10-مارس-2020

تمثّلت عوائق النهضة البنيويّة في العجز عن بلوغ مرحلة العدالة والتنمية (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

الوجه الآخر لهذا السؤال هو ما تعرفه حركة النهضة من تململ داخلها توضّحت ملامحه بعد 2011، وإن كانت عليه علامات بارزة في منعطفات مهمّة من مسيرة طويلة غلب عليها الصدام مع النظام الذي سكن الدولة لستة عقود وبلغ في مرحلته النوفمبريّة انحطاطًا غير مسبوق.

عرفت حركة النهضة منذ مرحلة الجماعة الإسلاميّة خروج قيادات ومجموعات لأسباب مختلفة

عرفت حركة النهضة منذ مرحلة الجماعة الإسلاميّة في السبعينيّات والاتجاه الإسلامي في الثمانينيات، قبل أن تتسمّى بالنهضة في التسعينيّات، خروج قيادات ومجموعات لأسباب مختلفة منها الشخصي ومنها ضيقُ الفضاء التنظيمي بما يستجدّ من أفكار، ومنها الاختلاف حول تقييم منعرجات عرفتها الحركة حول منهج التغيير ووسائله.

غير أنّ هذه الاختلافات وهذه الانسحابات اختلفت باختلاف المراحل التي قطعتها البلاد باتجاه الحريّة وتأسيس الديمقراطيّة. وهو ما طرح السؤال عن علاقة النهضة بهذه المراحل وبهذا الأفق.

اقرأ/ي أيضًا: أي معنى للقاء الإسلاميين والقوميين في حكومة الفخفاخ؟

العلاقة بالديمقراطيّة وشروط تأسيسها

قبل الثورة، تحسسنا في أكثر من مقال علاقة الحركة الإسلاميّة بالديمقراطيّة من جهة شروطها والقوى التي يمكن أن تكون حاملها السياسي. وكان للصدام المستمرّ مع الاستبداد أثر مهمّ في تمتين الصلة بمطلب الحريّة، وتجسير العلاقة مع القوى السياسيّة والاجتماعيّة والحقوقيّة المختلفة واللقاء على مطلب الحريّة ومناهضة الاستبداد. وكانت حركة 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2005 صورة من هذا التحول النوعي في حركة الحقوق والحريّات وفي الطبقة السياسيّة عمومًا.

ومع الوقت، تبلورت فكرة صارت أقرب إلى الأطروحة السياسيّة. وكانت الخطوة الأولى فيها هو ضبط حدود الإسلام السياسي وحركة النهضة أحد تعبيراته. رغم أنّ قيادييها لا يرتاحون إلى المصطلح ويعتبرون حركتهم قد خرجت منه باتجاه ما يسمّونه "الإسلام الديمقراطي". وهم في هذا لا ينتبهون إلى أنّهم من أهمّ شروط تأسيس الديمقراطيّة، ويكتفون بتأكيد مدنيّتهم وعلاقتهم بالديمقراطيّة. فالإسلام السياسي في تونس نواته حركة النهضة يحدّها يمينًا حزب التحرير ويسارًا تجربتي الإسلاميين التقدّميين واليسار الإسلامي (مناضلون وطنيّون ديمقراطيّون).

الإسلام السياسي في تونس نواته حركة النهضة

الارتباط بالديمقراطيّة وشروطها له علاقة بنشأة الإسلام السياسي في عشرينيّات القرن الماضي. وكان سؤاله سياسيًا بامتياز: كيف نبني الكيان السياسي للمسلمين بعد سقوط ما كان يجمعهم في 1924. وهو غير السؤال السلفي: كيف نستعيد الأصل؟ مع الوهابيّة والسنوسيّة، وهو أيضًا غير سؤال النهضة والإصلاح: لماذا تأخّرنا وتقدّم غيرنا؟

