12-يوليو-2020

أصبح الاحتقان سمة قارة في عمل البرلمان (وسيم الجديدي/جيتي)

مقال رأي

 

البرلمان في نظام شبه برلماني هو الإطار الرئيسي لصياغة القرار السياسي من حيث ضبط التوازنات وعقد التحالفات المُنتجة للحكومة التي يستحوذ رئيسها على جلّ صلاحيات السلطة التنفيذية. ولكن بعد أقل من عام من بدء البرلمان المُنتج بعد انتخابات 2019 عمله، والذي تمتد عهدته لخمس سنوات، لا يختلف التونسيون أنهم إزاء عطب متراكم للمؤسسة التشريعية واحتقان متزايد داخلها وتأزم متصاعد لا ينفرج وهو ما يعود إلى 4 أسباب مترابطة:

1- التركيبة الفسيفسائية للمشهد البرلماني بسبب اعتماد نظام الاقتراع على القائمات بأكبر البقايا دون عتبة ما أفرز جزرًا حزبية متباعدة المسافة ومتقاربة التمثيلية، ومثاله أن الحزب الأول (حركة النهضة) لا يستحوذ إلا على 54 نائبًا أي ربع مقاعد البرلمان المتكوّن من 216 مقعدًا، مع تقارب عدد مقاعد بقية الكتل: الكتلة الديمقراطية (حركة الشعب والتيار الديمقراطي) بـ38 نائبًا، وكتلة "قلب تونس" بـ27 مقعدًا، وكتلة ائتلاف الكرامة بـ19 مقعدًا وكتلة الدستوري الحر بـ16 مقعدًا وبنفس عدد المقاعد كتلة الإصلاح الوطني. وأدى غياب حزب بأغلبية نسبية مريحة أو ائتلاف حكومي برلماني بأغلبية فارقة عن المعارضة (مثل المجلس التأسيسي 2011 وبرلمان 2014)، وتكوين حكومة بأغلبية 129 نائبًا بائتلاف يفتقد للتضامن بين مكوناته مع معارضة "قوية" تضم الكتل الثالثة والرابعة والخامسة، إلى تحوّل البرلمان إلى ساحة للتجاذبات الحادة في ظل التوازنات المتقلّبة والهشّة.

لا يختلف التونسيون أنهم إزاء عطب متراكم للمؤسسة التشريعية واحتقان متزايد داخلها وتأزم متصاعد لا ينفرج 

2- فشل حركة النهضة في تمرير حكومتها ما دفع مهمة تكليف رئيس الحكومة تُوكّل إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد الذي اختار شخصية (إلياس الفخفاخ) وقعت تزكيتها في البداية من حزبي التيار و"تحيا تونس" (35 نائبًا) فقط وتحفّظت عليها كتل النهضة و"قلب تونس" وائتلاف الكرامة. وكوّن الفخفاخ "حكومة الضرورة" بتحالف بين 3 كتل برلمانية (النهضة والكتلة الديمقراطية والإصلاح الوطني) كُونت بغير رضاء النهضة (التي كانت تدفع ولازالت بإضافة "قلب تونس" وهو ما رفضه الفخفاخ)، وهي ضرورة من حيث أن عدم المصادقة عليها يؤدي لانتخابات تشريعية مبكرة. فشل النهضة ومنها البرلمان جوهرًا في مهمة تكوين الحكومة وتحوّل مركز الثقل، وقتيًا نظريًا على الأقل، إلى رئيس الجمهورية لاختيار رئيس حكومة بتصوّر مخالف لرغبة أكبر حزبين (النهضة وقلب تونس)، جعل البرلمان ساحة توتّر وتجاذب بين كتل الائتلاف الحكومي نفسه، ما أدى لثنائية: ائتلاف حكومي وآخر برلماني يضمّ ترويكا النهضة و"قلب تونس" وائتلاف الكرامة، بسعي النهضة لتدارك ضعف تأثيرها في الحكومة بالتأثير في البرلمان مع كتلتين معارضتين. وقد أدى تهجم من نائب حركة الشعب هيكل المكي على رئاسة البرلمان، وثم تصويت هذه الحركة مع كتلة الإصلاح الوطني على لائحة ليبيا، إلى زيادة التوتر بين أطراف الحكومة داخل البرلمان مع فشل تحوّل الائتلاف الحكومي إلى ائتلاف برلماني أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: سعيّد والنهضة.. علاقة متوترة ليست في مصلحة أحد

