّ تكليف الطاهر بن عمار برئاسة الحكومة التفاوضية الأولى بناء على اقتراح قادة الحزب الدستوري الحر بعدما رفض العزيز الجلولي ذلك رغم العلاقة المتوترة بين بن عمار ومحمد الأمين باي، وفق المؤرخ فوزي السباعي الذي يشير إلى أن الطاهر بن عمار اعترف أن ترشيحه جاء من الحبيب بورقيبة وأن المنجي سليم أجبره على قبول المهمة وقام فتحي زهير بإقناع الباي لتزكيته. وتضمنت الحكومة وزراء دستوريين عيّنهم الحزب الدستوري الجديد ووزراء آخرين اختارهم الطاهر بن عمار.

وسافر الطاهر بن عمار يوم 17 أوت/ آب 1954 إلى باريس للإشراف على وضع الترتيبات الأولية الممهدة للافتتاح الرسمي للمفاوضات التونسية الفرنسية وأصرّ على مقابلة الحبيب بورقيبة في مقرّ إقامته الجبرية رغم معارضة الحكومة الفرنسية. وتميّز بن عمار بدور توافقي في الأزمة التي مرّت بها المفاوضات التونسية الفرنسية ونجح في إنقاذها دون أن يكون ذلك على حساب المقاومين التونسيين المعتصمين في الجبال.

وتواصلت سلسلة المفاوضات مع الطرف الفرنسي والتقى الطاهر بن عمار في جانفي/ كانون الثاني 1955 لست مرات مع رئيس مجلس الوزراء الفرنسي منداس فرانس بهدف التعجيل في إتمام المفاوضات، ولكن حكومته سقطت قبل ذلك وتمّ تكليف إدغار فور برئاسة الحكومة الفرنسية الجديدة. وهو خبر استقبله الطاهر بن عمار بارتياح لما بين الرجلين من مودة قديمة.

واستأنفت إثر ذلك مفاوضات عسيرة  بين الجانبين التونسي والفرنسي في 15 مارس/ آذار 1955. وفي الليلة الفاصلة بين 21 و22 أفريل/ نيسان 1955 وقّع الطاهر بن عمار وإدغار فور بروتوكول اتفاق مبدئي يتضمّن ملخّص الاتفاقيات المنظمة للعلاقات بين البلدين في نطاق الاستقلال الداخلي. وفي الثالث من شهر جوان/ حزيران 1955 تمّ التوقيع الرسمي لهذه الاتفاقيات، في حين عاد الحبيب بورقيبة بعجلة إلى تونس منذ غرّة جوان، حسب فوزي السباعي.

بعد التوقيع على اتفاقية الاستقلال الداخلي، اعتقد الطاهر بن عمار أن مهمته انتهت وقدّم استقالة حكومته في 12 سبتمبر/ أيلول 1955 خاصة وأن تطبيق هذه الاتفاقيات يقتضي تشكيل حكومة تونسية متجانسة وانتقالية تقود البلاد إلى حين انتخاب المجلس التأسيسي.

طالب الطاهر بن عمار بإلغاء معاهدة 12 ماي 1881

حكومة الطاهر بن عمار الثانية (ويكيبيديا)

وبحسب المؤرخ الجامعي فوزي السباعي فقد طرحت 3 سيناريوهات، الأولى تتمثل في تكوين حكومة يرأسها الطاهر بن عمار ويشارك فيها صالح بن يوسف كوزير للعدل ونائب للرئيس، والثانية في الإبقاء على حكومة بن عمار مع بعض التحويرات واحتمال استثنائي يتمثل في تشكيل حكومة وحدة وطنية يرأسها الحبيب بورقيبة بمساعدة نائبي رئيس هما الطاهر بن عمار ومحمد اشنيق. لكن بورقيبة رفض تشكيل الحكومة الجديدة واقترح على الباي تجديد الثقة في الطاهر بن عمار. وقد حظي هذا الأخير بتزكية المنظمات الوطنية المتمثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد العام للفلاحة التونسية.