فنحن إزاء خطابات ثلاثة تتالت في الزمن: خطاب شريعي وخطاب نهضوي وخطاب سياسي. ولقد اعتبر روجي غارودي، في كتابه عن الأصوليّات، ظهور حركة الإخوان المسلمين "أوّل محاولة فذّة لعيش الحداثة إسلاميًّا". ولا يبعد عن هذا سؤال جون روبار باديال (Jean Robert Baduel) مدير مركز URBAMA (مركز الدراسات والبحوث حول التحضر في العالم العربي) التابع لـ NRSC حينما تساءل "لماذا لا نعتبر ظاهرة الإسلام السياسي (بالحدود التي ضبطناها) هو حداثة العرب المسلمين السياسيّة؟" وكان سؤاله مشدودًا إلى الأحداث التي عرفتها الجزائر عقب إيقاف المسار الانتخابي في 1991 والذي أدّى إلى فوز الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ بأغلب مقاعد البرلمان منذ الدور الأوّل.

العدالة والتنمية أعلى مراحل الإسلام السياسي

أقمنا وجهة النظر التي بنينا على مسار تطوّر الظاهرة. وكانت الخطوة الثانية بعد خطوة انتباهنا إلى علاقة الإسلام السياسي بمسيرة الديمقراطيّة اعتبارنا "العدالة والتنمية" أعلى مراحله. والعدالة والتنمية ليست عنوانًا لحزب سياسي بقدر ما هي مرحلة من التطوّر ترتبط بتأسيس الديمقراطيّة وهي الوظيفة الأساسيّة للظاهرة. ولاحظنا أنّ بلوغ المرحلة مرتبط بأمرين متزامنين مهمّين: الشروط الدنيا من الحياة السياسية والانتخابات النزيهة، وانقسام التيار على نفسه وخروج مكوّن بغاية إحداث التجاوز والعبور.

وهذا ما كان ملاحظًا في التجربة التركيّة. فقد مكّنت التحولات السياسيّة من توفير مجال معتبر من الحريّات السياسيّة، إلى جانب حدوث انشقاق داخل حزب العدالة والتنمية خرج فيه التلاميذ (غول، أردوغان، أغلو) على الأستاذ المؤسس نجم الدين أربكان الذي لم يتردّد في اتهام تلاميذه المنشقّين عنه بالخروج عن الإسلام والتأثّر بالعلمانيّة. وأمكن لتيّار التلاميذ أن يحقّق شرط تأسيس الديمقراطيّة، والتأثير في بنية في السلطة نفسها.

النظام السياسي الحديث ينبني على مكوّني الدولة والمجتمع وعلاقة القوّة بينهما، فهي بنية ثنائيّة حتّى في الحالات التي تختلّ فيها العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويعكس ميزان القوة بين الدولة والمجتمع طبيعة النظام السياسي.

وتعبّر الديمقراطيّة عن توازن بين المجتمع والدولة وعلاقة سياسيّة يضبطها القانون. أمّا في المجال العربي فإنّ بنية السلطة ثلاثيّة: الدولة/المجتمع وتوجد سلطة ثالثة فوقهما، ومن ثمّ فوق القانون هي الزعيم أو العائلة أو المؤسسة العسكريّة.

 استطاع تلاميذ أربكان من خلال الاستحقاقات الانتخابيّة أن يكسروا بنية النظام الثلاثيّة وذلك بالتحييد التدريجي لمؤسسة الجيش التي كانت تمثّل سلطة فوق الدولة والمجتمع

في تركيا، استطاع تلاميذ أربكان من خلال الاستحقاقات الانتخابيّة أن يكسروا بنية النظام الثلاثيّة وذلك بالتحييد التدريجي لمؤسسة الجيش التي كانت تمثّل سلطة فوق الدولة والمجتمع عمدت إلى الانقلاب في مراحل مختلفة على انتخابات حملت اليسار والإسلاميين إلى الحكم. فيكون المعنى المباشر لتأسيس الديمقراطيّة هو إلغاء بنية النظام السياسي الثلاثيّة وإحلال بنية ثنائيّة (دولة/مجتمع) تمكّن الاختيار الشعبي الحر ومن احترام نتائجه السياسيّة.

