31-أغسطس-2021

خطابات سعيّد اتخذت طابعًا هوليوديًا فرجويًا مؤخرًا عبر بث فيديوهات وصور لمداهمات (مصدر الصورة: الرئاسة التونسية)

 

في إحدى تصريحاته مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية، يقول المخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس متحدّثًا عن فيلمه "يافعون في الغرفة (2019) Adults in the room": "سنة 2007، أنبأني السفير اليوناني في فرنسا بأن اليونان تسير نحو الكارثة. فقط سنتين بعد ذلك، تحققت تصوراته. حينها فكرت في تصوير فيلم حول ذلك".

يتناول الفيلم قصة نجاح حزب تحالف اليسار الراديكالي "SYRIZA" سنة 2015، والذي أسس برنامجه الانتخابي حول إلغاء المديونية وعدم الرضوخ لإملاءات الصناديق والمؤسسات المالية الدولية. وبعد عدة مفاوضات فاشلة استقال على إثرها وزير المالية الشاب المتحمس يانيس فاروفاكيس، لجأ رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس إلى الاستفتاء حول الرضوخ للهيئات الأوروبية المانحة وصندوق النقد الدولي، أو الخروج من الاتحاد الأوروبي Grexit. كانت نتيجة الاستفتاء هي 61.31% يرفضون تلك الإملاءات والبرامج المقترحة، إلّا أن الحكومة آنذاك تجاهلت نتيجة الاستفتاء الذي اقترحته إلى باقي الدراما اليونانية.


بعد مرور شهر من "العهدة السعيدية" (إعلان الإجراءات الاستثنائية في تونس في 25 جويلية/ يوليو 2021)، يتساءل متابعو الشأن العام من صحفيين ونشطاء ومعارضين ومساندين حول الحصيلة وما تحقق من أهداف: هل تم القبض على الفاسدين؟ هل تحقق الازدهار المنشود؟.. الخ، وذلك بين داع للعقلانية والصبر ومراعاة الظروف القاسية، (عرضًا نتساءل أين كان هذا الخطاب العقلاني قبل الـ 25)، ومشكك في النوايا وجدية الإجراءات ومراهن على الفشل والنكوص على البيعة. 

الأمر على ما يبدو غير هذا ولا ذاك. في إحدى اللقاءات الإذاعية لرضا شهاب المكي (شٌهر رضا لينين وهو من فريق الرئيس سعيّد خلال حملته الانتخابية)، سئل الأخير عن تصورات أصحاب "مشروع قيس سعيّد" لتهيئة الجرعات (Dosage) والمراحل اللازمة للتغيير الاجتماعي وتهيئة أجواء تقبلّه، فأجاب أن هذا رهين الوقت.

والآن، بعد خطوة ما يسمّى بـ"الإجراءات الاستثنائية"، ماهي الخطوة القادمة في اتجاه تحقيق المشروع السياسي للرئيس قيس سعيّد؟ 

  • حساسية دوغمائية من الأجسام الوسيطة 

يتحدّث المؤرّخ الفرنسي المعاصر بيار روزانفالون في كتابه "قرن الشعبوية le siècle du Populisme" عن الحساسية والعداء الذي تكنه الشخصيات/الزعامات الشعبوية تجاه الأجسام الوسيطة: كالمنظمات، الأحزاب، الجمعيات، وسائل الإعلام والهيئات المستقلة، لما تمثلّه هذه الأجسام من سلطة مضادة تهدد سلطتها المطلقة، دورها الوسيط/التمثيلي بينها وبين المجتمع وما تضمه من حداثوية متعالية (نخب) والتي قد تكون لها الأدوات والقدرة على كبح محركات الجموح وكشف اللاعقلانية في الخطاب الشعبوي.

تكن الشخصيات الشعبوية حساسية وعداء تجاه الأجسام الوسيطة كالمنظمات، الأحزاب، الجمعيات، وسائل الإعلام والهيئات المستقلة لما تمثلّه هذه الأجسام من سلطة مضادة تهدد سلطتها المطلقة لدورها الوسيط/التمثيلي بينها وبين المجتمع

"ترتكز النظرية الشعبوية للديمقراطية على 3 عناصر: (1) تفضيل بديهي للديمقراطية المباشرة القائمة على تقديس الاستفتاء، (2) رؤية متطرفة واحتكارية لسيادة الشعب ترفض الأجسام الوسيطة وتسعى لتدجين المؤسسات غير المنتخبة: المحاكم الدستورية، الهيئات المستقلة، (3) تبني الإرادة العامة وكأنها قادرة على التمثل طبيعيًا" (صفحة 21).

اقرأ/ي أيضًا: عن طوفان الشعبوية في تونس..

