26-يناير-2020

دعوات متصاعدة لتعديل الدستور باتجاه توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية (صورة توضيحية/ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

عرفت تونس خلال فترة صياغة دستور ما بعد الثورة نقاشات معمقة، بالخصوص داخل المجلس الوطني التأسيسي، حول طبيعة النظام السياسي الواجب اعتماده، ودامت هذه النقاشات ثلاث سنوات انتهت بتبني نظام برلماني معدل يسميه البعض أيضًا بالنظام النصف أو شبه البرلماني، منح مجلس نواب الشعب صلاحيات التشريع والرقابة ومنح الثقة للحكومة وسحبها منها والرقابة على عملها، وأسند لرئاسة الحكومة جلّ الصلاحيات التنفيذية، في حين يختص رئيس الجمهورية باختصاص حصري في 3 مجالات فقط هي الدفاع والأمن القومي والعلاقات الخارجية.

أثار تبني النظام السياسي الحالي مواقف متعددة بين من يرى أنه يؤمن توزيع السلطات على جهات متعددة ما يحول دون الاستفراد بالسلطة وبين من يقدّر أنه سبب الفشل في الإدارة الناجعة البلاد

وأثار تبني هذا النظام السياسي مواقف متعددة، بين من يرى أنه يؤمن توزيع السلطات على جهات متعددة ما يحول دون الاستفراد بالسلطة وعودة الاستبداد، وبين من يقدّر أنه نظام يشتّت السلطة وأنه سبب الفشل في الإدارة الناجعة البلاد طيلة السنوات الأخيرة.

وقد طُرحت مسألة تغيير النظام السياسي منذ 2016 خاصة في ظل انتقادات الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي له، وعاد هذا الجدل ليطفو على السطح مجددًا اليوم وسط الدعوة لتعديل النظام السياسي وإرساء نظام رئاسي خاصة في ظل الأداء المهتزّ للبرلمان وتشتت تركيبته بما يحول دون الاستقرار السياسي في البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: هل يجب تغيير نظام الحكم في تونس؟

تغيير النظام السياسي.. مطلب متجدد

الدعوة من أجل تغيير الدستور باتجاه إعطاء صلاحيات إضافية لرئيس الجمهورية ليست مستجدّة، إذ سبق وأعلن رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي أنه لن يعارض أي مبادرة لتعديل النظام السياسي من النظام البرلماني المعدّل إلى النظام الرئاسي المعدّل بما يزيد في صلاحيات رئيس الجمهورية.

دعوة رئيس الجمهورية وقتها اتضحت أكثر في خطاب ألقاه في قصر قرطاج في مارس/آذار 2019 بمناسبة عيد الاستقلال، حينما تحدث عما أسماه "اختلاف في تأويل" بعض فصول الدستور مشيرًا إلى أنّ لديه نسخة جاهزة لمقترحات التعديل الدستوري. وكان قد وجه السبسي رسالة إلى البرلمان منتقدًا بطء عمله.

الدعوة من أجل تغيير الدستور باتجاه إعطاء صلاحيات إضافية لرئيس الجمهورية ليست مستجدّة، إذ سبق وأعلن رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي أنه لن يعارض أي مبادرة لتعديل النظام السياسي

حديث السبسي عن دعمه لتغيير النظام السياسي، وقوله إن الشعب التونسي يفضل النظام الرئاسي، لم يكن الأول من نوعه في الساحة السياسية، إذ سبقه المستشار السياسي السابق لرئيس حركة النهضة لطفي زيتون الذي أكد أنّ البلاد تحتاج لأن تخرج مما أسماه "نظام الشبه - شبه" داعيًا إلى ضرورة إجراء تعديل دستوري، يتم بمقتضاه توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية. 

وانضم رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي لقائمة الداعين لتغيير النظام السياسي، إذ أكد في تدوينة على حسابه على فيسبوك في سبتمبر/أيلول 2018 أن "هذا النظام المزدوج الذي يوزّع السلطة التنفيذية بين شخصين وإن يحمي حقًا من الاستبداد فهو محمّل بهشاشة لم يقدّر خطورتها إلا بممارسة السلطة"، وأوضح أنه في ظلّ هذا النظام لا بدّ من توافق بين رأسي السلطة التنفيذية وإلا فإنه صراع لا ينتهي والضحية الدولة ومصالح الشعب، وفق تعبيره.

غير أن الدعوات الدائمة لتعديل النظام السياسي كان غير قابلة للتفعيل لسبب إجرائي، فإن كان ينص الفصل 143 من الدستور على أنّ لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء البرلمان حق المبادرة باقتراح تعديل الدستور ولمبادرة رئيس الجمهورية أولوية النظر، فإن تفعيل هذه المبادرة متوقف على إرساء المحكمة الدستورية، التي لم تتشكل بعد، وهي التي يوكل إليها الدستور مراقبة مسار عملية التعديل.

