18-أكتوبر-2018

كان الحبيب بورقيبة يتابع بنفسه أشغال بناء ضريحه منذ بداية الستينيات (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

في السادس من أفريل/نيسان من سنة 2000، توفي الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية التونسية، وتم دفنه في الثامن من نفس الشهر بمرقده في المقبرة الإسلامية بالمنستير. لم يكن ضريحه مجرد قبر يضمه أو قصرًا يأوي أهله، بل بناء شيد ليعبر عن رؤية "زعيم" حكم البلاد لثلاثة عقود من 1956 إلى 1987.

ورغم اختلاف التونسيين والباحثين في تاريخ تونس حول شخصية الحبيب بورقيبة، فإن مرقده يبوح لنا ببعض من أسرار شخصيته التي حكم بها البلاد. لذلك سنتطرق في هذا الجزء الأول إلى تاريخية تشييد هذا الضريح، وأهم مكوناته، فيما سنتناول في الجزء الثاني أهم محتوياته من الأثاث والهدايا ودلالات الأبيات الشعرية المنقوشة على الرخام الأبيض في قاعدة المنارتين.

"نعم أفكر في الموت، أعلم أنكم تدعون لي لتطيلوا عمري ولكن مهما طال عمري سينتهي بالموت، المهم بالنسبة لي أن تواصلوا من بعدي في نفس الطريق وبنفس المبادئ والرأي.. أما إذا غيّبني الموت لن أكون بعيدًا عنكم.. كثير من الذهب ومع الإضاءة (في إشارة إلى أعلى القبة)، يجب تركيز أعمدة كبرى لتسمح بدخول الضوء (من حول القبة) ليس لأني أولي أهمية كبرى لهذه الأشياء ولما هو دنيوي، ولكن سيسمح هذا للشعب التونسي بالقدوم هنا ليس إعجابًا بالحجر ولكن لتذكر حياة هذا الرجل وتتبع أثره"، الحبيب بورقيبة في أوت/أغسطس 1973.

قبر الحبيب بورقيبة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

هكذا عبر بورقيبة حينها عن مشاعره نحو الموت عندما كان يتفقد الأشغال الجارية بضريحه في المنستير، وعندما كان يمسك بالمجسم الهندسي الصغير ويشير إلى البنائين بالتعليمات والتوجيهات في تشييد مرقده الأخير.

كان يشرف بورقيبة بنفسه منذ سنة 1963 خلال إجازته السنوية بالمنستير على أشغال البناء، وكان يزور الضريح في موكب صغير من مقربيه. وظل على تلك الحال حتى تاريخ الانقلاب عليه من طرف الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، حينما دخل سجنه الأخير بمقر إقامته بدار الوالي بالمنستير لمدة 13 سنة، ظل هناك منعزلًا بعيدًا عن القصور لم يتمتع بغير الأكل والشرب والنوم دون الحق في استقبال الزوار إلا من بعض المقربين منه تحت حراسة دولة بن علي وذلك إلى تاريخ وفاته في 6 أفريل/نيسان سنة 2000 ولم يفتح الضريح للزوار إلا بعد الوفاة.

الحبيب بورقيبة في أوت 1973: أبني الضريح لأنه سيسمح للشعب التونسي بالقدوم إليه ليس إعجابًا بالحجر ولكن لتذكر حياة هذا الرجل وتتبع أثره

منذ بداية الستينات، كان قد استهل الحبيب بورقيبة مشروع بناء ضريحه الذي سيضمه، وقد اجتمع من حوله أهله الأقربين فمنذ سنة 1960 كلف المهندس المعماري ذو الأصول اليهودية أوليفييه كليمون كاكوب Olivier Clément Cacoub (مواليد تونس في 14 أفريل/نيسان 1920 وتوفي في باريس في 27 أفريل/نيسان 2008) بتصميم ضريحه. وقد وقع الاختيار على كاكوب باعتباره مهندسًا مستشارًا للدولة التونسية، فمن بين تصميماته في الهندسة المعمارية القصر الرئاسي بقرطاج، وقصر المرمر بسقانص المنستير، ونزل أفريكا، وقبة المنزه، وقصر المهرجان بكان الفرنسية، ومبنى جامعة الأورليانز وعدة قصور في بلدان إفريقية، إذ كانت تتميز تصميماته بالوفرة والتنوع مع إعادة بناء الأشكال العادية مما يضفي عليها الخصوصية الثقافية للبلاد.

اقرأ/ي أيضًا: الطاهر بن عمار: موقّع وثيقة الاستقلال الذي غُيبت بصماته

وبعد أن اكتمل بناء قصر المرمر بسقانص المنستير في 3 أوت/أغسطس 1962، التفت بورقيبة إلى تشييد ضريحه في المقبرة الإسلامية بالمدينة التي تعتبر المدفن الرئيسي لأهالي المدينة، وتقع على مشارف البحر الأبيض المتوسط، ويحيط بها رباط المنستير وسور المدينة ويتوسطها ضريح الإمام المازري.