نظريًا، الأجسام الوسيطة هي مجموعة المنظمات والمؤسسات المنتظمة ضمن القانون لتكوّن مجتمعة "المجتمع المدني" والذي يقوم بوظائف عدة من بينها التضاد مع السلطة وكبح جماحها. يمثل المجتمع المدني صمام الأمان في النظم الديمقراطية نظرًا لطبيعته التعددية بالأساس، وكونه ملتقى لمكونات الحداثوية المتعالية كما يصف البروفيسور جايمس سكوت "النخب". 

طبعاً مثلما للشعبوية من أبعاد فضفاضة، حيث لا تعريف نهائي لها، فإن لمصطلح النخب خاصية مطاطية غير قابلة للاستيعاب والتطويع. 

ما عدا الاستثناءات، تعطي الديمقراطية للمجتمع المدني والنخب، معنى وجوديًا مرتبطًا بها تعززه جملة من المصالح المركبة والمتقاطعة كالصحافة حيث لا تزدهر إلا في الفضاء الحر، والنقابات التي تسعى أجهزة السلطة، ديمقراطية كانت أم استبدادية، إلى اختراقها وتوظيفها، ما يعني يفقدها مضمونها النضالي وتهدّد إمكانية تحقيقها مكتسبات لفائدة منظوريها. لهذا، تسعى الشعبويات، بشكل تلقائي، إلى إقصاء هذه الأجسام الوسيطة، لما تمثله من عوائق تشكل "الرجل-الشعب"، وتعريتها زيف بروباغندا الإنقاذ المنتظر. 

تسعى الشعبويات، بشكل تلقائي، إلى إقصاء الأجسام الوسيطة لما تمثله من عوائق تشكل "الرجل-الشعب" وتعريتها زيف بروباغندا الإنقاذ المنتظر

  • الطريق نحو "الشعبوقراطية" التونسية

تحدث المؤرخ والأستاذ في جامعة أوكسفورد أنطوني أندروز (1910-1990) في كتابه "طغاة الإغريق (1956) The greek Tyrants" عن المناخ المحفّز لظهور الطغاة زمن الإغريق. حيث يقول إنهم كانوا يظهرون، ولا يزالون، عند اشتداد الأزمات، وعجز جهاز الدولة عن التعامل معها، فتكون ذريعة مشروعية طغيانهم هي قدرة الفرد/الطاغية على التحرك بأكثر فاعلية وسرعة تحت مظلة "الاستثناءات الكريهة". 

منذ فوزه بالانتخابات سنة 1998، حقق الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز أرقامًا قياسية في مونوجولاته التلفزيونية المباشرة، حيث يظهر مخاطبًا الجمهور/الشعب وحده عبر الشاشة، ليتحدث مباشرة ودون أي وساطة أو مقاطعة.

تواصلت هذه العروض طيلة سنوات إلى أن حقق رقمًا قياسيًا من 8 ساعات من البث المباشر سنة 2007. كذلك، مع التطور التكنولوجي، اعتمد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تطبيقة تويتر للتواصل مباشرة، حيث بلغ عدد تغريداته بين 2018 و2020 الـ 23200 تغريدة وبلغ معدل 34.8 تغريدة/اليوم أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة في خريف 2020.

عبر السوشيال ميديا أيضًا، يقوم الوزير الأول الهندي ناريندرا مودي، المعروف بشعبويته القومية، بنفس الممارسات عبر بث فيديوهات مباشرة ونشر التدوينات على مختلف المنصات الرقمية. 

يلجأ قيس سعيّد للسوشيال ميديا وقد اعتمادها مسرحًا لبث خطاباته، التي اتخذت طابعًا هوليوديًا فرجويًا مؤخرًا عبر بث فيديوهات لمداهمات وهو بذلك يُقصي الصحافة والإعلام كأول جسم وسيط 

في نفس هذا السياق، يفهم لجوء قيس سعيّد "للإعلام البديل"، السوشيال ميديا، للقيام بحملته الانتخابية، واعتمادها مسرحًا لبث خطاباته، التي اتخذت طابعًا هوليوديًا فرجويًا مؤخرًا عبر بث فيديوهات لمداهمات، وهو ما يجيب عن تساؤلات عديد الصحفيين حول إحجامه عن القيام بلقاءات إعلامية ولو مرتبة مسبقًا، ما يعني إقصاء الصحافة والإعلام كأول جسم وسيط يقصيه الرئيس سعيّد من الطريق بينه وبين "الشعب". 

اقرأ/ي أيضًا: الرئيس والاتصال.. قراءة في الاتصال السياسي لقيس سعيّد

في خطابه ليلة 25 جويلية، قال الرئيس إنه سيتولى رئاسة النيابة العمومية، ثم إثر لقاءات مع المنظمات الوطنية والمجلس الأعلى للقضاء يبدو أنه تراجع عن ذلك، في إطار التطمينات الأولية المتمثلة في احترام مبدأ استقلالية القضاء. 

