04-يونيو-2020

تبدو هذه التطورات خطيرة على ديمقراطية البلاد الناشئة (Getty/ ألترا تونس)

 

بعد جلسة برلمانية طويلة ومشحونة، سقطت لائحة الحزب الدستوري الحر، التي كانت تحت مسمى "رفض البرلمان للتدخل الخارجي في ليبيا" بعد تصويت 94 نائبًا لفائدتها، دون نصاب الأغلبية المطلقة (109 نائبًا) ومع رفض 68 نائبًا واحتفاظ 7 آخرين. بدا الأمر سريعًا أشبه بالنصر لكتل النهضة وائتلاف الكرامة خاصة لكن هل تكشف نتيجة التصويت فعلاً عن هكذا نصر؟

ظاهريًا قد يبعث إسقاط لائحة الدستوري الحر بعض الغبطة عند الكتل المذكورة، سعادة عابرة لا تبحث في خواتمها ونتائجها في اللحظات الأولى بل يكفيك أنها تعني هزيمة خصم ما، لكن قليلاً من التفكير يزيح الغشاوة سريعًا.

ما الذي يعنيه تصويت 94 نائبًا مع مقترح للحزب الدستوري الحر، الحزب الذي كان إلى حدود أسابيع قليلة معزولاً تقريبًا في المشهد السياسي التونسي، وتؤكد كل الكتل البرلمانية على المسافة بينها وبينه؟ 

ما الذي يعنيه تصويت 94 نائبًا مع مقترح للحزب الدستوري الحر، الحزب الذي كان إلى حدود أسابيع قليلة معزولاً تقريبًا في المشهد السياسي التونسي، يقدم خطابًا عنيفًا إقصائياً وغير ديمقراطي، وفق تقديرات الكثيرين، وتؤكد كل الكتل البرلمانية على المسافة بينها وبينه؟

بعيدًا عن محتوى اللائحة، التي لم يكن لها أي تأثير أو وزن مطلقًا فالتدخل الخارجي في ليبيا أمر واضح للجميع وتواصله من عدمه لم يكن ولن يكون يومًا بيد لائحة يُصوّت عليها نواب البرلمان التونسي. أرادت عبير موسي، رئيس الحزب الدستوري الحر، من خلال هذه اللائحة إحراج الغنوشي بعد اتصاله الأخير برئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج لتهنئته بعد الظفر بقاعدة الوطية، استعانت بجزء من الإعلام الإماراتي السعودي خاصة، للترويج لإشاعات تتعلق بـ"مساءلة الغنوشي وإقالته وإدانته" وغير ذلك مما راج لأسبوع على قنوات كالعربية وسكاي نيوز عربية والغد.

كانت موسي تعلم أن تمرير اللائحة إن حصل فلا يعني شيئاً على أرض الواقع كما كانت تعلم حركة النهضة أيضًا أن إسقاط ذات اللائحة ليس إلا بهرجًا سيُستغل من أنصارها لتصوير أن للحزب تحالفات عتيدة وهو قادر على التجنب والتصدي لسيناريوهات من يصطادون في الماء العكر.

اقرأ/ي أيضًا: الائتلاف الحاكم في تونس… تصدع ومحاولات ترميم

لكن النتيجة التي أتت بما بدا فشلاً لموسي وحلفائها في الداخل والخارج وانتصارًا للنهضة كشفت ما هو أهم. كشفت نتيجة التصويت تصدعًا واضحًا في الائتلاف الحكومي. فالحزب الذي كان يوصف بسليل التجمع الدستوري وكان منبوذًا من الجميع صار قادرًا على صناعة تحالفات (وليس أي تحالف/ توافق). هو تحالف يقسم الائتلاف الحكومي مباشرة. هذا الائتلاف الذي لم يكن يومًا منذ تكوينه متجانسًا ولا أبدت مكوناته وحدة وتعاونًا، لكن راهن الكثيرون أن  يشتد عوده خاصة في ظل "أزمة كورونا" وانعكاساتها الخطيرة على تونس اقتصاديًا واجتماعياً.