اقرأ/ي أيضًا: جدل "التمثيل" و"الإجماع" في التجربة الديمقراطيّة التونسية

وفي محاولة الانقلاب الفاشل في صائفة 2016، كانت القوى العلمانيّة والقوميّة في مقدّمة المتصدّين للمحاولة، ليس تعاطفًا مع أردوغان وحزبه الحاكم، وإنّما دفاعًا عن الديمقراطيّة، ومنع عودة البنية الثلاثية للسلطة (دولة/مجتمع/جيش) وهي البنية السلطوية التي لا تسمع بأكثر من ديمقراطيّة مشروطة بهيمنة العسكر باسم حماية العلمانيّة وإرث الكماليّة.

وكان لأسباب أخرى دور مهم في تأسيس الديمقراطيّة، منها عضويّة تركيا في حلف النيتو ومطلبها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبّي وشرط الديمقراطيّة. وهي من العوامل التي أضعفت قبضة الجيش ويسّرت ردّه إلى حدود الدولة الديمقراطيّة.

فإذا كانت الكماليّة قد أسست الدولة الوطنيّة فإنّ الأردوغانيّة أكسبتها الصفة الديمقراطيّة. ويبدو أنّ تأسيس الديمقراطيّة وترسيخها إذن بمرحلة أخرى من التداول على السلطة، وهذا واضح في تراجع حزب أردوغان، وفيما يعرفه من انشقاقات ومن تهم لأردوغان نفسه بوسواس إمبراطوري عثماني، وأنّ مآل كلّ قوّة وظاهرة، بعد أن تنهض بمهمّتها التاريخيّة، الضعف والانزواء ليحلّ محلّها الجديد لأجل مهامّ جديدة، تلك سنّة السياسة والتاريخ.       

انقسام النهضة ضرورة ديمقراطيّة

في تونس، لم يكن لحركة النهضة ولا للقوى السياسيّة وحركة الديمقراطيّة والحقوق فضل كسر البنية الثلاثيّة للسلطة القائمة، رغم التضحيات الكبيرة وما نالها من قمع وتنكيل على مدى عقود. الفضل في كسر بنية الاستبداد كان للثورة وللانتفاض المواطني في الهامش، وهو الذي مكّن من الاختيار الشعبي الحر لأوّل مرّة في تاريخ تونس في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، ومعه انطلق مسار تأسيس الديمقراطيّة. وممّا يلاحظ أنّه في أقطار الربيع التي عرفت انتخابات حرّة كانت الصدارة فيها للإسلام السياسي.

من ناحية أخرى، يلاحظ حضور النهضة في الحكم منذ 2011 وهي الجهة السياسيّة التي لم تغب عنه في مرحلتي التأسيس والانتقال الديمقراطي، فتوتّرت بين الدفاع عن استحقاقات الثورة والتوافق مع القديم.

وفي الأثناء، عرفت الحركة انشقاقات مهمّة منها ما تمّ في صمت مثل خروج حمّادي الجبالي رئيس حكومة الترويكا الأولى، ومنها ما حاول الانتظام في تجربة حزبيّة جديدة حملت اسم البناء الوطني قادها رياض الشعيبي ولكنها لم تحدث توازنًا ولم تخلق حالة سياسيّة مجاوزة.

