07-فبراير-2022

رغم تغير أوجه النظام بعد الثورة، حافظت الأجهزة الأمنية على دورها الوظيفي في خدمة السلطة السياسية (فتحي بلعيد/أ ف ب)

 

"يأسف الجيش أنه اضطر إلى أن يقمع بقوة السلاح تحركًا تحريضيًا مسؤولًا عن خلق حالة خطرة وشيكة الحدوث لم يكن الجيش مسؤولًا عنها، مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة" هكذا خاطب رقيب الحراسة المكفوفين في رواية العماء، للبرتغالي جوزيه ساراماغو، التي تدور أحداثها حول تفشّي وباء العمى في المدينة، أين ركّز الكاتب على إظهار التعامل الجاف والمجرّد للجنود مع المدنيين والحالات الإنسانية التي تتطلّب هامشًا من التقرير الآني.

لم يتأخّر ساراماغو، صاحب نوبل للأدب 1998، في عدد من نصوصه عن استحضار الجيش ودوره في الحياة السياسية في البرتغال، مستبطنًا ما عاشه، طيلة جزء كبير من حياته، تحت حكم الديكتاتورية العسكرية منذ انقلاب 28 ماي/آيار 1926 حتّى ثورة القرنفل 1974، التي كانت شرارة انطلاقها انقلابًا عسكريًا هي الأخرى، ثم رافقها زخم وحشد شعبي نجح في تحويلها إلى ثورة أنهت الديكتاتورية وأرست ديمقراطية لا تزال مستمرة حتّى الآن. 


من الصور التي ستبقى عالقة بأذهان الناشطين السياسيين، وكل المتابعين للشأن العام في تونس، هي صورة ذلك الجندي، ليلة 25 جويلية/يوليو 2021، الذي سحب سلسلة حول دفتي باب البرلمان، وزيّنه بقفل حديدي، مانعًا بذلك النواب من الدخول إليه.

بالإضافة إلى منظر النجوم التي تتلألأ حول قيس سعيّد أثناء كلمته في ذات الليلة، فإن حركة قوات الأمن في الأيام الموالية بين غلق مكتب قناة "الجزيرة" بتونس واقتياد مراسلي "النيويورك تايمز" إلى مركز أمن في محيط البرلمان، وكذلك عمليات الاختطاف-الإيقافات الاستعراضية/الترويعية التي تصدرت ترندات مواقع التواصل الاجتماعي، وأخيرًا الحضور اللافت والمتكرر لممثلي نقابات أمنية في البلاتوهات الإعلامية، إما ضيوفًا أو محللين، تجتمع هذه المؤشرات لتشكل مواضيع قراءات مختلفة لصحفيين ومعلّقين، في الداخل والخارج، تقاطعت عناوينها حول دور المؤسستين الحديديتين، وبالخصوص المؤسسة الخضراء، في العملية السياسية في تونس.

من الصور التي ستبقى عالقة بالأذهان صورة الجندي الذي سحب سلسلة حول دفتي باب البرلمان وزيّنه بقفل حديدي (ناصر طلال/الأناضول)
  • الخطر البيروقراطي: الأجهزة تحكم بدون انتخابات

قام برنادر مانان، في كتابه "مبادئ الحكومة التمثيلية"، بما يشبه الحفر الأركيولوجي في أصول الديمقراطية التمثيلية خاصة في نسختها منذ الحرب الثانية، حيث تعرّض أيضًا إلى المخاتلة التي يتضمنها مفهوم "الديمقراطية المباشرة" ونظام القرعة. وانتهى إلى أنه، عكس ما توحي به عبارة "ديمقراطية مباشرة" من تصويت المواطنين على كل ما يهم التسيير اليومي "العام" للنظام في أثينا، هناك أجهزة "تقنية" يوكل لها بشكل خاص تحديد الخيارات واتخاذ القرارات في المسائل السياسية والاجتماعية الكبرى كالحرب، تنظيم الأسواق، المحاكم، وغيرها.

