28-يونيو-2020

ركز القادمون الجدد في الائتلاف الحكومي على موضوع الفساد باعتباره عدوهم الأول

 

مقال رأي 

 

بمجرّد إلغاء الحجر الصحي العام في تونس والتدرّج في عودة الحياة إلى نسقها المعتاد، بدا أن فصلاً سياسيًا ساخنًا ينتظر التونسيين. بدأ ذلك مع دعوات لحل مجلس النواب الشعب اضمحلّت بمفعول الزمن وبمفعول سنن تاريخ الانتفاضات في تونس: ليس فصل الصيف زمنًا مناسبًا لمن تتوق نفسه لقلب موازين السياسة رأسًا على عقب أو تحريك مياه الغضب.

وفي اللّحظة التي أعلنت فيه الحكومة التونسية عن انتصارها الحذر على جائحة أعجزت القوى الكبرى الدولية والإقليميّة، بدأت الساحة السياسيّة والإعلاميّة التونسيّة في متابعة أو تتبّع سلسلة من المعطيات والتأويلات والأخبار حول النزاهة الماليّة لرئيس الحكومة وتعاقد شركة يملك فيها أسهمًا مع الدولة في مجال إدارة النفايات. وعلى إثر ذلك بدا أنّ أخبارًا أخرى تلاحق وزير السياحة ومؤسّس إحدى وكالات الأسفار بخصوص تعاقد مستجدّ مع السفارة الليبية في تونس يتعلّق بقدوم الليبيّين إلى تونس في سياق الجائحة.

في تونس، ليس فصل الصيف زمنًا مناسبًا لمن تتوق نفسه لقلب موازين السياسة رأسًا على عقب أو تحريك مياه الغضب

وبمعزل عن التفاصيل القانونيّة والإجرائيّة للمساندين والمناوئين، فإنّ هاتين الحادثتين وما يبدو أنّه نسق متواصل يشكّك عن حقّ أو باطل فيما يُطلق عليه حزب التيار الديمقراطي المشارك في الائتلاف الحكومي "الدولة القويّة والعادلة"، أي الدّولة النّموذج من حيث الصّرامة في النّزاهة الماليّة والالتزام بمعايير الشفافيّة. وممّا زاد من حدّة الانتقادات هو تركيز القادمين الجدد في هذا الائتلاف الحكومي على موضوع الفساد باعتباره العدوّ الأوّل، باعتباره أيضًا الميزة الأولى للائتلاف البديل مع حزب قلب تونس ودعوات حركة النّهضة للتّوسعة.

اقرأ/ي أيضًا: "إلياس الفخفاخ أمام شبهة تضارب مصالح".. القصة الكاملة

على أنّ هذا التّشكيك وبمعزل عن صحّة أو جدّية كلّه أو بعضه، فهو نتيجة لثغرات وهنات هي التي تستحقّ الإصلاح بمعزل عن الاختلاف حول التّشكيك في حدّ ذاته. أوّل هذه الهنات يكمن في التركيز على الجانب المعياري في الحكم والتأويل. ذلك أنّ التركيز على الفساد كسلوك لا كشروط موضوعيّة يؤدي إلى سلاح بحدّين يعود على أصحابه سريعًا. ونعني بالحكم المعياريّ تلك السرديّة التي فحواها أنّ سبب الفساد هو أنّ القائمين على الحكم تحملهم نوايا خبيثة أو عدم رغبة في تطبيق القانون القائم والمتاح.

ما زاد من حدّة الانتقادات هو تركيز القادمين الجدد في هذا الائتلاف الحكومي على موضوع الفساد باعتباره العدو الأول وباعتباره أيضًا الميزة الأولى للائتلاف البديل

وعلى سبيل المثال، كثيرًا ما يشير وزير الوظيفة العموميّة ومكافحة الفساد محمد عبو إلى جهوده في مكافحة الفساد وأنّ ما يُعلن عنه من هاته الجهود ليس إلاّ "بعض ما يمكن إعلانه للإعلام". لكن ماهي معايير التطرق إلى ملفّ في الإعلام أو غضّ النّظر عنه؟. وعلى نفس النّحو اقتصر ردّه بخصوص موضوع رئيس الحكومة بتكليف "لجنة للتحقيق ستبتّ في التقرير النّهائي بعد ثلاثة أسابيع"، في حين ما كان مطلوبًا من المسؤول السياسي الأوّل أن يتحمّل المسؤولية ويعبّر عن رؤيته السياسية لمعنى المصالح وتضاربه، ومتى تكون فسادًا أو على الأقلّ مسًا بالنّزاهة ومتى لا تكون كذلك؟ على الأقلّ على غرار ما عبّر عنه رئيس الحكومة نفسه أمام البرلمان. أما رمي المسؤوليّة على كاهل الإداريّين فهو تهرّب غير مقصود إن حسُنت النيّة، وجدير بمحمد عبو من حيث تاريخه أن تُحسن فيه النيّة.

وإذًا هذه المنهجيّة في الحرب المأمولة على الفساد، ونعني منهجيّة الاعتماد على قيمة الأشخاص الاعتباريّة وافتراض حسن النية لدى البعض وسوئها لدى البعض الآخر فضلاً عن افتراض أنّ معايير الفساد والنزاهة وتضارب المصالح في السياق التونسي هي محض معايير تقنية لا تحتاج لرؤية سياسية مخصوصة تتأقلم مع السياق.

وما نعنيه بالسّياق، وهو ما سنفصّله في الجزء الثاني من هذا المقال، هي التجربة التونسيّة الجديدة لا في الديمقراطيّة فحسب ولكن في نشأة النخب السياسية القادمة من مشارب مهنيّة مختلفة.

ما وقع بعد الثورة في تونس، هو دخول مسارات شخصيّة أخرى من خارج دائرة كبار الموظفين المدنيين والعسكريّين والمحامين إلى عالم السياسة

وإلى حدّ كبير فإنّ ما وقع بعد الثورة في تونس، هو دخول مسارات شخصيّة أخرى من خارج دائرة كبار الموظفين المدنيين والعسكريّين والمحامين إلى عالم السياسة. وهذه ديناميكيّة ليست هيّنة من زاوية ما تطرحه من أسئلة بخصوص احتراف السياسة ومسائل تضارب المصالح وكثير منها كان قائمًا ولم يُسلّط عليه الضوء: ماذا عن المسيرة المهنية للمغفور له المحامي الباجي قائد السبسي؟ وماذا عن مؤسس البنك العربي الدولي منصور معلّى ووزير المالية والتخطيط والصناعة والتجارة في أكثر من مناسبة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؟

تحتاج بؤرة الغموض هذه والمتعلّقة بمهنة الشخص ومساره من جهة، واحترافه للسياسة من جهة ثانية إلى طرح أسئلة أكثر دقّة وشجاعة في ديمقراطية ناشئة كالديمقراطية التونسية. (يتبع)

 

اقرأ/ي أيضًا:

سقوط لائحة الدستوري الحر.. عن الانتصارات التي تشبه الهزائم

الدبلوماسية التونسية على ضوء تحولات المشهد الليبي نحو الحل السياسي