04-نوفمبر-2019

ابتدع التونسيون إضافات معجمية طريفة على وقع صعود رئيس الجمهورية الجديد قيس سعيّد (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

ما إن أعرب قيس سعيّد عن رغبته في الترشّح للرئاسة حتى غيّر "الهاديّ" أحد التجّار بولاية بن عروس تحيتّه لزبائنه والمارّة، إذ كان يلقاهم بحفاوة استثنائيّة قائلًا "صْباحكم سْعَيِّدْ"، وكان حريصًا في نطقه على تشديد صوت الياء وكسره، ولم يكن المقبلون على هذا التاجر البشوش في حاجة إلى تفسير مقصده، فالرسالة واضحة والإيحاءات بيّنة. فالرجل منخرط تلقائيًا في حملة دعائيّة لفائدة  الأستاذ"، غير أنّ هذه الحملة بدت قائمة على الإيجاز والتلميح، إذ حمّل "الهادي" التحيّة الصباحيّة دلالات الفرح والانشراح ووصلها وصلًا مجازيًا ذكيًا بلقب أحد المرشّحين للانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها.

 تخطّى أثر قيس سعيّد الشأن السياسيّ ليساهم في إحداث بعض الإضافات المعجميّة التي قامت على النحت والاشتقاق وغيرها من التقنيات اللغويّة والنحويّة والبلاغيّة والأدبيّة

إفراغ العبارات من معانيها التقليديّة السائدة المتواترة وشحنها بدلالات سياسيّة جديدة لم يقتصر على تحيّة الصباح "صباحك سعيّد" التي زاحمت عبارة " نهارك زين" زحامًا يردّد صدى التدافع بين منظومتين، الأولى قديمة بدأت تتآكل والثانية جديدة تشقّ طريقها إلى المؤسسات والأذهان والأذواق والثقافة عامّة.

هذه العيّنة السلوكيّة تحثّ على مزيد التعمّق في بعض الطرائف والمنحوتات اللغويّة التي تزامن ظهورها مع رحلة قيس سعيّد من المنيهلة (مقرّ منزله العائلي) إلى قصر قرطاج.

اقرأ/ي أيضًا: هل أعاد النّصر السّاحق لقيس سعيّد النفس الثوري للتونسيين؟

"قيســ..بوك" والهيمنة على الفضاء الافتراضي

لئن وجد بعض المترشّحين للرئاسة دعمًا مكشوفًا معلنًا من قبل بعض القنوات التلفزيّة، ولئن حظي آخرون بمساندة خفيّة من قبل أجهزة الدولة وعدد من المنظّمات، فقد وجد قيس سعيّد تأييدًا لافتًا في الفضاء الافتراضي. إذ تكاثرت الصفحات المنسوبة إلى هذا المترشّح، وتناسلت حتّى باتت تستقطب مئات الآلاف من المعجبين والمتفاعلين، وتفوّقت هذا المراكز الافتراضيّة على سائر المصادر الإعلاميّة، وتحوّلت إلى ما يشبه خليّة النحل التي لا يكفّ زوّارها عن تسجيل الزيارات والملاحظات والاقتراحات والمبادرات.

وجد قيس سعيّد تأييدًا لافتًا في الفضاء الافتراضي (فيسبوك)

 

بصرف النظر إن كانت هذه الظاهرة تلقائيّة أو مدروسة، فقد أثمرت هيمنة لقيس سعيّد على صفحات فيسبوك ومجموعاته وحساباته، هذه الهيمنة بلغت ذروتها ممّا حوّل فيسبوك في تونس إلى ما يشبه المنصّة المهيأة خصّيصًا لقيّس سعيد، من هنا استحدث أحد المتابعين لفظًا منحوتًا من مفردتي "فيسبوك" و "قيس" فانتهى إلى كلمة "قيسبوك".

النحت في اللغة العربيّة كما يعرّفه جلّ النحاة والمعجميين هو "انتزاع أصوات من كلمتين أو أكثر أو من جملة للدلالة على معنى مركّب من الأصول التي انتزعت منها". ولا نظنّ كلمة "قيسبوك" قد خضعت إلى البحث اللغويّ المعمّق، ولئن نهضت بما ينهض به النحت المعجميّ من اختصار وتطويع اللغة إلى التطوّرات الاجتماعيّة والثقافيّة فإنّ عمر هذه الكلمة يبدو قصير قصر ملابسات نشأتها، فقد نشأت في حيّز سياسيّ محدّد هو الدعاية الانتخابيّة وقد تنتهي بنهاية تلك الموجة.

