30-نوفمبر-2023
مروان المبروك الأملاك المصادرة الصلح الجزائي

الخيار واضح، إمّا الانخراط في "الصلح الجزائي" وبالتالي في المسار السياسي العام للرئيس أو مواجهة السجن والأهم المصادرة (صورة لمروان المبروك)

مقال رأي 

 

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ أسبوع في خطاب طويل مع مجموعة ثانية من وزرائه أنّ "منصة الصواريخ" جاهزة مجددًا. أصبح الآن من المعتاد أن استعمال هذه الجملة يعني أنّنا إزاء إعلان وشيك عن إجراء راديكالي ما. الخطاب تناول ثلاث نقاط "الصلح الجزائي" والقضاء والجمعيات. لكنّ الجملة إياها استعملت تحديدًا في سياق الحديث عن رجال الأعمال المعنيين بـ"الصلح الجزائي"، وبالخصوص ما اعتبره مماطلة منهم للتجاوب مع "الصلح" بل استهزائهم به. 

واضحٌ أنّ الرئيس غاضبٌ من مدى تعاون عدد من رجال الأعمال مع "الصلح" وأنّ "الصواريخ" التي سيتم إطلاقها ستشمل هؤلاء وغيرهم من هذه الفئة، فأيّ "صواريخ" يجب أن نتوقع في هذا الشأن؟

مسار "المحاسبة" في تونس متعثر ولم يبلغ أهدافه حتى الآن، ولعل أبرز مثال لتتبع هذا التعثر هو مثال "عائلة المبروك" بما هي حالة نموذجية كإحدى أهم عائلات "اقتصاد الريع" قبل وبعد الثورة

يعتبر "الصلح الجزائي" المحاولة الثالثة في سياق طويل قام على أساس التشريع الثوري بداية من 2011 في محاسبة من تمت مصادرة أملاكهم ومن استفادوا من سياقات الفساد خاصة قبل الثورة.

الخطوة الأولى كانت "مرسوم المصادرة" (2011)، الثانية كانت "هيئة التحكيم والمصالحة" في إطار مسار العدالة الانتقالية الذي تم إرساؤه في إطار دستور 2014، وضمن إطار "هيئة الحقيقة والكرامة" (2014) والثالثة هي "الصلح الجزائي" في إطار مشروع طالب به الرئيس قيس سعيّد سنوات قبل وصوله للرئاسة، وأكد عليه بعد انتخابه وأصدره في إطار مرسوم بعد عام من توسّع صلاحياته بعد 25 جويلية/يوليو 2021 وضمن حزمة تشريعات مترابطة منها مرسوم "الشركات الأهلية" (2022). 

مسار "المحاسبة" هذا كان متعثرًا عمومًا ولم يبلغ أهدافه حتى الآن، ولعل أبرز مثال لتتبع هذا التعثر هو مثال "عائلة المبروك" بما هي حالة نموذجية تجمع صفة "عائلة الرئيس" ضمن "رأسمالية المحاباة/المحسوبية" (Crony Capitalism) (وتم تفصيل طبيعة هذا النظام في تقرير البنك الدولي سنة 2014 بذات العنوان)، وأيضًا كأحد أهم عائلات "اقتصاد الريع" قبل وبعد الثورة (سنفصل في ذلك أسفله)، وأيضًا كطرف استطاع ليس فقط التأقلم مع مرحلة "الانتقال الديمقراطي" بل أيضًا ترسيخ نفوذه بالرغم من محاولات المحاسبة أنفة الذكر. 

 

 

ولعل الرئيس يرى في هذه العائلة تحديدًا وتحديها لهذا المسار أحد الأطراف الرئيسية المعنية بالصواريخ خاصة بعد إيقاف أهمّ عنصر فيها من حيث الظهور، أي مروان المبروك (الإيقاف كان يوم "7 نوفمبر" بما يحمله التاريخ من رمزية لا أعتقد أنّها مجرد مصادفة) وإيداعه السجن، وهو الأمر الذي لم يحصل منذ الثورة، بما يعد تطورًا غير مسبوق، إذ أنّ الرجل ربما كان أقوى شخصية بلا منازع طيلة السنوات الماضية، وزعم حتى أنّه كان في نفس مستوى نفوذ، إن لم يكن أكثر، من قيادات الدولة من الصف الأول. 