3- زاد تولّي رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لرئاسة البرلمان في تصاعد وتيرة التوتّر داخل البرلمان. لا غرو أنه من حق الحركة تصعيد رئيسها لهذا الموقع السياسي وإخراجه من دائرة التأثير من الموقع الحزبي إلى الموقع المؤسساتي داخل الدولة، ولكن لا يمكن تجاوز أن لهذا التصعيد كلفة بتحوّل الغنوشي إلى محل استهداف من كتلة الحزب الدستوري الحر يكاد في كل جلسة برلمانية عامّة، في مشهد حوّل البرلمان إلى ساحة للعراك بل والسباب، زاد في تمثله كعنصر تأزيم في البلاد.

4- يعرف برلمان 2019 مقارنة بالبرلمان السابق صعود حزبين جديدين على طرفي نقيض: ائتلاف الكرامة الذي يضم قيادات إسلامية بعضها ذات توجه سلفي ويقدم خطابًا "ثوريًا" يميل إلى الشعبوية أحيانًا، والحزب الدستوري الحر الذي تقوده القيادية السابقة في التجمع المنحل عبير موسي والتي تقدم خطابًا إقصائيًا ضد الإسلاميين وهي مرتبطة بأجندات إقليمية بشكل بيّن. هذان الحزبان متموقعان معًا في المعارضة، وإن تظلّ "الكرامة" معارضة للحكومة فيما يعارض الدستوري الحرّ "المنظومة" برمّتها من دستور وبرلمان ونشاط الإسلاميين أنفسهم في العمل السياسي، ولكنهما أكثر حزبين تتباعد المسافة فيما بينهما فكرًا وتقديرًا للموقف. ويشهد البرلمان منذ أولى جلساته مشاحنات وملاسنات بين نواب الكتلتين بشكل مستمرّ لا يكاد يغيب عن أي جلسة برلمانية، ما جعل إيقاف الجلسات التي تُعرض على المباشر، وذلك بسبب التوتر والمشاحنات أمرًا عاديًا، زاد في تصوير البرلمان أمام العامة كـ"مساحة تؤكد فشل السياسيين في إدارة البلاد".

هل سيظلّ البرلمان الذي بدأ نشاطه في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وتمتد عهدته لمدة 5 سنوات على هذا الحال؟ هو كابوس، بالنسبة للمهتمين بالشأن السياسي أكثر من المواطنين، لأنه يعطّل العملية السياسية ويرذّلها، ويزيد من تحويل الخيار الديمقراطي، في أذهان غير المتسيّسين بالخصوص، إلى مشكل في حد ذاته. البرلمان منذ سنوات في تونس هو أحد أكثر المؤسسات الأقل شعبية بين التونسيين مقابل الثقة المرتفعة في المؤسستين العسكرية والأمنية، ويزداد بأدائه طيلة الأشهر الأخيرة في فقدان رصيد ثقة بالكاد لم تبدأ تعبئته، بل تحوّل البرلمان لعبء، رغم عدم إمكانية تبخيس نشاط بعض كتله ونوابه، ونشاط لجانه البرلمانية، والحيوية في تقديم مقترحات قوانين بالخصوص لحل عدة ملفات عالقة.

أزمة أداء البرلمان على النحو المُعاين من الجمهور العام يقابلها رصيد يتصاعد لفائدة رئيس الجمهورية القادم من خارج المجتمع الحزبي