تظهر الحكومة بعد جلسة 3 جوان بعيدة كل البعد عن التجانس إذ صوتت مكوناتها بتباين واضح على لائحة الدستوري الحر: النهضة ضد، التيار امتنع عن التصويت، الشعب صوت لدعم اللائحة ونفس الشيء بالنسبة لتحيا تونس

تظهر الحكومة بعد جلسة 3 جوان/يونيو الجاري بعيدة كل البعد عن التجانس، وهي أسوأ السيناريوهات لرئيسها إلياس الفخفاخ الذي يجد نفسه تدريجيًا مكبّلاً بمكونات للائتلاف الحكومي متصارعة وتفتقد الثقة في بعضها البعض (المكونات الكبرى للحكومة صوتت على اللائحة بتباين كبير: النهضة ضد، التيار امتنع عن التصويت، حركة الشعب صوتت لدعم اللائحة ونفس الشيء بالنسبة لتحيا تونس)، دون نسيان رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الذي من الجلي وفق كل خطاباته الأخيرة، أنه يعمل في تنافر شبه كامل مع المنظومة الحزبية بالبلد وعلى رأسها حركة النهضة، الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

وبالعودة للخلف، لا يمكن نكران دور القانون الانتخابي الذي كان أساس ما أفرزته انتخابات 2019 التشريعية من تشرذم وتشتت فكان فوز النهضة بـ53 نائبًا فقط حينها كأكبر الكتل البرلمانية أقرب للخيبة، فهو الفوز الذي لم يمكنها من تشكيل الحكومة بعد فشل حكومة الحبيب الجملي المدعومة من النهضة في نيل ثقة البرلمان، وهو الفوز الذي لا يمنحها حتى الثلث المعطّل في المجلس النيابي ولا يمكنها بالتالي من تمرير أبسط القوانين دون تحالفات وتنازلات وحسابات، ومن هناك انطلقت متاعب الحركة الإسلامية التي لم تشهدها سابقًا خاصة منذ الثورة التونسية في 2011. 

وإن تُجمع تقريبًا مختلف الكتل البرلمانية على ضرورة تعديل القانون الانتخابي إلا أن جميعها مختلف أيضًا في تحديد ما يجب تعديله وكل طرف يدفع نحو ما قد يبدو له في الملابسات الحالية مفيدًا انتخابيًا، وهوما يُعقد فرضية الاتفاق على عتبة انتخابية معينة أو غير ذلك من التعديلات.

حققت كتلة الحزب الدستوري الحر بعض الأهداف الأخرى، غير هز صورة الائتلاف الحاكم بشكل جلي، فبعد محاولاتها تشويه صورة البرلمان وترذيله، تقدم اليوم عبر تصويت 94 نائبًا لصالح لائحتها تحذيرًا أن بإمكانها تحصيل الثلث المعطل بسهولة (73 نائبًا) وأن لها بذلك امكانية تقديم لائحة لسحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي (تتطلب إمضاء 73 نائبًا وإن كان من غير المرجح النجاح في تمريرها أيضًا عند التصويت، لأن ذلك يتطلب تصويت الأغلبية أي 109 صوتًا  من جديد وهو ما لا يبدو متاحًا لموسي حاليًا)، لكن لا يمكن نفي أن "تحالف اليوم"، الذي تجسد في التصويت للائحة "الحر" قد يكون ظرفيًا ويخضع لمصالح وحسابات عدة قد تتقاطع حينًا وتتعارض أحيانًا أخرى وبالتالي متانته أيضًا مشكوك فيها على شاكلة اتفاقات الائتلاف الحاكم منذ انطلاق عمله. 

تبدو هذه التطورات خطيرة على ديمقراطية البلاد الناشئة خاصة في ظل غياب تحالف في الحكم يقوم على الثقة ويكون صدًا متينًا أمام أي تدخلات أجنبية تمس من المسار الديمقراطي وتوجهه نحو الفوضى

بدت واضحة إذًا محاولات موسي لعزل النهضة، وهاهي عبر التصويت على لائحتها الأخيرة تُحدث شروخًا حادة داخل الائتلاف الحاكم. وربما تعبر حركة الشعب (حزب قومي في الحكم حاليًا) عبر تصويتها الأخير عن هذا التصدع بعد دعمها للائحة الدستوري الحر، في ظل تواصل سيطرة الخلاف الأيديولوجي بين هذا الحزب وبين النهضة (القوميين ضد الإسلاميين وسرديات كل طرف وتحالفاته الخارجية).  

تبدو هذه التطورات خطيرة على ديمقراطية البلاد الناشئة خاصة في ظل غياب تحالف في الحكم يقوم على الثقة ويكون صدًا متينًا أمام أي تدخلات أجنبية تمس من المسار الديمقراطي وتوجهه نحو الفوضى ويكون متماسكًا بالقدر الذي يسمح له بفتح ملفات المشاغل الداخلية الحادة والتي بدورها توحي بانفجار اجتماعي. 



اقرأ/ي أيضًا:

ماذا وراء الدعوات لحل البرلمان وإسقاط الحكومة في تونس؟

تونس وضرورات سياسة اجتماعية من "خارج الصندوق"