مقال رأي
ماذا يعني أن تمتهن السياسة في الديمقراطية التونسية بعد الثورة؟ وما علاقة ذلك بالمصالح الشخصيّة والعامّة وشبهات الفساد؟
سننطلق في مقاربة هذا السّؤال من فرضيّة قد تبدو غريبة، ولكنّها راجحة من منظور ما سنأتي على تبيانه: أنّه لا وجود في تونس لممارسة مهنيّة منتظمة للسياسة وأنّ ذلك يفتح الباب لكلّ إمكانيات تضارب المصالح إن حسنت النيّة والفساد إن ساءت.
اقرأ/ي أيضًا: عن المصالح وشبهات الفساد ومهنة السياسة في تونس (1)
بعد الثورة شهدت تونس ولادة جيل سياسي جديد بعضه قادم من القلاع المهنيّة التاريخيّة للمعارضة التونسيّة، المحاماة ولكن أيضًا نقابات الاتحاد العام التونسي للشغل، التي كانت قلعة الحماية داخل الوظيفة العمومية: الأساتذة والموظفون تحديدًا. وإذا كانت الدراسات الأكاديمية التونسية لا تزال تفتقر لدراسات دقيقة حول المسارات المهنية والشخصية للسياسيين، فإنّ العارفين بالساحة يدركون أنّ التفرّغ النقابيّ كان لعقود ولا يزال رديفًا لامتهان السياسة بالنّسبة لعدد لا يُستهان به من كوادر المعارضة في تونس: في التربية والتعليم والبريد وغيرهما. ولعقود مثّلت النقابة منظمة سياسيّة مهنية سمحت بالتعدد الحزبيّ داخلها.
لا وجود في تونس لممارسة مهنيّة منتظمة للسياسة وذلك يفتح الباب لكلّ إمكانيات تضارب المصالح إن حسنت النيّة والفساد إن ساءت
أمّا في قطاع المحاماة، فإنّ الأمر بدا أكثر تعقيدًا. ثمّة من المحامين من سمحت لهم علاقتهم القوية بالمنظّمة الشغيلة بضمان حدّ أدنى أو مقبول من الدّخل عبر عقود إسداء خدمات لبعض الشركات العمومية والتي كان لاتّحاد الشغل كلمته الفصل فيها قبل الثورة. في المقابل، قسم ثان من المحامين لم يُسعفه حظّه من العلاقة مع الاتّحاد العامّ التونسي للشّغل فكانت مهنته عسيرة من حيث مردودها الماليّ والشخصيّ، وبعضهم لم يُعرف له نشاط مهنيّ اللهمّ إن تعلّق الأمر بقضايا سياسيّة محضة. وهذا القسم الأخير إمّا أنّه استنفذ قواه قبل الثورة فانصرف بعدها لخاصّة شأنه مع انتهاء الحظر عليه، أو عُرف عنه نسب وميراث كفلا له مُتّسعًا من الرّزق.
أمّا فيما عدا هذين الشريحتين المهنيّتين، فإنّ الأطبّاء هم الأقلّ عُرضة للحظر على أنشطتهم المهنيّة إلاّ إن تجاوزوا خطوطًا حمراء بعيدة (على غرار الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) بحكم ندرة الاختصاص ووجاهته الاجتماعيّة. وفي الصّحافة، لم يكن متاحًا للمعارض إلاّ التعاقد مع وكالات أو صحف أجنبيّة إن أتيح ذلك.
لا نحتاج لتفصيل الأسماء وما يعرفه كلّ عارف مبتدئ بالساحة السياسية، لكن تكفي الإشارة إلى تفسير الشيخ عبد الفتاح مورو لاعتزاله السياسة عقدين من الزمن وتفرّغه للشأن المهني والعائليّ، ويكفي تتبع المسارات الشخصية للأستاذ أحمد نجيب الشابي (المحاماة والوجاهة العائلية) والدكتور مصطفى بن جعفر (الطبّ والنقابة) ووزراء حاليين كمحمد الحامدي (التعليم والنقابة) وغيرهم.
ليس الهدف ممّا أتينا على ذكره محض تفريع سريع (وسطحيّ ربما) للخلفيات والمسارات المهنية للكادر السياسي التونسي المعارض الراديكالي قبل الثورة والفاعلين في السلطة بعدها. إنّما نريد التّأشير على محدوديّة تمثيلية الطبقة السياسية للخلفيات المهنية والاجتماعيّة. وإلى حدّ كبير، بدا أنّ هذه المحدودية هي عائق كبير في زمن الديمقراطية التعددية بعد الثورة: لا تعددية الأحزاب فقط ولكن تعددية التمثيلية المهنية والاجتماعية. وبعد الثورة على وجه التّحديد، بدت الحاجة السياسية لقسمين من الفاعلين لا علاقة بمساراتهم المهنيّة بالمعهود الذي فصّلناه آنفًا. قسم أوّل يشمل المساجين والمنفيين أو جلّهم، وقسم ثان يشمل من ارتبط بروز نجمهم في عالم السياسة بخلفية فنية أو تقنية براغماتية أو اختصاص عمليّ مهنيّ: بالنّسبة لهذه الشّريحة على وجه التّحديد يفتح تولّي المناصب السياسية باب التأويلات الوجيهة بخصوص تضارب المصالح.