وفي 14 سبتمبر/ أيلول 1955، تمّ تكليف الطاهر بن عمار بتشكيل الحكومة. وانطلق في مشاورات ماراطونية مع مختلف الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية وشيخي الإسلام وممثلي الجالية اليهودية في تونس، ليتمكن بعد 4 أيام من النقاشات عسيرة من تكوين حكومة ضمّت 12 وزيرًا.

وبعد تطورات إقليمية ودولية وفرنسية داخلية، كّلف محمد الأمين باي الطاهر بن عمار يوم 9 فيفري/ شباط 1956 بإبلاغ الحكومة الفرنسية برغبته في فتح مفاوضات جديدة لمنح استقلال البلاد التونسية. وافتتحت المفاوضات الرسمية التونسية الفرنسية يوم 29 فيفري/ شباط 1956. وطالب الطاهر بن عمار في الخطاب الذي ألقاه ذلك اليوم بإلغاء معاهدة 12 ماي 1881 وتعديل اتفاقيات جوان/ حزيران 1955 لتصبح متناسقة مع ممارسة السيادة التامة من طرف البلاد التونسية.

وانطلقت إثر ذلك جولة جديدة من المفاوضات الصعبة والعسيرة إلى جانب ظروف أمنية صعبة عاشتها تونس إثر اغتيال الأخوين توماسان أجبرت الطاهر بن عمار إلى العودة إلى تونس في 10 مارس/ آذار 1956 لتؤول رئاسة الوفد التونسي إلى الباهي الأدغم.

وقد نجح الحبيب بورقيبة في حسم أمر المفاوضات المتعثرة بعد أن استنجد به مجلس الوزراء الفرنسي يوم 17 مارس/ آذار ولحق به الطاهر بن عمار بعد الاتفاق على فحوى بروتوكول الاستقلال. ونال بن عمار شرف التوقيع على وثيقة الاستقلال يوم 20 مارس/ آذار 1956، وفق السباعي.

وانتخب إثر ذلك الطاهر بن عمار عضوًا بالمجلس التأسيسي التونسي ضمن قائمة "الجبهة القومية". وقدّم استقالة حكومته يوم 9 أفريل/نيسان 1956. وفي 11 أفريل/ نيسان سلّم مقاليد رئاسة الحكومة لخلفه الحبيب بورقيبة. وواصل نشاطه كرئيس للحجرة الفلاحية التونسية للشمال إلى أن حلّت عام 1955 وكعضو في المجلس القومي التأسيسي إلى أن وقع رفع الحصانة البرلمانية عنه وإيقافه من قبل قوات الأمن في شهر مارس/ آذار 1958.

الطاهر بن عمار لعون أمن: قيّد يدي اليسرى إن شئت أما يدي اليمنى التي أمضت على وثيقة الاستقلال فلا أسمح لك بتقييدها

قد يصعب على المرء أن يصدّق أن يتمّ إيقاف من وقع على وثيقة الاستقلال التونسي بهذه الطريقة. ولكن هذا ما وقع فعلًا بعد ما اعترف رفعت بن امحمد بن محمد الأمين الباي الملك المخلوع بوجود حقائب تابعة للعائلة المالكة تمّ إخفاؤها في أماكن مختلفة من بينها منزل الطاهر بن عمار، إذ قامت زوجة الشاذلي بن محمد الأمين باي منذ شهر ماي/ أيار 1957 بإخفاء مجوهراتها لدى زكية بن عياد زوجة الطاهر بن عمار.

وفجر يوم 6 مارس/ آذار 1958 توجهت قوة من الأمن التونسي إلى منزل الطاهر بن عمار مصحوبة بزوجة الشاذلي بن محمد الأمين باي واعترفت زكية بن عياد أنها تسلّمت حقيبة من هذه الأخيرة ولم تعلم زوجها بذلك وقامت بإخفائها في منزل شقيقها بعد إعلان الجمهورية يوم 25 جويلية/ تموز 1957. وقد تمّ إثر ذلك إيقاف زكية بن عياد وشقيقها العروسي بن عياد وتمت مصادرة الحقيبة من منزله. في حين تم إيفاف الطاهر بن عمار بعد ذلك بساعات قليلة.

