مقال رأي
لا تزال هيئة الانتخابات لم تحدد بعد رزنامة الاستحقاق الرئاسي المنتظر الخريف المقبل، ولم يعلن رئيس الدولة قيس سعيّد إقرارًا صريحًا بشأن الحسم في تنظيم الانتخابات الرئاسية أو بشأن ترشّحه. واقع الرئيس الذي يحكم ويسود على حساب حكم الدستور ومنطق المؤسسات، وهو منذ 25 جويلية/يوليو 2021 بات محترفًا في إثبات هذا الانحراف، جعل إجراء الانتخابات وشروطها وقواعد تنظيمها حدثًا غامضًا رغم فتات ما تقدّمه السلطة بين الفينة والأخرى. ولكن رغم ذلك، بدأت الانتخابات تفرض نفسها في الحدث السياسي بالبلاد.
واقع الرئيس الذي يحكم ويسود على حساب حكم الدستور ومنطق المؤسسات جعل إجراء الانتخابات وشروطها وقواعد تنظيمها حدثًا غامضًا رغم فتات ما تقدّمه السلطة بين الفينة والأخرى من معطيات
مرشحون يعلنون نوايا ترشحهم والرئيس، في تصريح على هامش الاحتفاء الرسمي بعيد الشهداء، يعتبر أن ترشحه "ليس شهوةً أو طموحًا وأن القضية هي مسألة بقاء أو فناء". ربّما، بداية، تصعب المنازعة في حقيقة أن الانتخابات المنتظرة مشوبة بضعف فادح في شرط النزاهة، باعتبار أنها تُجرى في سياق نشأة نظام سلطوي، على خلاف انتخابات 2014 و2019 التي انتظمت ضمن مسار انتقال ديمقراطي اُعدم على مقصلة الرئيس. وهو الذي أضاف لوحده في دستوره عام 2022 شروطًا جديدة للترشح للانتخابات الرئاسية.
وغياب مقوّمات النزاهة يتبيّن أيضًا وبالخصوص في هشاشة استقلالية هيئة الانتخابات التي تحوّلت إلى إدارة لعدّ الأصوات في الصناديق تعمل لحساب السلطة السياسية الحالية باعتبارها من عيّنت بنفسها أعضاء الهيئة.
في الأثناء، جلّ القوى السياسية الفاعلة قاطعت المسار الدستوري والانتخابي الذي فرضه الرئيس منذ 25 جويلية/يوليو 2021 بداية من الدستور وصولًا لانتخابات المجالس المحلية مرورًا بالانتخابات التشريعية. لكن من البيّن أن العديد من هاته الأحزاب على وجه الخصوص إضافة للشخصيات المستقلّة يظهر أنها معنية بالاستحقاق الرئاسي.
يبدو أن الرئيس يفضّل أن تنتظم الانتخابات كمشهد تجديد للعهد مع الشعب وليس مجرّد سباق مع مترشحين آخرين، لكن تبدو تباعًا الشكوك متزايدة بخصوص سعي السلطة السياسية لتنظيم انتخابات تنافسية على أرض الواقع
تساءل سعيّد مؤخرًا عن التهافت على الاستحقاق الرئاسي رغم مقاطعة المحطات الانتخابية السابق ذكرها. والواقع أن التساؤل مردود عليه باعتبار أن المقاطعة فيما سبق تأسيسها رفض الانخراط في المسار الذي فرضه الرئيس بالقوّة على الجميع، أما المشاركة تأسيسها، بالنسبة لعديد المقاطعين سابقًا، هو محاولة إيقاف الانحراف عبر التغيير، من بوابة صندوق موعود، على مستوى الرئاسة.
يظهر أن تساؤل الرئيس يطرح فرضية أنه كان يتمنّى واقعًا مسابقة نفسه في الانتخابات الرئاسية باعتبار أن المقاطعة لا تعنيه. فهو يفضّل أن تنتظم الانتخابات كمشهد تجديد للعهد مع الشعب وليس مجرّد سباق مع مرشحين آخرين. لكن المرشّحين يتكاثرون، ويظهر أن بعضهم يتمتع بحدّ من نوايا التصويت التي ستجعل الانتخابات لن تكون بالضرورة نزهة للرئيس. وتبدو تباعًا الشكوك متزايدة بخصوص سعي السلطة السياسية لتنظيم انتخابات تنافسية على أرض الواقع.