تمثّلت عوائق النهضة البنيويّة في العجز عن بلوغ مرحلة العدالة والتنمية

وفي محيط الحركة، برزت تجربة حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة بقيادة المنصف المرزوقي، وهو الحزب الذي تحصّل على المرتبة الثانية في الانتخابات التأسيسية، وكان مشروعًا لحزب علماني حداثي متمفصل مع الهويّة. وبدا، أمام العوائق البنيويّة التي تعرفها النهضة، مرشّحًا لأن يبلغ مرحلة "العدالة والتنمية" قبل غيره، فنكون أمام حزبين محافظ وعلماني تستقرّ عندهما الديمقراطيّة الجديدة.

تمثّلت عوائق النهضة البنيويّة في العجز عن بلوغ مرحلة العدالة والتنمية، وأهمّ هذه العوائق هو أنّ تلاميذ المؤسس راشد الغنوشي كانوا على يمينه. ولم يتمكنوا من بلورة تصوّر مجاوز وبقوا في حدود نقد خط المؤسس، فصار أربكان النهضة هو أردوغانها.

وانعكس هذا العائق البنيوي على المحيط الحزبي فلم تر حركة النهضة في حزب المؤتمر أكثر من مساعد لها في محيط سياسي يناصبها العداء ويفضّل جرّها إلى حلبة الصراع الهووي والنمط المجتمعي، إلى جانب أسباب داخليّة خاصّة بحزب المؤتمر وتجربته في السلطة وملابسات عديدة منعت تطوّره وانتهت به إلى شتات لا يكاد يجتمع.

يبدو انقسام النهضة ضرورة ديمقراطيّة، بل هو مؤشّر على أن الديمقراطيّة تقترب من تأسسها واستقرارها.

يمثّل انقسام النهضة مصيرًا مرتبطًا بمستقبل الديمقراطيّة

وقد يكون خروج القيادي عبد الحميد الجلاصي أحد هذه المؤشرات، فهي للأسباب التي ذكرنا تحمل في داخلها نواة حزبين محافظ وعلماني لم يجد الطريق إلى التعبير عن نفسيهما في المشهد السياسي. ما تعرفه الحركة من تململ عبّر عنه داخليًّا مفهوم التخصّص في المؤتمر العاشر، وما يعنيه من أنّه لم يعد للحركة "عرض دينيّ" تقدّمه، وعبّر عنه خارجيًّا وجود نواة لحزب علماني ديمقراطي (حزب التيار الديمقراطي)، ولم يشوّش عليه إلا استعجاله النتائج وارتجاله المواقف والتحالفات في مطبّات هووية وسجالات سياسيّة هو في غنى عنها مرحليًّا.

يمثّل انقسام النهضة من وجهة نظرنا مصيرًا مرتبطًا بمستقبل الديمقراطيّة. ولعلّه، أمام المشهد الحزبي، يمثّل ضرورة ديمقراطيّة بإقامة التوازن السياسي المطلوب، وإنّ لحظة بلوغ الإسلام السياسي المرحلة التي ذكرنا هو نفسه لحظة اضمحلاله ودخوله في هويّة سياسيّة جديدة هي جزء من البناء الديمقراطي والنسيج الوطني. وعلى العكس من هذا، يمثّل استمراره بخصائصه الحاليّة أنّ الديمقراطيّة لم تتأسس بعد.

مقارنتنا السريعة بين التجربتين التركيّة والتونسيّة، رغم ما بينهما من اختلاف، غايتها الوقوف على كليّات "الإسلام السياسي" والمحطّات التي سيحطّ عندها باعتباره تجربة سياسيّة لها بداية ولها نهاية ولا بدّ أن يكون لها من وظيفة رأيناها في تأسيس الديمقراطيّة والحداثة السياسيّة بشروط أهليّة. فالتشابه بين القوى التي أسست الدولة الوطنيّة (أتاتورك، بورقيبة) والقوى التي أسّست وتتجه إلى تأسيس الديمقراطيّة يغريان بالحفر في التجربتين عميقًا.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

السلطة والثورة والمكان.. قراءة في توزّع السلطة بعد الثورة

في الصراع والتدافع أو جدل التأسيس والانتقال الديمقراطي