ماذا يعني أن تكون موظّفًا مرموقًا في شركة دولية للاتصالات ثمّ تتولّى منصبًا وزاريًّا؟ وماذا يعني أن تكون صاحب مؤسّسة صناعيّة ناجحة ثمّ تتولّى وزارة الصناعة؟ فمن ناحية، يعكس النّجاح المهنيّ جانبًا من الكفاءة، ومن ناحية ثانية قد يعني ذلك عدم حياد في الصفقات والتوجّهات الفنية الحساسة المتعلقة بدعم قطاع على حساب آخر أو تمييز شراكة دوليّة على حساب أخرى.
ماذا يعني أن تكون موظّفًا مرموقًا في شركة دولية للاتصالات ثمّ تتولّى منصبًا وزاريًّا؟ وماذا يعني أن تكون صاحب مؤسّسة صناعيّة ناجحة ثمّ تتولّى وزارة الصناعة؟
يندرج ملفّ رئيس الحكومة الحاليّ، وقبله رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة وفريق التكنوقراط أيضًا في هذا الإطار. نحن إزاء نجاح مهنيّ في استقطاب الاستثمار الخارجيّ الصناعيّ قبل الثورة وتواصل بعدها بالتّوازي – أو بالتقاطع – مع مسار سياسيّ. ما وراء ذلك سؤال أكثر بساطة وتعقيدًا في آن: ما هو المستقبل المهنيّ للوزراء والنواب والكوادر السياسيين بعد نهاية عهدتهم في سنّة ديمقراطيّة محكومة بالتداول؟ يبدو هذا السّؤال غبيًّا ولكنّه مهمّ لتلمّس المسارات السياسية المستجدّة. هل يمكن لوزير أو رئيس حكومة سابق – إذا ما استثنينا التعليم – أن يعود لمؤسسة اقتصادية أو فنية قدم منها؟ وهل يمكنه العودة لنشاطه الربحي الخاصّ بعد إذ اختار موقعًا منحازًا لرؤية على حساب أخرى؟
وعلى سبيل المثال، وفي الديمقراطيات المعروفة عادة ما تشمل الأحزاب مؤسسات بحثية ومهنية محلية ووطنيّة ودوليّة أيضًا تسمح من جهة بالاستفادة من خبرات من مرّوا بوظائف سامية وتوفّر في الآن ذاته بديلاً أو تواصلاً مهنيًّا معقولًا. وهي في الواقع مؤسّسات تحقّق الحصانة الوطنيّة لمن مرّوا بدواليب الدولة وتضمن للجماعة الوطنيّة الاستفادة من خبرتهم في أطر أخرى قد تكون أحيانًا أكثر جدوى (المراكز البحثية في الولايات المتحدة، المؤسسات الوقفية الحزبية في ألمانيا الخ..). وفيما هو أبعد من ذلك، تسمح مثل هذه الديناميكيّة بانتظام سياسيّ معقول تتراكم فيه الخبرات والتجارب في إطار لا هو داخل الدولة ولا هو بخارجها تمامًا.
في الديمقراطيات المعروفة عادة ما تشمل الأحزاب مؤسسات بحثية ومهنية محلية ووطنيّة ودوليّة أيضًا تسمح من جهة بالاستفادة من خبرات من مرّوا بوظائف سامية وتوفّر في الآن ذاته بديلاً أو تواصلاً مهنيًّا معقولًا
طبعًا لا يعني ذلك إغفال العلاقات القائمة بين المال والسياسة في كل الديمقراطيات وكون مسألة تضارب المصالح هي ممّا كرّس الانطباع بفساد الديمقراطيّة أو غياب الثقة فيها في كلّ العالم، ولكنّ القدرة على ضبط تضارب المصالح وتوضيحه لا يكتمل دون إرساء مجال سياسيّ يأخذ بعين الاعتبار طموحات الأفراد ومساراتهم وتوازنهم.
يقتضي الأمر تفكيرًا جديًا في مسألة تمويل الأحزاب والحياة السياسيّة، وتمويلها لا للترشّح للانتخابات فقط ولكن للعمل الدّائم على الأفكار وتأطير الأفراد والمجتمع سياسيًّا وثقافيًا، على المستويات المحلية والوطنية والدولية. وحينها فقط وضع شروط تحول دون التقاطعات غير المحمودة بين الطموح المهني والطموح السياسيّ أو مهنة السياسة خاصّة لمن احترفها في المناصب العليا للدولة.
أمّا في غياب إجابة واضحة على هذه الأسئلة الحساّسة الخاصّة والعامّة في آن، فسيبقى تضارب المصالح بالنسبة للطبقة السياسة هو القاعدة... وما عداه استثناء.
اقرأ/ي أيضًا: