24-يناير-2022

صورة من احتجاجات يوم 14 جانفي 2022 ضد سياسات الرئيس سعيّد (ياسين القايدي/الأناضول)

 

مقال رأي

 

عرف المشهد السياسي مع الانقلاب جدلاً حول علاقة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 تاريخ انطلاق الانتفاض المواطني بسيدي بوزيد بتاريخ هروب بن علي يوم 14 جانفي/يناير 2011. 

وكان دستور الثورة قد حسم في متنه في العلاقة بين التاريخين رغم ما أثير من لغط داخل النخبة حول العلاقة بينهما، ولكن قيس سعيّد أعاد إثارة الموضوع حين اعتبر يوم 17 ديسمبر عيدًا وطنيًا، وشدّد على أنّ يوم 14 جانفي لا يعدو أن يكون انقلاباً على الثورة وأهدافها.

اقرأ/ي أيضًا: 17 ديسمبر أم 14 جانفي؟: هل يسطو الخصام السياسي ويطمس تواريخ الوطن؟

الذكرى الحادية عشرة للثورة 

كما كان منتظرًا كان احتفال الشارع الديمقراطي المناهض للانقلاب بذكرى الثورة يوم 14 جانفي 2022 مختلفًا عن كلّ احتفالات التونسيين بها منذ عشر سنوات. 

وكانت الدعوة من مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" مثل ما كان عليه الأمر في المحطات العديدة سابقة، وقد كانت مبادرة مواطنون ضدّ الانقلاب المواطنية انبثقت لتكسر صمتا خيّم على المشهد السياسي بأحزابه ونخبته حوالي شهرين كانت فيه إدانة للانقلاب ولإجراءات 25 جويلية الاستثنائية، ولكن دون ظهور حركة في الشارع ترفض أن يكون الانقلاب بديلاً عن مسار انتقال ديمقراطي متعثّر. 

كانت الدعوة من "مواطنون ضد الانقلاب" ولكن صاحبتها دعوات مماثلة من الأحزاب، وحتى من كان دعا إلى النزول يوم 14 على الساعة العشرة صباحًا التحق بالدعوة السابقة إلى التظاهر بداية من الساعة الثانية بعد الزوال.

كانت كل الدعوات تشير إلى شارع الثورة لإحياء الذكرى، ولكن قرار سلطة الانقلاب بادر إلى تسييج شارع الثورة وغلق أهمّ الشوارع التي تفضي إليه. ثم عمد إلى قطع شارع محمد الخامس، وهو من أكبر شوارع تونس العاصمة والمفضي إلى منتهى شارع الثورة من جهة تونس البحرية (TGM). 

ما استجدّ مع يوم 14 جانفي 2022، بعد تسجيل وفاة ضحية القمع البوليسي، هو تعرية التوجه القمعي للاستبداد وسياسة الهروب إلى الأمام

كان الشارع منذ 18 سبتمبر/أيلول 2021 مجالًا لصراع بين سردية الانقلاب المؤسسة على أكذوبة التفويض الشعبي، وسردية "مواطنون ضد الانقلاب". وهي سردية بقدر ما تنفصل عن السائد بنقدها الجذري لسنوات الانتقال العشر ومسؤولية كل القوى المفوّضة بالانتخابات لإدارة الشأن العام ترتبط بالدستور والديمقراطيّة في رفض الانقلاب ودحر سرديته الشعبوية. 

وما استجدّ مع يوم 14 جانفي التاريخي، بعد تسجيل وفاة مدافع عن الديمقراطية ضحية القمع البوليسي، هو تعرية التوجه القمعي للاستبداد وسياسة الهروب إلى الأمام بتوظيف أجهزة الدولة الصلبة أمام عزلته في الداخل والخارج وفشله الذريع في مواجهة الأزمة الاقتصادية وخطر الإفلاس الذي يتهدد الدولة وعجزه أمام توسع الشارع الديمقراطي وإصراره على استعادة المسار الديمقراطي. 

اقرأ/ي أيضًا:

استفاقة نخبة؟ 

النخبة التي التقت على حوارات شاملة ومعمقة أيّام الإضراب الذي دعا إليه "مواطنون ضدّ الانقلاب" واستجاب له نواب وشخصيات سياسية ووطنية تحوّل إلى ورشة حوار بين مكونات النخبة السياسية والفكرية ودشّن مراجعات شجاعة وقراءات نقدية لسنوات الانتقال العشر. 

وعلى مدى أكثر من عشرين يومًا غدا مقر الإضراب بالمنزه السادس قبلة لنخبة البلد التي نشأت مع دولة الاستقلال وما عرفته من منعرجات، والتقت بعد الثورة في الحياة السياسية ومجالها السياسي الجديد، حتى قيل إنّ الدولة والثورة كانت على مدى عشرين يومًا بالمنزه السادس مقر إضراب الجوع.

وكاد المشهد السياسي وصنع أخباره ينحصران بين مقر الإضراب وقصر قرطاج المهجور، بعد الانقلاب وقد أغلق قيس سعيّد أبوابه دونه، بعد أن اختطف مؤسسات الدولة بإجراءات 25 جويلية الاستثنائية.

كان الإضراب وحواراته مجالاً لجدل سياسي وفكري خصيب التقت فيه نخبة تونس على مواجهة الانقلاب، فكانت الحوارات في الفكر والسياسة والاستراتيجيا هي في الآن نفسه عمليّة تعبئة للاحتفال بالذكرى الحادية عشرة للثورة. 

فكما كان إضراب الجوع إضرابًا حقوقيًا بأفق سياسي ونقطة اشتباك متقدّمة مع الانقلاب كان الاحتفال بذكرى الثورة محطة متقدّمة في الدفاع عن الثورة والدستور والديمقراطية. وقد كان الانقلاب في توجهه للاستحواذ على كل شيء بما في ذلك الثورة التي لم يشارك فيها وسرديتها التي لم يكن من مكوناتها، اعتبر أنّ تاريخ الثورة هو 17 ديسمبر 2010، وأصدر في ذلك مرسومًا نُشر بالرائد الرسمي للبلاد التونسية يُضبط فيه عيد الثورة، ويمثّل تاريخ 14 جانفي عنده انقلابًا على الثورة. 

في 14 جانفي 2022، كان نزول الشارع الديمقراطي إلى شارع الثورة وإلى شوارع تونس العاصمة وكانت النخبة السياسية والفكرية تتقدم الصفوف ولم يبق حول سعيّد سوى ثلة قليلة من نخبة التجمع وبقايا اليسار الوظيفي 

في هذا السياق، كان نزول الشارع الديمقراطي إلى شارع الثورة وإلى شوارع تونس العاصمة. وكانت النخبة السياسية والفكرية تتقدم الصفوف، ولم يبق حول سعيّد سوى ثلة قليلة من نخبة التجمع المكونة لجان تفكير التجمّع وبقايا اليسار الوظيفي ومن أكاديميا التسوّل التي كانت تنعت المرشح قيس سعيّد بالدوعشة وراهنت مع جانب من أذرع السيستام في الأجهزة ورأس المال على مرشّحين منها نافسوا سعيّد نفسه في الدورين (الزبيدي مثالاً). 

لأول مرة في تاريخ تونس تخرج قامات علمية وفكرية تتقدم الصفوف احتفالًا بذكرى الثورة ودفاعًا عن الدستور والديمقراطية. ومن هذه القامات المعرفية البروفيسور أبو يعرب المرزوقي أستاذ الفلسفة الغربية واليونانية والألمانية، وقد تقدم الصفوف في شارع الثورة رغم تسييجه ورغم ما ضرب عليه من حصار أمني رهيب.

يوم 14 جانفي كانت النخبة في مواجهة الانقلاب، وكان هذا الاحتفال تحولًا نوعيًا تورط فيه الانقلاب في دم أحد المدافعين عن الحرية هو الشهيد رضا بوزيان، وكشف عن وجهه القمعي بما أتاه من عنف منهجي طال النشطاء والإعلاميين من تونس ومن الإعلام الدولي الذي شد الرحال نحو تونس من القارات الخمس لحضور هذا الاحتفال التاريخي غير المسبوق. 

يوم 14 جانفي كانت النخبة في مواجهة الانقلاب وكشف عن وجهه القمعي بما أتاه من عنف منهجي طال النشطاء والإعلاميين من تونس ومن الإعلام الدولي 

اقرأ/ي أيضًا:  وفاة بوزيان.. روايات عديدة في انتظار كشف "الحقيقة"

ملامح البديل الوطني 

يقوم إجماع على أنّ انقسام النخبة والطبقة السياسية يُعَدّ أهمّ شروط استمرار الانقلاب وتواصل عبثه بالدولة. 

