31-مارس-2024
الجنوب جزء من تونس

من زيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد، 16 مارس 2024 إلى الجنوب التونسي

مقال رأي 

 

شاع في الوعي العامي في تونس أنّ الانقسام الذي تعرفه البلاد أفقيّ: بين شمال مرفّه البلاد وجنوب مفقّر. ويتقاطع في هذا الانقسام الاجتماعي والسياسي. ومن الملاحظ أنّ هذه "القناعة" التي انحدرت من ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينيّاته وما عرفته فيها تجربة دولة الاستقلال من هزات سياسيّة (الصراع اليوسفي البورقيبي) واجتماعية (تجربة التعاضد وتداعياتها) اضمحلّت تدريجيًا مع الوقت ولم يبق منها إلاّ رواسب جنوب وشمال متخيَّلين صلتهما ضعيفة بالواقع المتحوّل، دون أن ينشأ الوعي المطلوب بحقيقة الانقسام الاجتماعي الذي تعيشه البلاد وطبيعته.

  • انقسام عمودي  

الانقسام الاجتماعي الذي تعرفه بلادنا ليس أفقيًّا (شمال/جنوب) مثلما توحي به جملة "الجنوب جزء من تونس" التي وردت في كلام الرئيس التونسي قيس سعيّد، في زيارته لإحدى ولايات الجنوب التونسي، وإنما هو في حقيقته انقسام عمودي (ساحل/داخل، حاضرة/هامش)، وعلى ذلك أدلة عديدة أقربها نتائج البكالوريا السنوية وما تكشف عنه من فروق كبيرة في نسب النجاح في هذا الامتحان الوطني بين مدن الساحل ومدن الداخل. وهي فروق مستقرة استقرار الانقسام ذاته.

الانقسام الاجتماعي الذي تعرفه بلادنا ليس أفقيًّا (شمال/جنوب) مثلما توحي به جملة "الجنوب جزء من تونس" التي وردت في كلام الرئيس قيس سعيّد، في زيارته لإحدى ولايات الجنوب التونسي

والمقصود بالساحل هو "الساحل الجغرافي" (من بنزرت إلى بنقردان) وليس "الساحل السياسي" (سوسة، المنستير، المهدية) الذي مثّل في مرحلة من تجربة الدولة قاعدة الحكم الصلبة وشرط استمرارها. وكان له حضور في الخطاب السياسي. حضور لا يخرج عن تبرير الفوارق الجهوية في سياسة الدولة، وحضور مرتبط بمضمون الاحتجاج والظلم الاجتماعي في خطاب المعارضة.

والانقسام ساحل/ داخل لم يمنع من أن يكون للهامش حضور في قلب المركز نفسه وفي عاصمته تحديدًا (قمرت/بوسلسلة بضاحية المرسى)، بل هو في قلب "الساحل السياسي" (ريف المهدية على سبيل الذكر). فالهامش في بلادنا ليس حيّزًا جهويًا أو جغرافيًا مستقلًاّ بقدر ما هو "مستوى معيشي" على صلة بتجربة دولة الاستقلال وسياساتها. ويأتي التفاوت الجهوي ضمن هذا التصوّر. وبعبارة موجزة: ليس كل جنوب هامشًا وليس كلّ هامش جنوبًا. وهو ما يعني أنّ الهامش درجة معيشية لفئات وجهات لم تتوفّر لها أسباب/سياسات الاندماج/الإدماج في النسيج الاقتصادي الاجتماعي. والظاهرة، في تقديرنا، عالمية تتخطّى حدود بلادنا. من ذلك حركة السترات الصفراء الاحتجاجيّة والانتفاض المواطني الذي خاضته في فرنسا. هي الهامش في قلب مدينة باريس المختلف عن الهامش الآخر التقليدي سليل الأقليات المهاجرة وأحيائها الصاخبة ومشاكل اندماجها في النسق/النموذج الفرنسي.