جهوريّة الصوت وملمح الروبوت..

تواترَ ظهور قيس سعيّد بُعيد الثورة في القناة الوطنيّة الأولى ورغم أنّ المشهد الاجتماعيّ والأمنيّ والاجتماعيّ كان آنذاك حافلًا بما يشدّ الناس، فقد تمكّن أستاذ القانون الدستوري من خلال إطلالاته في نشرات الأخبار من إثارة انتباه جلّ التونسيين، فبدت المواقف من هذا الرجل مختلفة متباينة جمعت بين الإعجاب والدهشة والسخرية أحيانًا.

 فقد بدا قيس سعيّد مستقيم الجلسة ثابت الجسد لا تكاد تتحرّك من أعضائه أمام الكاميرا غير لسانه وشفتيه، صوته صارم جهوريّ قويّ أحمس لا يشوبه خفوت ولا تتخلله رخاوة، لغته فصيحة مشدودة إلى الموروث اللغويّ القديم لا تخالطها العاميّة، ولا تشوبها العكاكيز اللغويّة من قبيل تلك المفردات والعبارات الجاهزة التي يكرّرها السياسيون ويعتمدونها لأغراض متنوّعة منها التقاط فسحة وجيزة للتذكّر وتنظيم الأفكار. لم يكن قيس سعيّد في حاجة إلى تلك الحيل الشفويّة، إذ تتدافع في خطابه التحاليل والمصطلحات والأمثلة تدافعًا يوحي بأنّ الرجل يعرض نصًا مكتوبًا لم يغفل صاحبه عن مراجعته وتدقيقه ووضع نقاطه وفواصله، فخلا من الثرثرة والزوائد والفضليات والاستطرادات.

أنصار قيس سعيّد لم يكن يحرجهم نعت مرشّحهم بـ"الروبوت" بل استثمروا ذلك في مشاهد كرتونيّة دعائيّة صوّروا فيها رئيسهم المنشود وقد أطاح بخصومه بضربات سريعة نافذة قاسمة

اقرأ/ي أيضًا: الشباب وقيس سعيّد.. حينما يقول الشباب كلمته تحدث المفاجأة!

هذه الخصال التواصليّة المتفرّدة " الميكانيكيّة" جعلت البعض يشبّه قيس سعيّد ببعض الشخصيّات الكرتونيّة وينعته بالإنسان الآليّ والكائن الفضائيّ و"الروبو" أو "الروبوت". وبصرف النظر إن كان المقصد مدحيًا أو هجائيًا، فقد شحن هذا التوصيف بدلالات مخصوصة منها الدقّة والصلابة والوضوح والصفاء، والاستثناء، وبدا الموصوف سالمًا من هنات عمّت المنابر السياسيّة منها المواقف الانفعاليّة الهوجاء والسلوكات الطائشة الرعناء والمداخلات المتهافتة الخرقاء.

بأضدادها تُعرف الأشياء وتبرز، هذه القاعدة الفيزيائيّة والفلسفيّة والجماليّة ساهمت في الصعود بالمترشّح " الروبوت" صعودًا صاروخيًا لمّا دخل في سباق انتخابيّ مع شخصيات سياسيّة ضمّت الجاهل والمتحيّل و"البلعوط"، حاشا عددا من الجادّين والحكماء والشرفاء.

أنصار قيس سعيّد لم يكن يحرجهم نعت مرشّحهم بـ"الروبوت" بل استثمروا ذلك في مشاهد كرتونيّة دعائيّة صوّروا فيها رئيسهم المنشود وقد أطاح بخصومه بضربات سريعة نافذة قاسمة كشفت عن تفوّق تشكّل فنيّا وتجسّم واقعيًّا من خلال فوز في الانتخابات الرئاسيّة بنسبة فاقت 72 في المائة.