 تجتمع عديد المؤشرات ما بعد 25 جويلية 2021 لتشكل مواضيع قراءات مختلفة، في الداخل والخارج، تقاطعت عناوينها حول دور المؤسستين الحديديتين، وبالخصوص المؤسسة الخضراء، في العملية السياسية في تونس

وبعد إشارته إلى معارضة فلاسفة مثل سقراط للديمقراطية الأثينية، يشير برنارد مانان إلى الشروط التي يتم على أساسها تولّي هذه الأجهزة واللجان التي ستتحول لاحقًا إلى ما يعرف بالبيروقراطية، كالكفاءة، الخبرة، التكوين المعرفي، النسب (الأرستقراطي)... وعكس أعضاء المجالس المنتخبة كالبرلمان والبلديات التي تتغير دوريًا، تستمر فهذه الأجهزة في عملها مع كل نظام جديد منتخب. وفي تقاطع مع ما طرحه ماكس فيبر، يشير مانان إلى أن هذه الأجهزة تطورت تاريخيًا لتصبح ما يعرف بالدولة الحديثة التي نعرف.

لطالما شكلت مسألة النظام/الدولة حقلًا مفتوحًا في مبحث العلوم السياسية منذ نهاية الحرب الثانية. ومع نضوج البيروقراطية، توسعت صلاحيات هذه الهيئات والمجالس المهنية، ذات الصبغة التكنوبيروقراطية، لتشمل إعداد مشاريع القوانين والتوجهات الأساسية للخيارات السياسية للدولة، لتتطور وتصبح فيما يعرف في العلوم السياسية بـ "الأجسام غير المنتخبة"، ومن بينها القوى الردعية "coercive powers" موضوع هذا النص. نقصد هنا بالقوى الردعية: الأجهزة التي تقع في مدار "الرجال المسلحون الذين يحرسون الرأسمال "، أي الدولة، على غرار الأجهزة الأمنية والعدلية، التنفيذية – الولاة والمعتمدين-والمجالس والهيئات ذات الصبغة المهنية صلب المؤسسات والإدارات. 

اقرأ/ي أيضًا: قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..

وللتدليل على قوة الأجهزة، والدولة، في الحكم دون انتخابات، نسوق شهادة عدنان منصر في شهادته "سنوات الملح. طبعة جانفي 2021"، تحت عنوان الدولة المنغلقة: "إن ما نعنيه بانغلاق الدولة هو حالة الرفض التي كانت تنتشر بطريقة ثابتة في أوساط الإدارة ومؤسسات الدولة الرئيسية والثانوية ضد كل قرارات هذا التحالف الجديد – يقصد حكومة الترويكا 2011 – والذي سيتعاظم تحت تأثير نوع من الالتقاء بين الدولة من جهة وبين كل النخب". 

  • الفصل 18: الحياد المستحيل

هناك شبه اتفاق عرفي في المنطوق السياسي في تونس، الأكاديمي والإعلامي، على حياد المؤسسة العسكرية، والنجاح النسبي للحكام في تونس منذ الاستقلال في عدم إقحام الجيش في العملية السياسية. إلى حد ما، يمكن اعتبار هذا المنطوق سليمًا، نسبيًا على الأقل، خاصة عند المقارنة التاريخية-الإقليمية مع من تتشارك معهم تونس موروثًا ثقافيًا واجتماعيًا: دول الجوار في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث يتولى وزارة الدفاع عسكريٌ، ويتم تعيين بعض المناصب العليا في الدولة، بالانتداب من الحقل "الميري" كما يقول المصريون.