ولكن أزمة أداء البرلمان على النحو المُعاين من الجمهور العام وللأسباب السابق عرضها، يقابلها رصيد يتصاعد لفائدة رئيس الجمهورية القادم من خارج المجتمع الحزبي وغير ممثّل في البرلمان، والذي لازالت علاقته برئيس البرلمان راشد الغنوشي تتراوح بين عدم الارتياح والتوتر أحيانًا بالخصوص على خلفية النشاط الديبلوماسي للغنوشي الذي أثار ارتياب رئيس الدولة في أكثر من مناسبة علنًا. ويبدو أن سعيّد بصدد توظيف أزمة البرلمان لفائدته، وتماشيًا مع دعوات سياسية وبالخصوص شعبية إلى حد ما، تطالب بالعودة للنظام الرئاسي بدل النظام شبه البرلماني في ظل أزمة الإدارة الجماعية للمؤسسة التشريعية. وقد أعلن فعلًا من باريس مؤخرًا، وبشكل مفاجئ، نيته تقديم مشروع لتعديل الدستور نحو هذا الاتجاه، مع مشروع قانون آخر لاعتماد نظام الاقتراع على الأفراد، الذي لا يخدم الأحزاب ويفيد المستقلّين، وهو ما يعني أن سعيّد سيواجه المجتمع الحزبي وبالخصوص حركة النهضة عبر هذه المشاريع طيلة الفترة القادمة، أي أن العلاقة بين رئاسة الجمهورية والبرلمان تتجه إلى التصعيد بدل التهدئة رغم التعايش المُلزم لهما.

اقرأ/ي أيضًا: حكومة إلياس الفخفاخ.. أين وصلنا؟

بيد أن هل البرلمان غير قادر على الضبط الذاتي بتخفيف التوتر داخله وتجاوز صورته السيئة أمام الجمهور العام؟ المهمة لا تبدو يسيرة باعتبار وجود ثوابت قارة هي تشتت التركيبة وما تعنيه من صعوبة التجانس والتحوّل المستمر لتغيير التوازنات والتحالفات غير الصلبة بطبعها، والاستقطاب البرلماني بين الدستوري الحر وائتلاف الكرامة وهو مفيد لهما بغض النظر عن خيار خوضه من عدمه، وأخيرًا رئاسة الغنوشي المُستهدف بشكل ممنهج من الدستوري الحر الذي يستثمر في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لتقديم عرض سياسي قصووي يلقى سماعًا في عدة أوساط تقول علنًا وهمسًا أنها "كفرت" بالديمقراطية. لا خلاف أنه يوجد عزم من عبير موسي على عدم التهدئة وجعل البرلمان ساحة للعمل الدعائي لفائدة حزبها، وهي ترى في الاستقطاب مع رئاسة البرلمان والنهضة عمومًا فرصة سياسية لا يجب تفويتها، وبذلك سيظلّ البرلمان ساحة توتّر وليس للنقاش الهادئ والديمقراطي والعقلاني بين مكوّناته السياسية، على النحو الذي يرومه التونسيون. لكن هذا لا يمنع دون المضي في عقد ميثاق برلماني يضمن الحد الأدنى من عمل البرلمان دون احتقان يومي على الأقل وسط آمال أن العلاقات الإنسانية بين النواب ستساهم في ردم الهوة وتقريب المسافات دون إلغاء للاختلافات، وهو أمر مشكوك مادامت موسي مثلًا ترفض مصافحة نواب "الإخوان" كما تصفهم.

وفي جانب آخر، إن الضبابية بخصوص موقف النهضة من الحكومة وعدم الحسم الجدي في موقعها، وعدم تطابق الائتلاف الحكومي مع الائتلاف البرلماني في ظل تنسيق النهضة المستمرّ مع كتلتين معارضتين تحرشًا بالحكومة ولتعزيز أوراق الضغط عليها، هو عنصر واجب الحسم بكل شجاعة من حركة النهضة. وعلامة هذا الحسم، بغض النظر عن شكل الحكومة وتركيبتها إن تغيّرت في نهاية المطاف، هو التطابق بين الائتلاف الحكومي والائتلاف البرلماني، وأن يكون الحزب المشارك في الحكومة، سواء كان النهضة أو غيرها، داعمًا للخيارات الحكومية في البرلمان احتكامًا لمبادئ التحالف والتضامن وعلى الأقل لموجبات الائتلافات الحكومية. وعدا ذلك، سيتحوّل البرلمان إلى عبء على الديمقراطية من حيث أنه يصبح شاهدًا لدى غير الديمقراطيين عن عدم نجاعة المؤسسات المنتخبة لحسن إدارة الشأن العام، وتلك الخسارة الكبرى. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن المصالح وشبهات الفساد ومهنة السياسة في تونس (1)

عن المصالح وشبهات الفساد ومهنة السياسة في تونس (2)