نظام "هجين" لا يحقق الاستقرار السياسي؟

يعتبر قياديو أحزاب ومتابعون أن النظام السياسي المعتمد هو من الأسباب الأساسية لأزمة إدارة البلاد، إذ سبق للقيادي في حركة النهضة لطفي زيتون، على وجه الخصوص، إن اعتبر منذ 2016 أن النظام المعتمد  هو "هجين لا يقوم على تعريف دقيق" وأنه السبب في حالة من الشلل العام بمؤسسات الدولة وعطل مشاريع القوانين ونسق الاستثمار، وفق قوله.

واعتبر أن الفصل 89 من الدستور يتنقل بين فقراته من نظام برلماني إلى نظام رئاسوي وفق قوله، عندما ينصّ على اختيار رئيس الحكومة من الحزب الأول ثم اختيار إلى رئيس الجمهورية بمنحه الصلاحية المطلقة لتقدير من هو أقدر لتولي رئاسة الحكومة.

لطفي زيتون لـ"ألترا تونس": التفاوت الفادح في حجم البنى الحزبية أدى إلى إنتاج نظام هجين ليس بالرئاسي ولا بالبرلماني 

في حديثه لـ"ألترا تونس"، يقول زيتون إنه من الخطأ الاعتقاد أنّ النظام السياسي في تونس هو نظام برلماني معتبرًا أن التدافع بين النخب السياسية بعد الثورة خاصة بعد التفاوت الفادح في حجم البنى الحزبية أدى إلى إنتاج نظام هجين ليس بالرئاسي ولا بالبرلماني سماه البعض بالنظام المجلسي، مؤكدًا أنه لم يقرأ الفاعلون السياسيون ثغرات هذا النظام حين اعتماده وفق قوله.

اقرأ/ي أيضًا: التوتّر الدائم بين الغنوشي وموسي.. أكثر من خلاف سياسي؟

وأضاف محدثنا أن الانتخابات الرئاسية التي تقام على مرحلتين بالاقتراع المباشر تعطي انطباعًا لدى عامة الناس أنّ رئاسة الجمهورية هي رأس النظام السياسي لتتصاعد انتظارات الشعب منها بينما الواقع والدستور هما غير ذلك.

على صعيد آخر، تحدث عن وجود رفض للخوض في المسألة "بتعلّة أنّه لم تمضي فترة على كتابة الدستور والبعض يرى أنّ الدستور جيّد لا يحتاج إلى تغيير" مؤكدًا أن هذا "النظام الهجين أنتج وضعًا أشبه ما يكون بوضع الجمهورية الفرنسية الرابعة، التي شهدت 21 حكومة من 1948 إلى 1958، أي بمعدل حكومة كل ستة أشهر.

وقال إن "تونس ظلت في وضعية -الشبه شبه- مع تتالي الحكومات الائتلافية العاجزة إضافة إلى عجز البرلمان عن تركيز المحكمة الدستورية التي لم ترى النور إلى الآن" معتبرًا أن الفترة السابقة، خلال مرض رئيس الجمهورية الراحل قبيل وفاته، بينت خطورة غياب هذه المؤسسة التي وصفها أنها العمود الفقري في النظام السياسي ومن دونها لا يمكن تعديل هذا النظام.

في نفس الإطار، دعا رضا شهاب المكي، المعروف بـ"رضا لينين"، وهو أحد أبرز وجوه الحملة الانتخابية لرئيس الجمهورية قيس سعيّد، في حسابه على فيسبوك مؤخرًا رئيس الدولة لتغيير النظام السياسي قائلًا "نحن إزاء موزاييك حزبي غير قادر على تكوين حتى لجنة فما بالك بحكومة؟ فشل يكرر نفسه منذ 2011 وأبناء شعبنا هم من يدفعون الثمن في كل مرة" مضيفًا "الرئيس قيس سعيد أنت أمام واجب تاريخي فالمرحلة لم تعد تتحمل.. من واجب رئيس الجمهورية استفتاء الشعب لتغيير نظام الحكم في تونس".

رضا شهاب المكي: المشروع الحقيقي هو التأسيس لسلطة محلية حقيقية تنبثق عنها سلطة تشريعية

كما سبق وصرّح أنّ النظام السياسي في تونس "فاشل ولا حل فيه" مؤكدًا أن المشروع الحقيقي هو التأسيس لسلطة محلية حقيقية تنبثق عنها سلطة تشريعية. وأضاف، في هذا الجانب خلال ندوة بعنوان "دستور الجمهورية الثانية.. تحت المجهر" نظمتها مؤسسة قرطاج لصناع التغيير بمناسبة مرور 6 سنوات على المصادقة على الدستور نهاية جانفي/كانون الثاني 2020، أنّ هذا الدستور خصص بابًا كاملًا تناول فيه مسألة السلطة المحلية "وفي ذلك دلالات كبيرة منها الرغبة في الانتقال من السلطة المركزية المكثفة إلى سلطة مركزية محلية تتقاسم المهام مع الجماعات المحلية "لأنّ الشاغل الكبير للشعب هو الحل الاقتصادي والاجتماعي ومقاومة الفقر".