الرئيس في دستوره بدأ في تقليص دائرة المرشحين المفترضين بإدخال تغييرات على شرطين اثنين: أولًا شرط السن عبر الترفيع في السن الدنيا للترشح من 35 إلى 40 عامًا وهو ترفيع إن يظهر غير مهمّ نظريًا فهو ثبت عمليًا على سبيل المثال أنه يؤدي لإبعاد رئيسة حزب الجمهورية الثالثة ألفة الحامدي، وثانيًا شرط الجنسية عبر فرض أحادية الجنسية عند الترشح وأيضًا عبر تمديد الجنسية لتشمل أصول المترشح وجدّه لأم ولأب دون انقطاع، وهو ما يعني إقصاء طيف واسع من التونسيين بينهم شخصيات نشطة في الحقل السياسي.
يبقى تقليص التنافسية من بوابة الإحداثات الممكنة من هيئة الانتخابات تحت سلطان الرئيس ممّا هو منتظر، وهو ما يعكس خطورة إبقاء قواعد اللعبة بيد السلطة السياسية قبيل أشهر من الاستحقاق، وهي التي احترفت فرض قواعدها بنفسها ولحسابها منذ 25 جويلية
لم يكتف الرئيس بذلك بل أضاف شرطًا ثالثًا وهو لزوم تمتّع المترشّح بحقوقه السياسية والمدنية. فقبل بضعة أشهر من الموعد المفترض للانتخابات، لا يزال هناك غموض حول ما إذا كانت هيئة الانتخابات ستكتفي باشتراط نقاوة سجّل السوابق العدلية وحصره في الحقوق المدنية والسياسية، أي إقصاء فقط من صدر ضده حكم بات يتضمن عقوبة تكميلية كالمنع من الترشح أو الاقتراع، أم لا، أي في اتجاه توسيع تطبيق الشرط. إذ تتزايد الخشية من توظيف هذا الشرط المستجد لإقصاء عشرات المعارضين بينهم قادة سياسيين من الترشح، على ضوء ملاحقتهم في عديد القضايا التي أثارتها السلطة ضدهم على خلفية نشاطهم السياسي.
وفي هذا الإطار، لا يمكن تجاوز أن حالة الغموض بخصوص تنزيل هذا الشرط مردّها عدم تنقيح القانون الانتخابي على نحو يظهر أنّ الرئيس دفع نحو توكيل هيئة الانتخابات بمعالجة خلل تطبيق الشروط الدستورية الجديدة في إطار قرار ترتيبي تصدره الهيئة. قرار منتظر قد يدفع بفرض شروط جديدة في إطار توسيع متعسّف للشروط المنصوص عليها في دستور الرئيس.
في هذا الجانب مثلًا، أحد المعلقين الصحفيين التابعين للسلطة أعلن عن وجود توجّه لفرض شرط الإقامة بتونس لكل مترشح للانتخابات الرئاسية، وهو شرط غير دستوري قد يستهدف بعض المرشحين المقيمين خارج تونس في منفى قسري على غرار حالة المنذر الزنايدي الذي أعلن صراحة نيته الترشح للانتخابات المقبلة.
جميع المؤشرات تبيّن أن الرئيس سعيّد غير متحفّز لتنظيم انتخابات رئاسية تنافسية، إذ كان عليه حماية المترشحين المحتملين وتأمين مشاركتهم في الاستحقاق بدل استهدافهم وتقييد حرياتهم
القرار الترتيبي لعام 2014 فتح الباب لتقديم ملف الترشح من المترشح نفسه أو من ينوبه. ولا غرابة أن تشترط الهيئة لزوم تقديم الملف من المعني بالأمر فقط، على نحو يمنع تقديم الترشحات بالوكالة. وفيما يتعلّق بالتزكية، لا يبدو مستبعدًا، بتعلّة ضمان شفافية الإمضاءات، اشتراط أن تكون تزكيات الناخبين في الدوائر الانتخابية معرّف عليها بالإمضاء، وهو ما سيعسّر قدرة المرشحين على ضمان الحد الأدنى من التزكيات في الأجل القانوني المحدد.