مقطع كرتوني للمرشحين الدور الثاني للرئاسيات قيس سعيّد ونبيل القروي

 

حافظ قيس سعيّد على تلك الملامح في كلّ المناسبات والسياقات بمختلف مقاماتها وألوانها حتّى تأكّد التونسيون واقتنع غالبيّتهم أن سلوكه الذي ميزه في المنابر الإخباريّة والتحليليّة لم يكن قائمًا على التكلّف والتصنّع، وبلغت هذه القناعة درجة اليقين حينما أريد الإيقاع بهذا "الرجل الوقور" في موقف حرج ساخر في إحدى حلقات الكاميرا الخفية عنوانها "الزلزال". إذ لم يصبه الهلع والفزع وظلّ متماسكا حركةً وإيماءة وتعبيرًا، وتمكّن مساندوه مرّة أخرى من توظيف هذه الحادثة في تقييم انتصاره على المنظومة القديمة، فاعتبروا النتيجة النهائيّة زلزالًا سياسيًا حقيقيّا سيكون له أثر بعيد المدى ثقافيًا وفكريًا وأخلاقيًا.

مشاركة قيس سعيّد في الكاميرا الخفية "الزالزال" عام 2013

 

تزايد الولع بقيس سعيّد حتّى تحوّل إلى ظاهرة ما انفكّت تُشحن بدلالات جمعت بين العمق والغرابة والطرافة، فظهرت عبارات ومصطلحات عدلت عن معانيها الأصليّة، فمصطلح "نظام قيس" لم يعد دالّا عل تلك المادّة العلميّة التي يدرسها تلامذة الابتدائيّ، إنّما باتت عبارة محيلة إلى القانون الصارم الذي يدعو سعيّد إلى الالتزام به وتطبيقه على الجميع دون محاباة أو استثناءات.

 

كتبت معلمة في كرّاس القسم "نظام قيس" في إشارة لرئيس الجمهورية الجديد قيس سعيّد

 

وتفاعلًا مع هذا السّجل اللغويّ الجديد كتبت إحدى المعلمات في كرّاس القسم "اليوم حصّة نظام قيس" فأحدثت بذلك ضربًا من التداخل والتضافر أو قل التناصّ بين مقامين الأوّل تعليمي والثاني سياسيّ، ولم يفوّت أنصار قيس سعيّد التزامن بين يوم الانتخابات واليوم العالمي للوقاية من الكوارث الطبيعيّة دون التنبيه إلى أنّ "كنس السيستام القديم" يندرج ضمن هذا الضرب من الوقاية مشبهين فوز منافسهم بما يمكن أن تخلّفه الفيضانات والبراكين وغيرها من الكوارث.

صادف يوم فوز قيس سعيّد بالانتخابات الرئاسية اليوم العالمي للوقاية من الكوارث الطبيعية

 

ويبلغ هذا التفاعل بين النصوص والمقامات مبلغًا فنيًا شديد التعقيد حينما يعبّر أحدهم عن مشهد دخول قيس سعيد قصر قرطاج قائلًا "قدَرُ قيس وليلى أن لا يلتقيا" هذا النصّ الموغل في الإيجاز اجتمعت فيه حكايتان مختلفتان متباينتان الأولى اتّصلت بقصّة قيس الذي عشق ليلى في القرن الأوّل للهجرة، فعانى الهجر والحرمان ولم ينعم بوصلها، والثانية ارتبطت بليلى الطرابلسي زوجة الرئيس السابق زين العابدين بن علي التي أرغمت هي وعائلتها على الفرار من القصر قبل أن يبلغه قيس سعيّد بعد تسع سنوات، اعتبار الحبّ خطيئة منع العشيقين قيس وليلى من الوصال في القرن السابع الميلاديّ والصراع بين الفساد والثورة باعدًا بين "ليلى النظام القديم" وقيس النظام الديمقراطي الراهن.

دولة الإخشيدي وساحات "قيس قزح"

سألـت تلميذة من شعبة الرياضيات أستاذ العربيّة من يكون "الإخشيديّ" الذي تحدّث عنه قيس سعيّد، فأجابها في عجالة هو حاكم مصري عاش خلال القرن الرابع للهجرة كانت له صلة بالمتنبيّ بدأت مدحاً مشفوعًا بوعود لم تثمر عطاء، فخلّف ذلك عداءً وهجاءً.

لم تكن قصّة أبو مسك كافور الإخشيديّ مع المتنبيّ تحضر إلّا في بعض المجالس النقديّة الأدبيّة أو في درس شعبة الآداب في السنة الرابعة من التعليم الثانوي، لكن بعد أوّل مناظرة رئاسيّة تحوّلت كلمة الإخشيديّ إلى واحدة من أكثر الألفاظ سريانًا على الألسن في جلّ الفضاءات العلميّة والاجتماعيّة الواقعيّة والاقتراضيّة.