الهامش في تونس، ليس حيّزًا جهويًا أو جغرافيًا مستقلًاّ بقدر ما هو "مستوى معيشي" على صلة بتجربة دولة الاستقلال وسياساتها، ويأتي التفاوت الجهوي ضمن هذا التصوّر

والأهم هو أنّه لم يكن هناك انتباه في بلادنا إلى حقيقة الانقسام هذه عند كل من تمّ تفويضهم لقيادة مرحلتي التأسيس والانتقال الديمقراطي، بعد الثورة. وقبل الثورة لم تحظ علاقة الدولة بمجالها الاجتماعي والسياسي بالاهتمام المطلوب في السياسات وفي وحدات البحث بالجامعات ومراكز الدراسات. ومثل هذه الدراسات -لو تمّت- كانت ستنبّه على أنّ الدولة "الوطنية" ودولة الاستقلال لم تنجحا في تغطية كل مجالهما بسبب طبيعتهما المركزية، وبهذا المعنى فإنّ دولة الاستقلال "جهوية". وصار معها الانقسام مضاعفًا: انقسامًا اجتماعيًا (ساحل/داخل) وهوويًّا (حداثي/تقليدي). وقد عشنا في الأيّام الأولى للثورة النفخ في البُعد الهُووي رغم أنّ الثورة عبّرت عن رهان اجتماعي صرف.

  • رأب الانقسام

طال هذا الانقسام علاقة الدولة بالمجتمع حين لم تقدر على تغطيته تغطية ثقافية شاملة، فصنعت مجتمعها الخاص بها في الحواضر وسمّته "المجتمع المدني" وتركت المجتمع الأهلي للعراء.

الهامش درجة معيشية لفئات وجهات لم تتوفّر لها أسباب/سياسات الاندماج/الإدماج في النسيج الاقتصادي الاجتماعي

ومن مظاهر غياب الضبط والتدقيق ما كان يقال من أنّ الخلل في تجربة الانتقال الديمقراطي عائد إلى نجاح الانتقال السياسي وفشل الانتقال الاقتصادي والاستجابة للمطلب الاجتماعي. وهذا غير دقيق، فلو كان هناك نجاح في المجال السياسي لانعكست صورته على المجال الاقتصادي، ذلك أنّ الانتقال الاقتصادي الاجتماعي مشروط بالانتقال السياسي. ثمّ إنّه لم يكن هناك عمل ميدان سياسي على توحيد المجال السياسي. ولو حصل لكان من نتيجته توحيد المجال الاقتصادي بشقّيْه الرسمي والموازي. وتبيّن الحال في أبعادها المختلفة أنّه لم يحصل شيء من هذا. فالوعي بحقيقة الانقسام كان سطحيًا إن لم يكن منعدمًا.

كانت الغاية التي يجري إليها الانتفاض المواطني والثورة هي رأب الصدْع الهووي ببناء مشترك وطني، والصدع الاجتماعي بإرساء منوال تنموي يقطع مع الريع ومنظومته ويدفع إلى تنمية مستدامة وشاملة من رافدي الاقتصاد التضامني والحكم المحلي وأساسهما تحويل القيم والتقاليد الأهليّة إلى قيم تنموية.

ويتمثّل الوجه الآخر للغاية الأبعد التي تجري إليها الثورة في إعادة بناء الدولة لتغادر جهويتها/مركزيّتها وتتمكن من تغطية كل مجالها الثقافي الاجتماعي فتكتسب عن جدارة لأوّل مرّة في تاريخها صفة الوطنية. وهذا هو جوهر المشروع الوطني.

المشهد السياسي اليوم بانتقاله الديمقراطي وانقلابه، يدور داخل المجال السياسي الرسمي أي في نصف الميدان السياسي، رغم ما كانت تردده نخب الانتقال في الحكم والمعارضة من تمثيلها لكل البلاد وحرصها على وحدتها

لقد كانت مهمة التأسيس توحيد البلاد برأب الصدعيْن الاجتماعي والسياسي، ولكن إجهاض التأسيس والخروج منه إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي بواسطة الحوار الوطني كان خروجًا من واجب محاسبة القديم على قاعدة العدالة الانتقالية إلى واقع منافسته على قاعدة التوافق بشروط القديم نفسه. وكان خلاصة كل هذا انتخابات 2014 وفوز القديم فيها بالرئاسات الثلاث.

