17-فبراير-2022

قد يحيل مصطلح "النخبة" إلى عدة مفاهيم فهو مطّاط إلى درجة تضاهي حدود ما يشمله مصطلح "الشعب" (الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

مقال رأي

 

"الكلمات ليست بريئة. فهي تترجم إيديولوجيات، تحمل الذهنية والحالة الفكرية لقائليها. التغاضي عن كلمة، يعني السماح بها. وما بين السماح والتواطؤ، خطوة"، هكذا كتبت الحقوقية النسوية "جيزيل حليمي" في إحدى مرافعاتها الشهيرة.

في كل المحطات الكبرى التي تمر بها المجتمعات، من الطبيعي أن ينقسم الأفراد بين مؤيد ومساند، وفق ما تقتضيه المصالح والتقاطعات، أو ببساطة وفق الوجدان والعاطفة. إلا أنه في مثل هذه الحالات، يقع على عاتق النخب وحدها، ودون سواها، مسؤولية تحديد البوصلة لمجتمعها، بما توفر لديها من تراكمات معرفية وأكاديمية، وفق ما يحتمه ضميرها من منطلق انخراط اجتماعي. 

قد يحيل مصطلح النخب، أو النخبة، إلى عدة معانٍ ومفاهيم، لكنه قطعًا لا يمكن اختزاله فيما يسمى بـ"خبراء"، أو المهنيين والمستشارين الذين اكتظ بهم العالم اليوم، فالمصطلح مطّاط إلى درجة تضاهي حدود ما يشمله مصطلح "الشعب". 

اقرأ/ي أيضًا: الاتصال والسياسة في تونس بعد 25 جويلية: من هم التونسيون ومن يمثّلهم؟

سنكتفي في حدود هذا المقال، بالتعريف التالي: "يسمى نخبة كل من توفر له نصيب من رأسمال رمزي، يسمح له بهامش من الاستقلالية عن الدولة والمجتمع". يمكن عبر هذا التعريف تفريع مصطلح النخب إلى عدة فروع، وفق اللون المهيمن على رأسمالها الرمزي: نخب اقتصادية، نخب علمية، نخب اجتماعية... التي بدورها يمكن تشعيبها حسب الأصل في تراكم رأسمالها: نخب أكاديمية، السياسية، صناعية/تجارية، النقابية ومحترفي المجتمع المدني... باستثناء النخب الاقتصادية التي قد يتوفر لها بمساندتها للسلطة، حماية قد تؤدي لازدهار أعمالها، فإن هيمنة السلطة على النخب ذات الطابع المعنوي قد تؤدي إلى اضمحلالها.

قد يحيل مصطلح النخبة إلى عدة مفاهيم لكنه قطعًا لا يمكن اختزاله فيما يسمى بـ"خبراء"، أو المستشارين الذين اكتظ بهم العالم اليوم، فالمصطلح مطّاط إلى درجة تضاهي حدود ما يشمله مصطلح "الشعب"

للتدليل، نسوق ما جاء في كتاب "مجتمع الثورة وما بعد الثورة"، للباحث في علم الاجتماع المولدي القسومي، منتقدًا حال الجامعة التونسية أيام الاستبداد النوفمبري: "ويكفي أن نشير إلى أن النظام القديم اخترق الجامعة التونسية (التي تضم أهم كتلة ديموغرافية في مستوى الشريحة العليا للطبقة الوسطى) وفكك المجموعة العلمية ونجح في تدجينها بالآليات نفسها التي أتينا على ذكرها، معولًا في ذلك على ضعاف النفوس كثيري الطموح سريعي التكسب المتطلّعين إلى الوصول دون جدارة والمتعطّشين إلى السلطة. فقد استمال إليه حشدًا مهمًا من الجامعيين غبر استقطابهم في الشعب المهنية للتعليم العالي التي بلغ عددها 44 شعبة معنية سنة 2008 بينما كانت في حدود 10 شعب مهنية سنة 1999.