تنوّعت وجوه توظيف كلمة "الإخشيديّ"، فأصبحت عند البعض كناية عن قيس سعيّد ، بعد ذلك عدلت الكلمة عن مرجعها الأصليّ لتفيد معاني شتّى منها القوّة والمحاسبة والتصدّي للفساد، فتمّ ابتكار الفعل "أخشد"

استعمل سعيّد هذه الكلمة في قوله "لا نريد أن تكون وعودنا شبيهة بوعود كافور الإخشيديّ للمتنبّي" وقد انتقد من خلال هذه العبارة إمعان السياسيين في إيهام المواطنين من خلال عهود كاذبة غالبًا ما يتمّ نقضها، تناسلت عن هذه العبارة تعليقات عديدة من أطرفها القول إنّ قيس سعيّد قد أهان بقيّة المتناظرين بأسلوب أدبيّ دون أن يطلبوا حقّ الردّ لعجزهم عن فهم هذا الضرب من النقد والتجريح الخفيّ.

بعد ذلك تنوّعت وجوه توظيف كلمة "الإخشيديّ"، فأصبحت عند البعض كناية عن قيس سعيّد ، بعد ذلك عدلت الكلمة عن مرجعها الأصليّ لتفيد معاني شتّى منها القوّة والمحاسبة والتصدّي للفساد، فتمّ ابتكار الفعل "أخشد" واستعماله في سياق التعليق على إقالة وزيري الدفاع والخارجيّة بعبارات من قبيل "أخشدهم قيس"، ثمّ اتّسع استعمال الكلمة من خلال صفحات زيّنت واجهتها على فيسبوك بصورة الرئيس المنتخب منها "الإخشيديون" و"كافور الإخشيدي" و"الدولة الإخشيديّة العظيمة".

تمكّنت هذه الصفحات في أيّام قليلة من شدّ الآلاف من المتابعين والمعجبين، وبصرف النظر عن رجاحة مضامينها فقد كشفت عن دور خطاب قيس سعيّد في تحويل بعض المفردات إلى ظواهر لغويّة وسلوكيّة وتواصليّة.

ولئن بدت هذه النماذج وغيرها أقرب إلى تمجيد الرئيس والاعتزاز به فإنّ عددًا من النحوت المعجميّة قامت على السخرية والاستخفاف، نذكر منها على سبيل المثال كلمة "قيس قزح" التي استعملها عدد من الناشطين على الفايسبوك تهكمًا واستهزاء من أنصار قيس سعيّد الذين تزعّموا حملة نظافة وتزيين لبعض الواجهات، فلم يُوفقوا في تخيّر الألوان، فشبهها خصومهم بقوس قزح ثمّ تمّ استبدال الكلمة الأولى من هذا المركّب الإضافيّ باسم الرئيس فكانت عبارة "قيس قزح".

تنهض اللغة في تطوّرها المعجميّ بوظيفة توثيقيّة لبعض الأحداث العابرة فكلّ كلمة من النماذج المذكورة تحيل رأسًا إلى سياق مخصوص

ويمكن الاهتداء من خلال هذا العرض إلى ثلاثة استنتاجات الأوّل مفاده أنّ أثر قيس سعيّد قد تخطّى الشأن السياسيّ ليساهم في إحداث بعض الإضافات المعجميّة التي قامت على النحت والاشتقاق وغيرها من التقنيات اللغويّة والنحويّة والبلاغيّة والأدبيّة، وقد بدت هذه " التخريجات" في الغالب بسيطة عفويّة لكنّ أثرها الآنيّ كان واسعًا قويًا.

فيما يتصل الثاني بالتحقّق من أنّ اللغة في تطوّرها المعجميّ تنهض بوظيفة توثيقيّة لبعض الأحداث والملابسات العابرة، فكلّ كلمة أو عبارة من النماذج المذكورة تحيل رأسًا إلى سياق مخصوص.

ويرتبط الاستنتاج الثالث بما يتّصف به التونسيون من مهارة في تحويل المشهد السياسيّ إلى نصوص طريفة ساخرة، ذلك أنّ المجالات الجادّة دينيّة كانت أو سياسيّة أو اجتماعيّة كانت وما تزال تعدّ من أكثر المقامات التي تنبت في تربتها الصلبة فنون الإضحاك والفكاهة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من القفة إلى الملوخيّة ...المطابخ التونسية بنكهة سياسية

لطفي العبدلي.. فنّان المواقف الثوريّة والدعاية الانتخابيّة