يبقى تقليص التنافسية من بوابة الإحداثات الممكنة من هيئة الانتخابات تحت سلطان الرئيس ممّا هو منتظر، وهو ما يعكس خطورة إبقاء قواعد اللعبة بيد السلطة السياسية قبيل أشهر من الاستحقاق، وهي التي احترفت فرض قواعدها بنفسها ولحسابها منذ 25 جويلية. لكن الأخطر هو منع الترشحات عبر تقييد الحريات كإصدار بطاقات إيداع ضد عدد من المرشحين المحتملين على غرار عبير موسي أو إصدار بطاقات جلب ضد آخرين في قضايا تم مؤخرًا نفض الغبار عليها على غرار المنذر الزنايدي.
كما أثارت السلطة تتبعات قضائية على معنى المرسوم 54 ضد مرشحين محتملين آخرين بينهم لطفي المرايحي الذي صدر ضده حكم بالسجن لمدة 6 أشهر مع تأجيل التنفيذ بداية العام الجاري على خلفية تصريح تضمّن نقدًا لأداء رئيس الدولة.
ربما يخشى الرئيس من مقدرة هذا المرشح أو ذاك على فرض حملة تنافسية إن لم تنتهِ بفوزه فستظهر أن الرئيس لا يتمتع بشعبية كاسحة كما يريد أن يوهم أنصاره، وتبيّن أن حصيلته السلبية في إدارة البلاد خاصة في الملف المعيشي تحمل كلفة ما في الشارع
حمّى استهداف المرشحين المحتملين جعلت نكتة سريعة التداول على مواقع التواصل الاجتماعي وهو إن كنت تريد سجن شخص ما فدعه يعلن ترشحه للرئاسيات. نكتة ساخرة لكنّها موجعة في بلد كان يُنظر إليه قبل بضع سنوات نموذجًا في تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة في الوطن العربي. لم تكن حينها انتخابات بمنأى بصفة مطلقة عن المال السياسي والتوظيف المشبوه للإعلام، لكنها كانت تنافسية في جميع الأحوال.
في الختام، جميع المؤشرات تبيّن أن الرئيس سعيّد غير متحفّز لتنظيم انتخابات رئاسية تنافسية، إذ كان عليه حماية المترشحين المحتملين وتأمين مشاركتهم في الاستحقاق بدل استهدافهم وتقييد حرياتهم. وغياب التحفّز قد يكون مردّه خشية من قدرة هذا المرشح أو ذاك على فرض حملة نشطة وتنافسية إن لم تنتهِ بفوزه فستظهر أن الرئيس لا يتمتع بشعبية كاسحة كما يريد أن يوهم أنصاره، وتبيّن أن حصيلته السلبية في إدارة البلاد خاصة في الملف المعيشي تحمل كلفة ما في الشارع.
الرئيس يخشى أن يفقد كرسيّه العاجي كرئيس مفوّض أو مزكّى من الشعب، فهو لا يريد أن يظهر كمجرّد مرشّح في سباق مع آخرين كما قال بنفسه يومًا. فهو يعلو الجميع ولا ينافسهم. وتصريحه مؤخرًا بتكييفه قضية ترشحه "قضية بقاء أو فناء" يؤكد أن الرئيس لا يقارب الاستحقاق الرئاسي كما يجب أن يقاربه أي رئيس "ديمقراطي" قبيل انتهاء عهدته. فالرئيس يبدو أنه نسي أنه، ومهما كانت المآلات عاجلة كانت أم آجلة، فالأشخاص راحلون، والدولة باقية، ومطلب الديمقراطية أيضًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"