  • أسباب الاحتجاج الاجتماعي العميقة

ومثلما جعل الانقسام الاجتماعي للبلاد اقتصادين، اقتصادًا رسميًا (مأزومًا) واقتصادًا موازيًا (بلا ضوابط وغير ملتزم بحدود الدولة الوطنية وقوانينها الماليّة) جعل لها مجالين سياسيين: مجالًا سياسيًا رسميًا دارت فيه تجربة الانتقال الديمقراطي قبل الانقلاب عليها. ومجالًا سياسيًا موازيًا منه قاد الثوار الاحتجاج الاجتماعي والانتفاض المواطني في الهامش وكسروا به نظام الاستبداد في المركز، ثمّ اتجهوا إلى الحاضرة وسلموا الأمانة إلى النخبة السياسية التقليديّة في المجال السياسي الرسمي في القصبة، وعادوا من حيث أتوْا.

الانقسام الاجتماعي كان سببًا في الثورة وصار رأبه هدفها الاستراتيجي، لا يمكن أن يُفهم تعثّر الانتقال إلى الديمقراطيّة خارج الفشل المرحلي في تحقيق هذا الهدف

فالمشهد السياسي اليوم بانتقاله الديمقراطي وانقلابه، يدور داخل المجال السياسي الرسمي أي في نصف الميدان السياسي، رغم ما كانت تردده نخب الانتقال في الحكم والمعارضة من تمثيلها لكل البلاد وحرصها على وحدتها. ورغم ما يوهم به خطاب الانقلاب الشعبوي اليوم من ديسمبرية لم تفلح في إخفاء نوفمبريته.

وفي نصف الميدان الثاني (المجال السياسي الموازي) يغلب الهدوء على الاحتجاج منذ 25 جويلية/يوليو 2021، بعد أن كان الاحتجاج والانتفاض هو الغالب في مرحلة الانتقال الديمقراطي. وهو انتفاض يعود في جانب منه إلى أسباب تتعلّق بالصراع الحزبي وتجاذبات السياسة ورهاناتها غير أنّ السبب العميق كامن في الانقسام الاجتماعي نفسه وفي العجز عن رأبه. وبالانتباه إلى هذا السبب العميق يُفهم لماذا كان الهامش (المجال السياسي الموازي) ميدانًا لتوتر اجتماعي دوري توّج بطفرتين سياسيّتين: ثورة في 1864 وثورة الحرية والكرامة في 2011. ولذلك كثيرًا ما نردّد بأنّ الانقسام الاجتماعي كان سببًا في الثورة وصار رأبه هدفها الاستراتيجي، لا يمكن أن يُفهم تعثّر الانتقال إلى الديمقراطيّة خارج الفشل المرحلي في تحقيق هذا الهدف.

ومن هذه الزاوية أيضًا يُنظر إلى ما كان من إضرابات الاتحاد وهي إضرابات تمّت ضمن المجال السياسي الرسمي وموجّهة إلى استهداف الانتقال الديمقراطي. ولكن يجب ألاّ يحجب هذا أصالة الاحتجاجات الاجتماعية في المجال السياسي الموازي، فقد تواترت رغم اختلاف الحكومات المتعاقبة في عشرية الديمقراطيّة وما شهدته من تناوب القديم والجديد على الحكم.    

لا يمثّل الجنوب في العالم مكانًا ومجالًا واضح الحدود بقدر ما صار هويّة اجتماعيّة وثقافيّة ومضمونًا إيديولوجيًّا ومستوى معيشيًا يتخطّى التقسيم الجغرافي

وإذا كان تواتر الاحتجاج في الهامش وارتفاع منسوب المطلبيّة الاجتماعيّة مع نهاية السنة الأولى للثورة راجعًا إلى حقيقة الانقسام الاجتماعي فإنّ جلّ الإضرابات بقيادة النقابة كانت في معظمها راجعة إلى حقيقة الانقسام الهووي. وإذا كان الانقسام الاجتماعي سببًا في الثورة، كان الانقسام الهووي سببًا في تعطيل الانتقال إلى الديمقراطيّة (الفشل في بناء مشترك وطني يمثل القاعدة السياسيّة للديمقراطيّة)

وفي هذا السياق تنزّل جملة "الاتحاد خذل الثورة"، وضمنه يُتبيَّن موقف "المجتمع المدني" الذي يتجاوز خذلان الثورة إلى إرادة إجهاض انتقالها الديمقراطي.