ويبدو من هذه الزاوية أمرُ النخبة والطبقة السياسية في تونس عجيبًا. ومصدر العجب سيرة هذه الطبقة نفسها. فهي تجتمع على مناهضة الاستبداد، ولكنها تختلف تحت سقف الحرية، ولا تقدر على بناء مشترك سياسي وقيمي وأرضية لتأسيس الحرية وبناء الديمقراطية والمواطنة. وقد كان لها في هذا محطات بارزة أولها محطة 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005 التي مثلت لقاءً في مواجهة الاستبداد، وقيل يومها إنّ فرزًا عميقًا تعرفه الطبقة السياسية يُخْرِجها من الفرز على قاعدة الإيديولوجيا إلى الفرز على قاعدة الحرية، ولكن الهاجس الهووي الأيديولوجي عاد بعد الثورة مع أول انتخابات تعرفها تونس، وهي الانتخابات التأسيسية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. 

وكانت انتخابات 2019 آخر هذه المحطات، فقد اعتبرت، من جهة نتائجها، تفويضًا لما يُسمّى بالصف الثوري، ولكن شهورًا على هذه الانتخابات، ومن خلال أداء البرلمان ورئيس الجمهورية وأطوار تشكيل الحكومة، كشفت عن مقومات انحدار فعلية في المشهد السياسي. وأنّ ما كان من أسباب تواصل المسار الانتقالي رغم تعثّره مهدّد بالنسف. فإلى جانب "الصراع الديمقراطي" قام "صراع ضدّ الديمقراطية" قاده سعيّد في استهدافه لدستور الثورة وعبير موسي في استهدافها للبرلمان. وتأكّد لقاء موضوعي بين الجهتين، وهو ما عُرِف بـ"سياسة الترتيل والتعطيل" التي كانت أهمّ مقدمات الانقلاب.

يقوم إجماع على أنّ انقسام النخبة والطبقة السياسية يُعَدّ أهمّ شروط استمرار الانقلاب وتواصل عبثه بالدولة في تونس

ومع ذلك فإنّ هذه النخبة التي فرّقها الانقلاب (اختلفت حوله) بدأت تجتمع بعد أمر 117 بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2021، على مناهضته، وتقترب من التيار المواطني بقيادة "مواطنون ضد الانقلاب" والذي كان ضد الانقلاب منذ إجراءات 25 جويلية الاستثنائية. 

ومثّل إضراب الجوع لقاءً سياسيًا واسعًا، وكان الاحتفال التاريخي بالذكرى الحادية عشرة للثورة نقلة نوعية في مواجهة الانقلاب نبّها شركاء تونس الدوليين إلى أنه لا أفق لانقلاب يختطف مؤسسات الدولة وبلا بديل سياسي مؤسسي ويمعن في مصادرة الحريات في سياق إقليمي متفجّر. 

وكان التنبيه أقوى إلى ملامح بديل وطني يُنتظر أن يضمّ طيفًا واسعاً من النخبة والطبقة السياسية الديمقراطية، وهو بديل من ملامحه بروز وجوه سياسية جديدة بخطاب مواطني جديد ومكافح. ويكاد يقوم إجماع داخل هذه النخبة المواطنية الناهضة أنّ حقيقة الانقسام المضاعف الذي يعرفه المجتمع التونسي يجعل من المصالحة التاريخية بين كتل المجتمع الفاعلة وقواه الحية ضرورةً. مصالحة تاريخية على قاعدة الديمقراطية ومنوال تنمية يقطع مع الريع ونظام الرخص ورأسمالية الحبايب. 

ملامح هذا البديل الوطني تتوضّح تدريجيًا رغم تعقّد المشهد السياسي في تونس وكثرة المتدخلين فيه ورغم عسر ما يُعقَد من ترتيبات دولية وإقليمية. وسيسرّع توضّح هذا البديل قُدُماً وتصاعد الرفض المواطني للانقلاب بغلق قوسه والانطلاق في محو آثاره. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

الوجع الاجتماعي.. التهديد الحقيقي لخريطة الرئيس

عن خيبات اليسار في تونس..