30-مارس-2024
المحاماة التونسية عبد العزيز الصيد

جسم المحاماة موحد وحاسم في مواجهة السلطة بعد استباحة المهنة بغير وجه حقّ (صفحة المحامية دليلة مصدق)

مقال رأي 

 

هل كان مفاجئًا أن يقضي المجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية بتونس بعدم سماع الدعوى في حق منسق هيئة الدفاع في قضية "التآمر" عبد العزيز الصيد في القضية المثارة بطلب مباشر من وزيرة العدل ليلى جفّال؟

ليس مفاجئًا، بدايةً، القضاء بالبراءة بالنظر لخواء ملف القضية الكيدية والانعدام المطلق لأركان جرائم الإحالة، وذلك إن ما كان النظام القضائي مستقلًّا عن السلطة السياسية، وإن كان القضاة يمارسون أعمالهم بعيدًا عن الترهيب. لكن بهذا المعنى وبالمعاكسة، يكون لافتًا، في أبسط توصيف، سماح السلطة بتطبيق القانون دون تدخّل سلبي منها، وذلك انطلاقًا من فرضية أن الحكم القضائي في هكذا قضية هو وليد توجيه السلطة وهي التي وضعت يدها على القضاء لإنتاج وجدان قضاة الهيئة الحكمية، في ظلّ واقع القضاء الهشّ والفاقد أدنى ضمانات الاستقلالية.

يصعب من ناحية مبدئية تخمين أن الحكم في هذه القضية هو وليد اجتهاد قضائي مطلق ومحض. وفي مجمل هذا السياق، لا يمكن قراءة حكم البراءة بمنطق قانوني

يصعب من ناحية مبدئية تخمين أن الحكم في هذه القضية هو وليد اجتهاد قضائي مطلق ومحض. في مجمل هذا السياق، لا يمكن قراءة حكم البراءة بمنطق قانوني بحت وإن كان المأمول الاقتصار على التعليق على الحكم بهذا المنطق فقط في ظلّ قضاء مستقلّ.

التأمت جلسة المحاكمة بحضور حشد لافت للمحامين بدعوة من هيئة المحامين والفرع الجهوي للمحامين بتونس العاصمة. وهي الجلسة التي انعقدت بعد أسبوع واحد من بيان الهيئة الوطنية للمحامين بتونس الذي استخدم لهجةً خطابيةً غير مسبوقة في التصعيد ضد السلطة بخصوص واقع تردي الحريات ومسلسل استهداف المحامين مع التحذير من اعتماد وسائل نضالية تصل إلى عقد جلسة عامة خارقة للعادة. بيان بلغ مستوى الحدث السياسي الوطني، وجاء بعد ركون هيئة المحامين لما ظهر خطابًا خافتًا على النحو الذي يُعتبر غير متناسب مع اللحظة الحقوقية الحرجة، وغير متقاطع مع الدور الوطني المأمول الذي طالما تفتخر به المحاماة الرسمية.

 

  • السلطة وجّهت سهامها ضد المحامين في تونس

وقد ثبت أن المحاماة منذ زمن العميد السابق إبراهيم بودربالة، رئيس البرلمان الحالي، لم تحقّق أي مكاسب على المستوى المهني البحت. بل على العكس لم تتم دسترة المحاماة في دستور الرئيس، واٌقصيت من تركيبة المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية. بل وجّهت السلطة سهامها ضد المحامين عبر ملاحقات قضائية عديدة على خلفية ممارستهم لأعمالهم أو لممارستهم حرية التعبير.

وذلك دونًا عن التضييقات في أعمالهم وتقليص مجال حق الدفاع وآخرها اشتراط حضور محام واحد فقط مع الصحفي الموقوف محمد بوغلاب. بالإضافة إلى تجاوز مقترح قانون عدول الإشهاد الذي اُحيل للنقاش مؤخرًا على لجنة التشريع العام وهو مقترح يمسّ في العمق اختصاصات المحامين، وقد دعت هيئة المحامين للتجنّد بغاية إسقاطه.

وجّهت السلطة في تونس سهامها ضد المحامين عبر ملاحقات قضائية عديدة على خلفية ممارستهم لأعمالهم أو لممارستهم حرية التعبير، إضافة للتضييقات في أعمالهم وتقليص مجال حق الدفاع

في خضم ذلك وفي ظل تصاعد الاحتقان داخل المحاماة، انعقدت جلسة محاكمة عبد العزيز الصيد التي واكبها عميد المحامين ورئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس وعشرات المحامين الذين حضروا ليس فقط إنجادًا لزميلهم على النحو الذي أكدوه في مرافعاتهم، بل وقوفًا مع مهنتهم وضماناتها وطلبًا لتطبيق الفصل عدد 47 من مرسوم المحاماة الذي يحصّن أعمال المحامي من أي دعوى.