وحينذاك كان 4185 من الجامعيين المنخرطين في التجمع الدستوري الديموقراطي يدافعون عن الوضع البائس للجامعة التونسية ويزورون مضامين تقييمه ويقدمونه على أنه النموذج الأرقى على المستوى الإقليمي ولا يعترضون على مخرجاته الرديئة. ويرضون بوضعهم الأكاديمي البائس ماديًا ومعنويًا تلميعًا لصورة النظام استرضاءً له وطمعًا في مكافأة أو مما يوزّعه من العطاءات في شكل مسؤولية إدارية أو خطة وظيفية توفّر بعض الامتيازات.

حينئذ نجدهم يطلبون خبزًا تذللًا على باب السلطان، ولا يطلبونه بأنفة المدافعين عن حقوقهم المادية والمعنوية، فنجدهم يكسّرون الإضرابات المطلبية التي يقودها زملاؤهم النقابيون ويعطّلونها ويُفشلونها باعتبارهم يتفوقون عددًا وعدة" (دار محمد علي. الطبعة الثانية. تونس 2020. ص 130).

اقرأ/ي أيضًا: أحداث 8 ماي 1991.. حينما وُجه الرصاص صوب الطلبة

بديهيًا، ومن منطلق ما عايشته هذه النخب تحت نظام بن علي وما تحقق لها بعد ثورة 17-14 من حريات في الحد الأدنى وامتيازات ومكاسب في الحد الأقصى، نفترض أنَّ لا لعاقل أن يقبل بالنكوص عما تحقق، فضلًا عن السعي للمراكمة عليه وتعزيزه وتصويب ما اختل منه، إلا أن الاستثناء التونسي أبى ألا يُستثنى. 

من منطلق ما عايشته النخب تحت نظام بن علي وما تحقق لها بعد ثورة 17-14 من حريات في الحد الأدنى وامتيازات ومكاسب في الحد الأقصى، نفترض أنَّ لا لعاقل أن يقبل بالنكوص عما تحقق

 من بين الشعارات التي رفعت واستماتت النخب، التي تسمى حداثية، في الدفاع عنها في الفسحة الثورية بين 2011 و2014، شعارات مدنية الدولة وحيادها وحماية مفاصلها من الاختراق والتغلغل. إلّا أنها على ما يبدو لم تتجاوز "المطّة" الأولى في التمهيد النظري للدولة الحديثة.

إذ حصرت هذه النخب معركتها، أو ربما فضلت مواصلة معاركها الطلابية أيام الجامعة في السبعينات، ضد غريمها الإيديولوجي المحافظ، ولم تبارح مكانها، إلى أن تطورت حالة الهستيريا فتقاطعت أهواؤها مع يميني أشد محافظة، يتموقع سياسيًا على أقصى اليمين، باعتبار مواقفه من مسألة المساواة في الميراث، المثلية الجنسية، ومدنية الدولة ذاتها التي ينفيها، إذ لا يقر بأن على الدولة أن تكون بالضرورة مدنية.



كذلك لم يرَ "المساندون النقديون" ضررًا من جمع السلط بيد فرد واحد، إغلاق مؤسسة من المؤسسات الدستورية بالدبابات والمس من الحريات العامة للأفراد، بل ذهب أكثرهم إلى التبرير والتنظير لواقعة 25 جويلية/يوليو 2021، الانقلاب، عبر ليّ وتطويع تجارب مقارنة في الاستثناء، الفرنسية في حلة الجمهورية الخامسة بالأساس، غاضين الطرف عن الإجراءات الشكلية الجوهرية التي صاحبتها، كتصويت البرلمان على تفويض الاستثناء وتسقيفه في مدة زمنية محددة، والتصديق على ما ترتب عنها بالتصويت، والتسويات والتوافقات التي تخللت تلك الفترة. 