  • "الجنوب الشامل"

يُقسّم العالم إلى جنوب وشمال، ومرادف الجنوب الدول المتخلّفة ودول العالم الثالث حينًا والدول النامية أو في طريق النمو من باب تلطيف الأمور حينًا آخر. وهو تقسيم غير بعيد عن التمييز الثقافي بين شرق وغرب. وصار معنى الفقر جزءًا من مدلول الكلمة ومعانيها الحافّة. حتّى أن أغلبنا يرتبك في مثال الكوريّتين فلا يكاد يتقبّل بأنّ كوريا الجنوبيّة هي بلد الرفاه الرأسمالي والتقدّم التكنولوجي وأنّ كوريا الشماليّة هي بلد الكفاف الاشتراكي وشيوعيّة الخصاصة.

"الجنوب الشامل" هو صيرورة واتجاه عام في التاريخ يتوسّط الصراع العالمي في عالم كلّه يمين.. وليس حيّزًا جغرافيًّا مثله مثل الهامش في المستوى الوطني

ومع ذلك لا يمثّل الجنوب في العالم مكانًا ومجالًا واضح الحدود بقدر ما صار هويّة اجتماعيّة وثقافيّة ومضمونًا إيديولوجيًّا ومستوى معيشيًا يتخطّى التقسيم الجغرافي. فتحوّل بذلك إلى مفهوم. ولا يمنع هذا من ملاحظة أنّ الغالب على دول الشمال الرفاه والتقدّم والغالب على دول الجنوب الضعف الاقتصادي والتكنولوجي. مع وجود بؤر هنا وهناك تكسر القاعدة.

وكانت تجربة "عدم الانحياز" بقيادة نهرو وعبد الناصر وتيتو محاولة لتجاوز التصوّر المكاني لتقسيم شمال/جنوب، ولكن حدّة التجاذب بين "رأسمالية الدولة" بقيادة الاتحاد السوفياتي و"رأسمالية المجتمع" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة غطّت على المحاولة.

وقريب من تجربة عدم الانحياز وربما على أنقاضها انبثق مفهوم "الجنوب الشامل" (Le sud global). ولئن استُعمل هذا المصطلح من بعض المنظمات الدوليّة في موضوع التنميّة فإنّ المقصود به كانت دول من إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيّة. ومع ذلك فإنّ المفهوم لم يستقرّ.

تفصح جملة "الجنوب جزء من تونس" عن أنّ الشعبويّة المنقلبة على الديمقراطيّة في تونس، شعبويّة عاميّة لم تحيّن وعيها القديم، فبقيت عند جمل قديمة منتهية الصلاحيّة وعاجزة عن الفعل الإيجابي

ولا يشذّ هذا المفهوم في نشأته وتطوّره عمّا عرفته مفاهيم سابقة كـ"المجتمع الدولي" (خلاصة حربين عالميّتين) و"العالم الثالث" (نظريّة العوالم الثلاثة) وغيرهما من تحوّلات ارتباطًا بوقائع عالميّة كبرى. فالحرب الروسيّة الأوكرانيّة وطوفان الأقصى تمثّلان مختبرًا يعاد فيه ضبط حدود المفهوم (مفهوم الجنوب الشامل).

ويمكن عند هذه النقطة ملاحظة الأبعاد الإفريقيّة والآسيوية والأمريكيّة الجنوبيّة في مواقف مناهضة للحرب على غزّة. ومنها مواقف جنوب إفريقيا (ملف شبهة الإبادة المودع لدى محكمة العدل الدوليّة)، والبرازيل في شخص رئيسها لولا داسيلفا، وبعض الدول الآسيوية المسلمة. ولعلّ الجديد في طوفان الأقصى هو المنوال الديكولونياليّة المتشكّل في سياق مواجهة الهيمنة العالميّة وسرديّتها الصهيوني. وبهذا المعنى يكون "الجنوب الشامل" صيرورة واتجاهًا عامًا في التاريخ يتوسّط الصراع العالمي في عالم كلّه يمين (الولايات المتحدة/الصين)، وليس حيّزًا جغرافيًّا مثله مثل الهامش في المستوى الوطني.

تفصح الجملة عن أنّ الشعبويّة المنقلبة على الديمقراطيّة في بلادنا شعبويّة عاميّة لم تحيّن وعيها القديم على ضوء مفهوم الجنوب وطنيًّا ودوليًّا فبقيت عند جمل قديمة منتهية الصلاحيّة وعاجزة عن الفعل الإيجابي في عالم جديد ملامحه بصدد الظهور وطنيًّا ودوليًّا في أتون صراع للقوة مرير.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"