ينصّ الفصل 18 من الدستور التونسي على إلزامية الحياد التام للجيش "هو ملزم بالحياد التام. ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون". لكن إلى أي مدى يكون هذا الدعم، خاصة إذا ما تم تمطيط القاعدة القانونية، أو ما يعرف بـ"التأويل الموسّع"؟

لكن هشام بو نصيف، الأستاذ المساعد في الحوكمة بمعهدClermont McKenna ، كان له رأي مخالف طرحه في ورقة نشرها في نشرية جامعة جونز هوبكينز بعنوان "لماذا تخلّت المؤسسة العسكرية عن الديمقراطية"، حيث كتب: "أساسًا، السياسة تفترض القوة، والرجال المسلحون يملكونها. القوات المسلحة هي فاعل سياسي وجزء من المعادلة السياسية بغض النظر حول مدى تدخلها المباشر. (...) في 1978، 1984 و2008، تدخل الجيش لفرض النظام في مواجهة محتجين مدنيين أرهقتهم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. في 1987، تمكن بن علي من السلطة بمساعدة القيادات العليا".

ينصّ الفصل 18 من الدستور التونسي على إلزامية الحياد التام للجيش "هو ملزم بالحياد التام. ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون". لكن إلى أي مدى يكون هذا الدعم، خاصة إذا ما تم تمطيط القاعدة القانونية، أو ما يعرف بـ"التأويل الموسّع"؟ بشكل عام، تفرض العقيدة العسكرية وجوبية تطبيق الأوامر وفق هرمية القيادة. علاوة على احتكار سلطة "تأويل الدستور" في ظل غياب المحكمة الدستورية، فرئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة حسب الدستور.

يفضي هذا التضارب في المصالح بين قبعة التأويل وقبعة القيادة العليا إلى منطقة رمادية يمكن فيها تطويع القوانين وفق ما تقتضيه إرادة صاحب الأوامر، ما يجعل القوى التنفيذية في وضعية محيرة تفتح الباب للتدبير الحر. نظريًا، لم يفعل الجيش سوى تطبيق الأوامر حسبما تقتضيه عقيدته. 

اقرأ/ي أيضًا: عن "شخصنة الدولة وهسترة المجتمع" في تونس

يستدرك بو نصيف في نصّه: "لكن يجب التذكّر أن بن علي كان أيضًا قائدًا أعلى للقوات المسلحة عندما رفض الجيش الدفاع عن النظام ضد المحتجين سنة 2011. رفض الجيش كذلك أوامر الباجي قائد السبسي لحماية المنشآت النفطية في احتجاجات تطاوين 2017. هذا المعطي، أن الجيش رفض في آخر عقدين تنفيذ أوامر قائده الأعلى، يفترض أيضًا أنه كان يمكن أن يرفض في 2021، لكنه اختار التنفيذ".

الملفت في المحطات التي يذكرها بو نصيف، 2011، 2017 و2021، هي "مشروعية" الأوامر والحرارة الشعبية للمناخ العام الذي صدرت فيه: 2011 و2017 كان المحتجون ضد إرادة القائد الأعلى، في حين تقاطعت طلباتهم مع إرادته في 2021. لهذا يبقى الجيش على رأس المؤسسات التي تحظى بثقة التونسيين. وبالتالي يمكن الاستنتاج، بتحفّظ نسبي، أن الجيش منحاز لنبض الشارع وموازين القوى فيه، بغضّ النظر عن توجّهات السلطة السياسية المنتخبة. بالنهاية، لعب الجيش دورًا سياسيًا حاسمًا في كل المحطات السياسية الكبرى منذ 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، وقبله. 

  • الأجهزة الأمنية: فاعل سياسي بالضرورة: 

"في سياق ثورات العربية، يعتمد نجاح أي انتقال ديموقراطي على عاملين أساسيين: 1) غياب مؤسسات أمنية قوية ومتحفّزة سياسيًا. 2) معارضة غير مسلحة تبقي للدولة احتكارها للقوات الردعية فترة إعادة بنائها بعد الثورة ." كانت وزارة الداخلية، لا تزال، حجر الأساس للنظام الاستبدادي في نسختيه البورقيبية والنوفمبرية.