أيامًا قليلة بعد ذلك، شنت حملة فايسبوكية وانساقت وراءها مؤسسات إعلامية، حول القضاة وجهاز العدالة وكثرت التساؤلات حول مآل الفاسدين ولماذا لم يتم إيقاف "الحيتان الكبيرة" إلى الآن. لم يتأخر قيس سعيّد في "الهمز واللمز" للقضاة، وتحميلهم مسؤولية بطئ المسار القضائي، مع إيحاءات ضمنية بتورط الجسم القضائي كله في الفساد. 

لم يتأخر قيس سعيّد في "الهمز واللمز" للقضاة، وتحميلهم مسؤولية بطئ المسار القضائي، مع إيحاءات ضمنية بتورط الجسم القضائي كله في الفساد

عبر مقاربة الحقيقة الستالينية التي يتبعها سعيّد مع ما سبق من الأحداث، تشبه هذه الخطوات ما وقع طيلة السنتين الماضيتين من شيطنة للنواب والبرلمان، إلى أن ترسخت قناعة جماعية أن النواب، والأحزاب، يمثلون خطرًا جاثمًا على الدولة كما وصفهم سعيّد (طبعًا بما كسبت أيديهم).

في هذا المستوى، نتحدث عن الجرعة الثانية اللازمة للتغيير الاجتماعي، الذي تحدث عنها رضا شهاب المكي في حواره الذي أشرنا له أعلاه، حيث سيستمر الحشد عبر تعميم وصم الجسم القضائي بالفساد والنخب الاقتصادية بالاحتكار والتآمر على مصالح "الشعب"، حتى إذا ما حلت النكسة المرتقبة، ربما يقع تقديم هؤلاء "المذنبين" للجماهير الباحثة عن الأجوبة السهلة، وعندها، نفترض أن الرئيس سيتخذ خطوات جديدة نحو احتكار العدالة عبر حل المجلس الأعلى للقضاء والعودة إلى تولي النيابة العمومية، مع السعي إلى تدجين النخب الاقتصادية ودفعها إلى المصالحة التي سبق واقترحها: الأكثر تداينًا يسهر على تنمية المعتمدية الأكثر فقرًا. من المفترض أيضًا عندها أن تكون المجالس المحلية "التأسيسية" تشكلت أو قيد التشكل. 

سيستمر الحشد عبر تعميم وصم الجسم القضائي بالفساد والنخب الاقتصادية بالاحتكار والتآمر على مصالح "الشعب"، حتى إذا ما حلت النكسة المرتقبة، ربما يقع تقديم هؤلاء "المذنبين" للجماهير الباحثة عن الأجوبة السهلة

اقرأ/ي أيضًا: اقترحه سعيّد: مواقف متعددة من مشروع قانون الصلح الجزائي

للإشارة، حلّت مؤخرًا بولندا في المرتبة 64/180 ضمن مؤشر حرية الصحافة العالمي، محققة أدنى مرتبة لها منذ انضمامها إلى النادي الديمقراطي قبل 30 سنة. السبب في ذلك يعود لصعود حزب القانون والعدالة (PiS)، اليميني المتشدد، في الانتخابات الأخيرة سنة 2019، والتضييقات التي تقوم بها الحكومة تجاه الصحفيين. ليست بولندا، ولا تونس، استثناءات. 

سيتخذ سعيّد خطوات جديدة نحو احتكار العدالة عبر حل المجلس الأعلى للقضاء والعودة إلى تولي النيابة العمومية، مع السعي إلى تدجين النخب الاقتصادية ودفعها إلى المصالحة التي سبق واقترحها

تشهد عدة جهات في العالم صعود قوى يمينية/شعبوية، نتيجة الانحدار الاقتصادي وتفاقم مؤشرات اللامساواة وتدهور الأوضاع المعيشية للطبقات الوسطى، وهو ما يحقق نظرية بارنجتون مور في كتاب الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية: "لا ديمقراطية دون برجوازية".

أخيرًا، يكاد يخلو التاريخ من طاغية اعتدل من تلقاء نفسه، ولو كان استبداده نتيجة حادث ديمقراطي، حيث ليس من السهل على الحاكم المطلق أن يتقاعد، ولو بعد عمر الستين، عكس ما قال ديغول. 





اقرأ/ي أيضًا:

الصحافة التونسية أمام امتحان "الشعبوية"

هل قيس سعيّد مرشّح شعبوي؟ ارموا حجارتكم!

الترامبية، الماكرونية.. والسعيّدية: الوصفة الدعائية لرؤساء الجيل الرابع