وقال إنه لا يكفي أن يكون لنا نظام انتخابي أو انتخاب حرّ في مستوى انتخاب الهيئات المركزية للسلطة، ولا يمكن الاكتفاء بديمقراطية سياسية داخل المركز لأنّها لم تحقق أي شيء، وفق تأكيده.

على صعيد آخر، أشار إلى وجود رغبة في الاعتراف بحق البلديات والجهات والاقاليم في التنظم الذاتي وإدارة الشأن العام بإخراج عملية الانتخاب من مركز السلطة، أي قرطاج وباردو والقصبة، إلى الجهات وذلك ليس فقط لتقريب الإدارة، مؤكدًا أن المحليات تحتاج لإنشاء هيئاتها الخاصة المنتخبة وهذا أصبح مطلبًا ودعوة عامة وفق قوله.

وأكد أن هذا التوجه "أصبح ليس حلًا للرفاه بل حلًا للخروج من الأزمة ولتفادي مخاطر انتكاس الثورة ورغبة في الاعتراف بحق البلديات وتطوير الحكم الديمقراطي نحو الأسلوب التشاركي لإدارة الشأن العام".

المشكل ليس في النظام السياسي؟

في المقابل، يرى فريق آخر أنه من التعسف تحميل النظام السياسي المعتمد مسؤولية عدم الإدارة الناجعة للبلاد، باعتبار أنه لم يتم بعد إتمام البناء الدستوري وبالخصوص إنشاء المحكمة الدستورية، وعليه من المبكّر جدًا الدعوات لتعديل الدستور لاعتماد نظام سياسي يميل أكثر لمنح الصلاحيات لرئاسة الجمهورية.

اقرأ/ي أيضًا: السياحة الحزبية.. مواقف حربائيّة وقنّاصة جدد

كما يؤكد هذا الفريق أن النظام الحالي، الذي يقوم على توزيع الصلاحيات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية أولًا وداخل السلطة التنفيذية ثانيًا، يضمن توزيع السلطات وعدم استفراد أي جهة بالصلاحيات وهو ما يساهم في ضمان التشاركية في القرار في مرحلة انتقال ديمقراطي وضمان عدم العودة لبراثن الاستبداد أيضًا.

ويشير هذا الرأي كذلك أنه على الأحزاب السياسية التأقلم مع النظام الحالي، وأن عدم تناسبه مع رغبات بعض الأحزاب لا يجب أن يؤدي إلى تغيير النظام بحد ذاته، إضافة وأن اعتبار أن البلد لا يُدار إلا بنظام رئاسي هو قول يحمل إجحافًا، باعتبار أن الاستقرار السياسي لا يتحقق بنوعية النظام المعتمد بل بقدرة الفاعلين الحزبيين على حسن إدارة اختلافاتهم في مؤسسات الدولة. كما يؤكد هذا الموقف على أن ضعف أداء المؤسسة البرلمانية بسبب تشتتها وعدم القدرة على فرز أغلبية واضحة سببه النظام الانتخابي وليس النظام السياسي.

ماهي صلاحيات رئيس الجمهورية؟

ويتولّى رئيس الجمهورية، حسب الدستور، الاختصاص الحصري في ضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة.

وهو يتولى القيادة العليا للقوات المسلحة، ورئاسة مجلس الأمن القومي، وإعلان الحرب وإبرام السلم بعد موافقة مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه، وإرسال قوات إلى الخارج بموافقة رئيسيْ مجلس نواب الشعب والحكومة. وله أن يتخذ التدابير التي تحتّمها الحالة الاستثنائية أي في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها تعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة.

يؤكد الفريق أن النظام الحالي يضمن توزيع السلطات وعدم استفراد أي جهة بالصلاحيات وهو ما يساهم في ضمان التشاركية في القرار في مرحلة انتقال ديمقراطي وضمان عدم العودة لبراثن الاستبداد أيضًا

وهو يصادق على المعاهدات والإذن بنشرها، ويسند الأوسمة، والعفو الخاص، وله أن يحلّ مجلس نواب الشعب في الحالات التي ينصّ عليها الدستور. ويتمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات في علاقته مع السلطة التشريعية وذلك من خلال حق المبادرة التشريعية التي تتمتع بالأولوية، وحق رد مشاريع القوانين المصادق عليها، والعرض على الاستفتاء مشاريعَ القوانين المتعلقة بالموافقة على المعاهدات، أو بالحريات وحقوق الإنسان، أو بالأحوال الشخصية، والمصادق عليها من قبل مجلس نواب الشعب.

وعلى مستوى التعيينات، يتولى رئيس الجمهورية تعيين مفتي الجمهورية، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة، إضافة لتعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تنقيح النظام الانتخابي... أي نظام أنسب لتونس؟ (2/1)

تنقيح النظام الانتخابي... أي نظام أنسب لتونس؟ (2/2)