وكان الطاهر بن عمار، عند مجيء قوات الأمن لإلقاء القبض عليه، محاطًا بأبنائه وأحفاده. وقال للعون الذي أراد تكبيله "قيّد يدي اليسرى إن شئت أما يدي اليمنى التي أمضت على وثيقة الاستقلال فلا أسمح لك بتقييدها"، حسب ما أفادنا به المؤرخ فوزي السباعي.

كما تمّ إثر ذلك فتح تحقيق آخر ضدّه واتهامه بالتهرب الجبائي وامتلاك مكاسب غير مشروعة. وحكمت عليه محكمة القضاء العليا بأداء 30 مليونًا من الفرنكات أصلًا وخطية لفائدة الخزينة. وفي قضية المصوغ، حكم عليه بالسجن لمدة 4 أشهر مع تأجيل التنفيذ وبأداء خطية قيمتها 10 ملايين من الفرنكات، وهو نفس الحكم الصادر ضدّ زوجته التي لم تُسعف بتأجيل التنفيذ.

الطاهر بن عمار يسلّم رئاسة الحكومة لخلفه الحبيب بورقيبة (ويكيبيديا)

وينقل المؤرخ فحوى 3 تقارير صادرة عن السفارة الفرنسية تكشف عن تأويلات مختلفة لأسباب محاكمة الطاهر بن عمار. ويقول التقرير الأول إن الحبيب بورقيبة أشرف مباشرة على قضية الطاهر بن عمار وكان متشددًا ورافضًا لأي تدخل بشأنها. وكشف التقرير أن بورقيبة يحنق على بن عمار لأنه رفض إدلاء شهادة ضد محمد الأمين باي مرجحًا أيضًا إمكانية وجود علاقة بين هذه المحاكمة وانتماء الطاهر بن عمار لشريحة كبار الفلاحين الذين يتعاطف جزء كبير منهم مع الحركة اليوسفية. أما التقرير الثاني فيوعز حقد الحكومة التونسية إلى رفض الطاهر بن عمار تقديم مساعدة سخية كمساهمة شخصية منه لمشروع إعادة توزيع الملكيات. في حين يذهب التقرير الثالث إلى أن ما تعرّض إليه الطاهر بن عمار من نكران للجميل وقسوة مردّه امتناعه عن تقديم هبة مالية متماشية مع حجم ثروته للدولة التونسية أو التخلي لها طوعًا عن بعض أراضيه.

بعد مغادرته السجن، عاش الطاهر بن عمار بعيدًا عن الأضواء وعن الحياة السياسية. وخيّر قضاء وقته بين منزله بضاحية خير الدين يسهر على رعاية أبنائه وأحفاده وأحد نزل باريس أين كان ابنه محمد علي نزيلًا بأحد المستشفيات. وتعرّضت عائلة الطاهر بن عمار كغيرها من العائلات الفلاحية التونسية إلى تهديد حقيقي ناجم عن السياسة الاقتصادية التونسية المتبعة في الستينات وكادت أن تخسر هنشير "خارجة" الذي يعدّ أحد أبرز أملاك بن عمار، بحسب فوزي السباعي. 

وانتهت تجربة التعاضد سنة 1969 بالتزامن مع حصول الطاهر بن عمار على الصنف الأكبر من وسام الاستقلال من قبل الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 25 جويلية/ تموز من نفس السنة. وفي العاشر من شهر ماي/ أيار 1985، توفي الطاهر بن عمار في ظلّ صمت مريب من قبل وسائل الإعلام، حتى أن الناشط في صفوف الحزب الدستوري الجديد الحبيب بولعراس انتقد ما وصفه بـ"الصمت المخزي" للصحافة.

يعدّ الطاهر بن عمار أحد أبرز رجالات الاستقلال رغم أنه قد يكون قد أخطأ في مواقع وأصاب في أخرى. لكن شخصية الرجل التوافقية التي تمكنت من تجاوز خلافات حادة بين أطراف متناقضة أوصلت تونس بعد مخاض صعب إلى التحرّر من براثن المستعمر الفرنسي وتستحق إعادة الاعتبار بعد التهميش والتعتيم الذي طالها.