كان يشرف الحبيب بورقيبة بنفسه منذ سنة 1963 خلال إجازته السنوية بالمنستير على أشغال بناء ضريحه وظل على تلك الحال حتى تاريخ الانقلاب عليه سنة 1987

وصولًا إلى الضريح، تمر عبر ممر يبلغ طوله 200 مترًا وعرضه 30 مترًا على جنبتيه مقاعد رخامية، وتترامى القبور البيضاء يمينًا ويسارًا. وتضم قبتان، أول الممر، مربعين أحدهما مسيّج بالحديد الأخضر يسمّى مربع الشهداء يضم رفاة 7 مواطنين من أهالي المنستير استشهدوا في الحقبة الاستعمارية من بينهم شعبان بن صالح البحوري الذي استشهد سنة 1933 أعقاب قضية التجنيس، ومحمد بن نصر الله مسعود الذي استشهد بسوسة خلال أحداث 22 جانفي/كانون الثاني 1952، والشهيد سعيد بن الحاج صالح الذي استشهد بالمنستير في 3 أوت/أغسطس 1953، والشهيد عبد السلام تريمش المتوفى في 31 أوت/أغسطس 1953، والشهيد أحمد الغندري الذي أعدمته قوات الاحتلال في ذات اليوم المذكور أيضًا، وذلك إضافة للشهيد مصطفى بن جنات الذي أُعدم دون محاكمة سنة 1953.

وتلوح آخر الممر الطويل قبة ذهبية كبيرة تتوسط ثلاث قباب خضراء أصغر حجمًا، وتحيط بها منارتين متناظرتين من المرمر الأبيض تبلغ طول الواحدة 25 مترًا. ويحيط بالضريح والمنارتين سياج حديدي ضخم مزركش بأشكال ذات طابع مغربي زينت بطلاء ذهبي لامع جلب خصيصًا من فرنسا. ويذكر أن هذا المبنى شُيّد على مراحل، وتمت توسعته سنة 1978.

ثريا ضريح بورقيبة تضم 365 جوهرة بلورية ترمز إلى عدد أيام السنة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: 4 نقاط تشابه بين عهدي بورقيبة والسبسي.. فهل يكرر التاريخ نفسه؟

يضم الجزء الرئيسي من الضريح القبة الذهبية الكبيرة، ويتوسطه باب رئيسي مصنوع من خشب الساج رُسمت عليه نقوش ذهبية "المجاهد الأكبر، باني تونس الجديدة، محرر المرأة". وتتوسط الساحة الرئيسية تحت القبة الزرقاء الضريح الرخامي وقد كُتب عليه "الحبيب بورقيبة".

ويُحاط بالجزئين، الطابق الأرضي والطابق الأول، شرفات وأقواس وأعمدة من رخام. وتتدلى من فوق ثريا ضخمة تزن 3.5 طن، تضم 365 جوهرة بلورية ترمز إلى عدد أيام السنة. وتمكن الإطلالة من الشرفة من النظر إلى الضريح الرخامي من جميع الزوايا. وهناك في إحدى الأركان، تجد مجلسًا لقارئ القرآن يعوده شيخ في المناسبات الرسمية الدينية والوطنية وعند حلول الوفود الزائرة لروضة آل بورقيبة.

يضم الجزء الرئيسي من الضريح القبة الذهبية الكبيرة ويتوسطه باب رئيسي مصنوع من خشب الساج رُسمت عليه نقوش ذهبية "المجاهد الأكبر، باني تونس الجديدة، محرر المرأة"

وتجد ظهر الضريح ممرًا تعلو سطحه نقوشًا على الخشب، ويتوسط ثلاثة غرف الأولى تضم أضرحة عائلة الحبيب بورقيبة، وتحتوي 10 أضرحة سجت بأرضية رخامية وشاهد كتب عليه الاسم واللقب وتاريخي الولادة والوفاة، وختمت بعبارة "تغمده (ها) الله برحمته (ها)".

وتحمل هذه الأضرحة أسماء الحاج محمد بورقيبة جد المجاهد الأكبر (1820-1865)، ومحمد بورقيبة (1881-1930)، ومريم بورقيبة زوجة المرحوم محمد بورقيبة (1897-1935)، ورفعت بن محمد بورقيبة (1921-1951)، ومحمد بن الحاج محمد بورقيبة (1835-1919)، وعلي بن الحاج محمد بورقيبة والد المجاهد الأكبر (1850-1925)، وفطومة بورقيبة أم المجاهد الأكبر (1865-1913)، وخدوجة بن شعبان مزالي زوجة المرحوم أحمد خفشة (1845-1920)، وعيشوشة بنت علي بورقيبة (1895-1948) ومحمود بورقيبة.

أضرحة عائلة بورقيبة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

أما في الغرفة الثالثة على يسار ضريح بورقيبة، فيضم 5 أضرحة من بينها زوجته مفيدة بورقيبة (1890 – 1976)، وهي الزوجة الأولى للرئيس السابق وكانت تسمى عند الولادة ماتيلدا لوران، وناجية بنت علي بورقيبة، ومحمد بن علي بورقيبة وأحمد بورقيبة.

ولا يزال ضريح الحبيب بورقيبة تحت رقابة أمنية من طرف الأمن الرئاسي الذي يشرف على تأمين الموقع، ويمر السائح أو الزائر عبر ممر جانبي، ويخضع عند الدخول إلى الرقابة الأمنية تجنبًا لكل خطر إرهابي أو إجرامي، كما يخضع الموقع للحراسة عبر كاميرات المراقبة. يذكر أن الموقع تعرض سنة 2014 إلى محاولة تفجير إرهابي، مما استدعى حراسة مشددة إثر نداءات من جهات حكومية ومدنية لمزيد تأمين ضريح آل بورقيبة.

(يتبع)

 

اقرأ/ي أيضًا:

علي الزليطني.. قصة أحد مناضلي الاستقلال المنسيين

الأخوان حفوز.. قصة مناضلين تونسيين اغتالتهما اليد الحمراء