لم يرَ "المساندون النقديون" ضررًا من جمع السلط بيد فرد واحد، إغلاق مؤسسة دستورية بالدبابات والمس من الحريات العامة للأفراد، بل ذهب أكثرهم إلى التبرير والتنظير لواقعة 25 جويلية

تعيش تونس منذ سنوات، موجات شعبوية متصاعدة، كان منطلقها هستيريا الثورة ضد الأزلام، الإسلام في خطر، استرجاع هيبة الدولة تحت غطاء البورقيبية المعطوبة، ثم فترة هدوء ما قبل العاصفة عقب انتخابات 2014 بعد صدمة التوافق التي عاشتها معظم النخب المحسوبة على الحداثة. لينقشع غبار العبث المتواصل بين 2011 و2015 عن حالة اقتصادية واجتماعية ضنكة أدت إلى انسدال ستار "المشاعر الحزينة"، شكلت محفزًا لتصاعد تسونامي الخطاب الشعبوي، بطعم الثورة المضادة، وتحميل الديمقراطية والثورة وكل ما ترتب عنها، مسؤولية التدهور الذي نعيش، وتواصل ذلك إلى أن تكثف مؤخرًا في المنطوق السياسي لقيس سعيّد.

اقرأ/ي أيضًا: عن طوفان الشعبوية في تونس..

في هذا السياق كتب الصحفي المصري بجريدة الأهرام والمهتم بالشأن التونسي كارم يحيى، في مقال له بمنصة نواة بتاريخ 12 جانفي/يناير 2022،  ما يلي: "لعل من مفارقات تقلبات الثورة والثورة المضادة ـكما تقدمها الحالة التونسيةـ أن قيس سعيّد يبدو وكأنه أصبح اليوم متناغماً من خلال خطابه الشعبوي مع تيار من الثورة المضادة لا يتورع أن يطلق على ما بعد ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي اسم 'العشرية السوداء' ويصف دستور 2014 بأنه الأسوأ في تاريخ تونس والعالم، بل يصف الثورة ذاتها بأنها 'مزعومة'...".

 شكلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الضنكة محفزًا لتصاعد تسونامي الخطاب الشعبوي، بطعم الثورة المضادة وتحميل الديمقراطية والثورة، مسؤولية التدهور، وتكثف ذلك في المنطوق السياسي لقيس سعيّد

من العبث إنكار أن الوضعية المعيشية للتونسيين تدهورت بشكل كبير بين 2011 و2021. ومن العبث كذلك التساؤل عن أسباب هذه التدهور والبحث عن مقارنات مع تجارب في بلدان أخرى، إذ أن السياق العالمي الذي سمح بالنجاح السريع لتجارب في البرتغال، إسبانيا، جنوب إفريقيا... لم يسمح بازدهار مماثل للديمقراطية التونسية.

إذ بدأت الرحلة عقب الأزمة المالية سنة 2008، وانتهت بالأزمة الاقتصادية التي سببتها جائحة كورونا 2020-2021، وما تخللها من هذه الفترة من اضطرابات اقتصادية وسياسية شهدتها المنطقة بشكل خاص، خصوصًا في الجارتين ليبيا والجزائر، اللتيْن تمثلان مجالًا اقتصاديًا حيويًا لتونس. وعوامل أخرى متعددة أهمها أنه لا يمكن بناء ديمقراطية بلا ديموقراطيين، ونقصد هنا السياسيين في المقام الأول، الذين ينشط السواد الأعظم منهم في أحزاب لا تعرف ديناميكية ديمقراطية داخلها، فضلًا عن تنظيم مؤتمراتها. ضف إلى ذلك حركات اجتماعية ذات طابع فوضوي انفعالي، أسهمت في تجزئة القضايا وإفراغها من مضمونها السياسي البنّاء واختزالها في التضاد المطلق واللانهائي.

عوامل أخرى عديدة تدركها النخب جيدًا كل من منظوره، أو على الأقل تعترف باستحالة البناء في ظلّها، لكن تذهب للمكابرة والانخراط في الهستيريا الجماعية، إما بدعوى الثقافة العضوية المشوهة حد التقاطع مع مصالح التيار المضاد للديمقراطية ما يضعها فيما يشبه الدور الوظيفي، أو بدعوى الاصطفاف مع الحشود، لتتحول إلى ما يشبه فرقة استعراضية تقدم العروض تحت طلب الجماهير.

وفي هذا المستوى، ليس المقصود هو نخب السلطة التي تنخرط ضمنيًا في مشاريعها وتوجهاتها تحت يافطة الرسمية وباعتراف متبادل بينهما، لكن هذه النخب اضطلعت بدور وظيفي تطوّعي في خدمة سلطة لا تعترف بها ولا تتقاسمها همومها.