رغم تغير أوجه النظام بعد الثورة، حافظت الأجهزة الأمنية على دورها الوظيفي في خدمة السلطة السياسية. لا نعني هنا بالدور الوظيفي في الحدود التقنية للعمل الأمني، ولكن ما يتجاوزه للمنطقة الرمادية بين تطبيق القانون والأوامر، وتطويع المنطوق التقني ليتقاطع مع المنطوق السياسي

في تعريفها العام، الأجهزة الأمنية هي أجهزة تنفيذية ينظمها القانون وتقع تحت إشراف وزارة الداخلية. وعلى خلاف باقي أجهزة وإدارات الدولة التي تفترض الحد الأدنى من الولاء للسلطة السياسية الحاكمة، تبحث السلطة السياسية في هذه الأجهزة عن أكبر قدر من الولاء، فضلًا عن الكفاءة، لهذا تكون قياداتها على رأس لائحة التحويرات العاجلة عند أي تغيير سياسي، خاصة بعد ثورة 17-14.

اقرأ/ي أيضًا: تقارير دولية تتعرض لخطر "انهيار الدولة" في تونس.. قراءات ومحاولات للفهم

بالإضافة إلى ما يفترضه الولاء من قبول وانخراط في المشروع السياسي، فإنه كذلك يفترض تقاطع حد أدنى من المصالح، ما يعرفه المنظر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بالزبونية، إذ أن بقاء المدين بالولاء في منصبه يعتمد على بقاء من عينه على رأس السلطة. لهذا نجد علاقة خفية تربط بين السلطة السياسية وقيادات الأجهزة التنفيذية.

"يعتبر المثال التونسي أكثر الأمثلة وضوحًا، حيث يمثّل "الخطر" الترنيمة التي تنظم سياسات الحكومة: خطر الإسلاميين، خطر الفقر واللّامساواة، خطر التغريب المفرط، خطر الأزمات الاقتصادية... وكانت شرعية الحكومة في تونس وممارساتها مبنية على مجابهة هذه الأخطار وتوفير الحماية... هذا الطلب على الأوامر يضاهي الرغبة في "دولة قوية" وقبضة حديدية للتحكم في الأسعار والأنشطة الاقتصادية، التدخل التعديلي للاقتصاد... ما يتطلّب الاندماج-التماهي-التطوعي السياسي ودورًا لا متناهيًا للشرطة والأجهزة الأمنية ". 



كثيرًا ما اعتمدت الباحثة الفرنسية في سوسيولوجيا الهيمنة والتحكم، بياتريس هيبو، مثال النظام التونسي زمن بن علي وبورقيبة للتدليل على قوة النظام في تطويع الدولة وأجهزتها لتعميق واقع سلطته وتأبيدها، بل تذهب إلى أن تسمي علاقة الأجهزة الإدارية بالأنظمة السياسية بـ"الشرعية الزبونية Clientelist Legitimacies"، ما يشبه تشكل علاقة عضوية بين النظام والدولة، كل منهما مرتهن لوجود الآخر.

تواصل الترابط العضوي بين الأجهزة والنظام بعد الثورة، إلّا أنه تكثّف وصار واضحًا للعلن بعد واقعة 25 جويلية 2021، حين صارت التعيينات السياسية، كمناصب مستشارين ومعتمدين، تطال أفرادًا من خلفيات أمنية أو قيادات نقابات أمنية.