فتذكيرًا، اُحيل عبد العزيز الصيد على التحقيق ثم المجلس الجناحي، إثر مكتوب وجهته وزيرة العدل للوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بشأن تصريح الصيد، بوصفه منسق هيئة الدفاع في قضية "التآمر" في ندوة صحفية، مفاده تقديم شكاية ضد الوزيرة نفسها على خلفية وجود تدليس في ورقتين اثنتين من أوراق القضية. فتحوّلت الوزيرة، وهي رئيسة النيابة العمومية في الواقع الممارس، إذًا من مشتكى بها إلى شاكية، مع العلم أن الشكاية ضدها لازالت حتى الساعة لم تنظر فيها النيابة العمومية بما يعكس واقع عدم المساواة أمام القانون.

  • جسم المحاماة موحد وحاسم في مواجهة السلطة

لا ريب أن حكم البراءة هو انتصار للقانون وللمحاماة عبر تأكيد الحصانة الموضوعية لأعمال المحامي. وهو ما يميط اللثام على حقيقة أن الوزيرة لم تكن على حقّ مطلقًا في طلب إثارتها الدعوى الجزائية ضد منسق هيئة الدفاع الذي لم يمارس إلا حقه، مع بقية أعضاء الهيئة، في التشكي نيابة عن موكّليه وإعلان فحوى الشكاية للعموم.

تحشيد المحامين ساهم بشكل بيّن في إعادة الأمور لنصابها، وتحديدًا في إظهار جسم المحاماة موحدًا وحاسمًا في مواجهة السلطة بعد استباحة المهنة بغير وجه حقّ في ظلّ هجمتها المركّزة على حق الدفاع في المحاكمات السياسية.

وقفة المحامين كانت رسالةً مضمونة الوصول للسلطة وتحديدًا للوزارة، والتي يبدو أنها اختارت العودة خطوة للوراء، ولكن يصعب على السلطة توظيف الحكم للإيهام بأن القضاء مستقلّ

كانت وقفة المحامين بذلك رسالةً مضمونة الوصول للسلطة وتحديدًا للوزارة، والتي يبدو أنها اختارت العودة خطوة للوراء. ولكن يصعب على السلطة توظيف الحكم للإيهام بأن القضاء مستقلّ، فحكم البراءة هو استحقاق لا فضل من السلطة، وهو لا ينفي واقع سيطرتها على القضاء وتوجيهها في المحاكمات السياسية. فخلال جلسة المرافعات في محاكمة الصيد، أصدرت الوزيرة مذكرة عمل بإعفاء وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس على نحو يعزّز أن الوزيرة هي من تسود سلطتها في هندسة القضاء.

  • حكم البراءة هو هزيمة لوزيرة العدل

حكم البراءة بالنهاية هو هزيمة لوزيرة العدل، ولكن يصعب تخمين أنها خارج إرادتها أي أنها هزيمة مختارة لتفادي هزيمة أشدّ. حكم بالبراءة، في قضية أثارتها الوزيرة بنفسها، يظلّ أقل كلفة من إصرار الوزيرة على غيّها بما يعني مواصلة التصعيد مع جسم المحاماة برمّته في السياقات الحالية.

حكم البراءة بالنهاية هو هزيمة لوزيرة العدل، ولكن يصعب تخمين أنها خارج إرادتها أي أنها هزيمة مختارة لتفادي هزيمة أشدّ

قرار المحكمة كان يُنظر إليه، منذ البداية، بأنه سيمثّل ردّ الوزيرة على بيان الهيئة: إما العودة للجادة وتفادي التصعيد وإما مواصلة الهروب للأمام وتحمّل كلفة التصعيد. فشل التتبع ضد الصيد في ترهيب المحامين بل على العكس مثل فرصة لمزيد تكثيف الوعي في صفوفهم حول استهدافهم، كما مثلت المحاكمة مناسبةً لرسم محطة نضالية جديدة للمحاماة.

السلطة السياسية دائمًا ما تقودها حسابات الربح والخسارة، والوزيرة بالخصوص يبدو أنها معنية، في الوقت الحاضر، بتخفيف جبهة مواجهة المحامين الذين طالما مثلوا تاريخيًا عنوان تصدّي للسلطة زمن الاستبداد.

وفي خضم سنة انتخابية بالخصوص، تقتضي حسابات السلطة تقليص دائرة الخصوم لا توسيعها، وتفادي المواجهات لا فتحها.

السلطة السياسية دائمًا ما تقودها حسابات الربح والخسارة، والوزيرة بالخصوص يبدو أنها معنية، في الوقت الحاضر، بتخفيف جبهة مواجهة المحامين، خاصة في خضم سنة انتخابية

وهذا الحكم، في الأثناء، هو رسالة للمحاماة الرسمية لاتخاذ المواقف الحاسمة والجادّة ضد السلطة باعتبارها هي لوحدها التي تضمن التصدي الناجع لسياسة التغوّل والاستباحة، إذ أن المهادنة لا تحقق المكاسب بل على العكس. فقد أثبت التاريخ القريب، أنها تيسّر مهمّة الحاكم في الانقضاض. فقدر المحاماة أن تسمع صوتها بقوّة وحسم. عسى بالنهاية أن تأخذ السلطة العبرة وأن تكفّ على مسلسل الملاحقات القضائية الكيدية ضد المحامين في المحاكمات السياسية. فمن عدم الحكمة دائمًا التورّط في استهداف أصحاب "الروب" الأسود وتجييشهم في القضايا العادلة ضدها.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"