نجد مكونات واسعة من المجتمع المدني بررت للانقلاب على الديمقراطية، وانخرطت في خطاب الترذيل الممنهج، بعد أن كانت أول المستفيدين من تدفق تمويلات المجتمع الدولي لأجل تدعيم الديمقراطية

بل أبعد من ذلك، نجد مكونات واسعة من المجتمع المدني بررت للانقلاب على الديمقراطية، وانخرطت في خطاب الترذيل الممنهج، بعد أن كانت أول المستفيدين من تدفق تمويلات المجتمع الدولي لأجل تدعيم الديمقراطية، فكانت أول من يخونها. أو أنها لم تتفطن إلى خطورة ما يجري وما يتهددها من فيضان شعبوي معادي للأجسام الوسيطة التي تمثلها.

اقرأ/ي أيضًا: "تصفية الأجسام الوسيطة".. عنوان المرحلة القادمة في تونس

هنا نرجع اللوم للراعين الأجانب الذين أطروا وحددوا مضامين الدورات التكوينية التي خضعت لها مكونات المجتمع المدني طيلة العقد الذهبي بين 2011 و2021، إذ فاتها أن تعرّف لها مفاهيم الانقلاب والانقلاب الذاتي، autogolpe، والأهم: أن تصحيح المسار لا يكون عبر غلق بوابات المؤسسات الدستورية بالحديد. 

أما عن دور النخب في هذه الحالات، فأراه كما قدمه إدوارد سعيد في كتابه "المثقف والسلطة": "وأبعد ما يتصور وجود مثقف يسعى إلى جعل جمهوره يشعر بالرضا والارتياح، فالمقصد الحقيقي هو إثارة الحرج، والمعارضة، والاستياء."(صفحة 45).

كانت أولى خطوات الهدم بعد التهليل، هي التغاضي عن اعتماد التوصيف القانوني لما جرى، والسعي إلى تبريره سياسيًا وسياسويًا، عبر البحث عن تطويعات أكاديمية مسطحة. في مرحلة ثانية، الاعتراف واعتماد توصيفات تتماشى ومزاج السلطة، كالتجميد، الحل، التطهير، غلق... ومن المؤسف، بطريقة مثيرة للسخرية، أن تطغى هذه المفردات على الحقل المعجمي للاستثناء الذي تأبد، حتى الآن.  

أسهمت النخب، التي تدور في فلك "المساندة النقدية" والتي لا نرى لها معنى، في تدعيم الخطاب الفاشي السائد تطوعًا ووظيفية، ما أدى إلى تشتت قوى المعارضة التي تعاني أصلًا شيخوخة سياسية

أسهمت هذه النخب، التي تدور في فلك "المساندة النقدية" والتي لا نرى لها معنى، في تدعيم الخطاب الفاشي السائد تطوعًا ووظيفية، ما أدى إلى تشتت قوى المعارضة التي تعاني أصلًا شيخوخة سياسية، وعزز قوة السلطة القائمة التي ليس لها من قوة سياسية غير احتكارها للملعب الشعبوي أين يملك أغلبية الجمهور، وأين يسعى كذلك أغلب الفاعلين لإيجاد تموقع سياسي يجذب الجماهير، في حين أن سلطة ستبقى دومًا تسبقهم بخطوة في ملعبها.

وبينما لا تفرز السلطة مسانديها على أساس لونهم الإيديولوجي بل على أساس درجات الولاء، تحرص هذه النخب على أن تضع خطوط تحول بيّن تجمعها كقوة معارضة، كـ"اللا-تماهي" وضرورة التمايز، وتغض الطرف عن الهدف الأسمى الذي يجمعها: استرجاع الديمقراطية، وكأنها بذلك تقدم الهدية التي تطلبها كل سلطة، الزمن، لتمارس الهواية المفضلة لكل سلطة: تأبيد الواقع. 

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن خيبات اليسار في تونس..

دور الأجسام غير المنتخبة في العملية السياسية في تونس(1): المؤسسات الحديدية