على كل حال، ورغم تغير أوجه النظام بعد الثورة، حافظت الأجهزة الأمنية على دورها الوظيفي في خدمة السلطة السياسية. لا نعني هنا بالدور الوظيفي في الحدود التقنية للعمل الأمني، ولكن ما يتجاوزه للمنطقة الرمادية بين تطبيق القانون والأوامر، وتطويع المنطوق التقني ليتقاطع، إما تطوّعًا أو حسب الطلب، مع المنطوق السياسي كاستعمال ذرائع أمنية تقنية للتضييق على حريات الأفراد المكفولة دستوريًا كالحق في التظاهر، التنقل، التعبير... وصولًا إلى ضرب الخصوم السياسيين، سواء المعارضون أو الموالون المتذمرون، ما يمكن إدراجه تحت طائلة العنف السياسي "المشروع" للدولة، وفق التعريف الذي بيّنه الباحث الماركسي في علم الاجتماع مولدي قسومي، في كتابه "مجتمع الثورة وما بعد الثورة" (الطبعة الثانية، ص 450)، أين حدد مدى مشروعية العنف السياسي حسب من يرتكبه و من يستهدف.

تواصل هذا الترابط العضوي بين الأجهزة والنظام بعد الثورة، إلّا أنه تكثّف وصار واضحًا للعلن بعد واقعة 25 جويلية/يوليو 2021، حين صارت التعيينات السياسية، كمناصب مستشارين ومعتمدين، تطال أفرادًا من خلفيات أمنية أو قيادات نقابات أمنية. كذلك تطلّ قيادات هذه النقابات، بالقبعة الاجتماعية، من على المنابر لتخوض في الشأن السياسي بخطاب موال للسلطة السياسية، ما يعني ربّما تحوّلها إلى ما يشبه الحزب (بذراع حديدية). 

  • دور القوات المسلحة والقوات الأمنية، كأجسام غير منتخبة، في العملية الديمقراطية: 

ليس غريبًا على مجتمعات عاشت ما يناهز الخمس قرون في ظل أنظمة استبدادية، أي منذ اشتداد الدولة الحفصية في تونس، أن تنشأ أجيال من الأفراد تخلط بين النظام والدولة، وأن ينشأ نوع من "العبودية المختارة" بينها وبين حكامها، على حد تعبير لابواسيي (قاضي فرنسي، 1530-1563)، وإن كان في هذا ضرب من الانطباعية أو السلوكية.

ليس غريبًا على مجتمعات عاشت ما يناهز الخمس قرون في ظل أنظمة استبدادية، أي منذ اشتداد الدولة الحفصية في تونس، أن تنشأ أجيال من الأفراد تخلط بين النظام والدولة، وأن ينشأ نوع من "العبودية المختارة" بينها وبين حكامها

تقوم الأنظمة الديمقراطية على الشرعية الانتخابية. بمعنى أن الأجسام المنتخبة، بما في ذلك البرلمان والرئيس، وكافة الهيئات المستقلة المنتخبة أيضًا من كبار الناخبين أو المعينة من قبلهم، هي النظام الذي يشرف على الدولة وعلى الأخيرة العمل معه في حدود ما يضبطه الدستور.

في التقليد الإنجليزي وعند انطلاق كل دورة برلمانية، يمضي محفل التاج الإنجليزي في اتجاه مجلس العموم المنتخب حديثًا، أين تغلق في وجهه/ها الأبواب، ثم تفتح بعد طرقه الباب ثلاثًا. هو تقليد رمزي يعود إلى أيام الحرب الأهلية الإنجليزية، يحمل عدة رمزيات أهمها أن لا شرعية تعلو فوق شرعية الانتخابات.

اقرأ/ي أيضًا: تونس: الدولة والسياسة والليبرالية المعطّلة

في مثل هذه الأنظمة، ونعني الديمقراطية، تضبط العلاقة بين مختلف مكونات النظام والدولة حسب الدستور، القوانين والأعراف. وأهم من ذلك: حسب "روح" الدستور والقوانين، التي فصّلها منتسكيو في جزء كبير من نصه العريق، حيث لم يذكر بأي شكل من الأشكال أن سلطة قد تمثل خطرًا داهمًا على الدولة، ما يحتم على سلطة أخرى الانقضاض عليها. 

دور الأجسام غير المنتخبة، وخصوصًا الجزء الحديدي من الدولة، أن تحمي الدستور وتسهر على تطبيقه وتطبيق القوانين في حدوده، وتقويم انحرافات السلطة حين جموحها. مثال ذلك ما وقع في عهد ترامب في مهد الديمقراطية التوكفيلية (وصف المفكر الفرنسي دي توكفيل الديمقراطية في الولايات المتحدة كديانة جديدة يتبعها الناس)، حين أصدر روبرت ميلر الرئيس السابق لجهاز الـ FBI، وهو بالمناسبة جهاز غير منتخب، تقريره يوم 18 أفريل/نيسان 2019 حول التحقيقات التي يقودها فيما يعرف بـ "فضيحة روسيا Russiagate"، أين كتب: "مساعي الرئيس للتأثير على نتيجة التحقيقات باءت بالفشل، وذلك يعود بالأساس للمحيطين به الذين رفضوا تلبيه أوامره والاستجابة لطلبه." ليست هذه سابقة في إدارة الأبيض، والإدارة الأميركية عمومًا، فقد أحصت مؤسسة CNN  13 مناسبة رفضت فيها الاستجابة لأوامر ترامب لأنها خارجة عما تضبطه القوانين والأعراف.

في الأنظمة الديمقراطية، دور الأجسام غير المنتخبة، وخصوصًا الجزء الحديدي من الدولة، أن تحمي الدستور وتسهر على تطبيقه وتطبيق القوانين في حدوده، وتقويم انحرافات السلطة حين جموحها.

في نشرية كامبريدج، تعرّض المنظّر السياسي الأمريكي ويليام شاورمان في ورقة بعنوان "هل تستطيع المؤسسات السياسية ارتكاب العصيان المدني؟" إلى ما أسماه بـ"العصيان البناء" أين كتب: "الكثير من الحجج وقع تقديمها، لكنّ الأهم من بينها هي التي تنحدر من حدس راول  (Rawl’s intuition)، أن على  الموظفين العموميين الاتفاق حول مفهوم خاص يدخل في نطاق "بوتقة الوفاق التضامني" والذي يظهر للمواطنين العاديين على أنه خضوع إجباري للقانون (...) بما يضمن احترامه"، عرضًا نشير إلى أن أعلى مراتب القانون هي الدستور. 

في تعاطيها مع قضية العصيان بين ترامب ومستشاريه، عنونت الغارديان تقريرًا بعنوان "كل رجال ونساء الرئيس: كيف أنقذ العصيان ترامب"، أين قارن كاتب التقرير توم ماكارثي بين ما قام به موظفو ترامب من عصيان للأوامر أدّى بالنهاية إلى إلجامه وإكماله دورته الانتخابية، وبين تطبيق الأوامر من قبل مستشاري الرئيس النيكسون الذين قادوه إلى الاستقالة فيما يعرف بـ"فضيحة ووترغايت". 

عشية يوم 9 أوت/أغسطس 1974، استقل نيكسون المروحية في رحلته الأخيرة مغادرًا البيت الأبيض بعد استقالته على خلفية ما عرف بفضيحة كشفتها الصحف. وبعدما أقلعت المروحية من الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، ساد الصمت لبرهة قبل أن يسأل بنجامين برادلي، رئيس تحرير الواشنطن بوست من 1965 إلى 1991، المحيطين به من محررين وصحفيين ساخرًا: "من انتخبنا؟". سؤال يحمل في طياته كثيرًا من الأطروحات حول قدرة صحيفة محلية آنذاك في جادة من واشنطن، أن تقيل رئيسًا منتخبًا من منصبه. سيكون هذا السؤال وهذه الأطروحات موضوع نص موال نتعرّض فيه إلى دور تمظهرات أخرى للأجسام غير المنتخبة في العملية السياسية: الإعلام، الجمعيات والنقابات. 


 

اقرأ/ي أيضًا:

مستقبل الديمقراطية والحرية في تونس من منظور دولي

"تصفية الأجسام الوسيطة".. عنوان المرحلة القادمة في تونس