وكما هو واضح فإن الإيقاف يتعلق بمسار "المحاسبة" إذ أعلن الناطق باسم المحكمة الابتدائية أنّ الإيقاف ناتج عن "شكاية مقدمة ضده من قبل المكلف العام بنزاعات الدولة وتتعلق بإحدى الأملاك المصادرة". 

لعل الرئيس يرى في عائلة "المبروك"، أحد الأطراف الرئيسية المعنية بـ"الصواريخ" خاصة بعد إيقاف مروان المبروك وإيداعه السجن، وهو الأمر الذي لم يحصل منذ الثورة، بما يعد تطورًا غير مسبوق، إذ أنّ الرجل ربما كان أقوى شخصية بلا منازع طيلة السنوات الماضية

النقطة الرئيسية التي يجب أن نفهم بها قدرة العائلة على "التأقلم" مع مرحلة ما بعد الثورة هي تفصيل صغير، لكن مفصلي، تم وضعه في مرسوم المصادرة (2011) من قبل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والذي سيمكنها من مواصلة التحوز على معظم أملاكها. إذ ورد في الفصل الأول (الفقرة الثانية): "لا تشمل المصادرة الأموال المنقولة والعقارية المكتسبة بوجه الإرث المنجر بعد 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 شرط أن يثبت الوارث ملكية المورث لها قبل هذا التاريخ وذلك في حدود ما تم التصريح به لدى إدارة الجباية". 

عبارة "وجه الإرث" يبدو أنه تمت إضافتها تحديدًا على مقاس عائلة المبروك. إذ من خلالها استطاعت تبرير أملاكها التي انتقلت إليها حتى بعد 1987 وخاصة بعد زواج مروان المبروك بابنة الرئيس بن علي سيرين. 

يجب هنا أن نتوقف عند سيرة مكثفة لعائلة ريعية نموذجية كنت تعرضت لبعض منها في مداخلة شفوية منشورة على موقع "الكتيبة"، وسأقوم هنا بمزيد تدقيقها ولو بشكل مكثف. كانت للعائلة المنحدرة من معقل نظام ما قبل 1987 (المنستير) أملاك قبل المصاهرة التي تمت بداية التسعينيات، وتتمثل في مؤسستين للصناعات الغذائية مختصتين في البسكويت والشوكولاتة ومؤسسة أخرى عقارية. وهنا مربط الفرس، إذ أنّ العائلة بررت في دفاعاتها القانونية أنّ أغلب الشراءات اللاحقة من المؤسسات الكبرى التي تم شراء مساهمات فيها (سنأتي إليها لاحقًا) تمت عبر مداخيل الأسهم من الشركات الموروثة، وهكذا تم تحييد أملاك العائلة التي تمت بعد المصاهرة من مرسوم المصادرة. 

 

 

لكن أعلمتني مصادر موثوقة منذ فترة بأنها اطّلعت على البيانات المالية للشركتين في الصناعات الغذائية على وجه الخصوص بداية التسعينيات وأنها كانت وقتها (أي قبيل المصاهرة) في حالة صعبة بل أن العائلة كان عليها أن تبيع أملاكًا عقارية تتبع مساحات مصانعها (في منطقة مقرين، ولاية بن عروس) لتستطيع تصويب البيانات المالية. وبالتالي لم تكن مداخيل "الورث" في وضعية جيدة تستطيع من خلالها العائلة شراء أسهم في مؤسسات كبيرة. 

ولعل أهمّ الشراءات الأولى التي تسمح بتضخم تدريجي لأملاك العائلة هي التي تمت في شركة أساسية لتوريد وبيع السيارات وهي شركة "Le Moteur" التي لديها الحق الحصري في جلب وبيع سيارات مهمة في السوق التونسية للطبقة المتوسطة (سيارات "فيات" الإيطالية) والطبقة الثرية (سيارات "المرسيدس" الألمانية). 

هذا تفصيل مهم للغاية إذ أنّ عملية التفويت في الشركة تمت في إطار ضغط السلطة آنذاك على الموزع السابق "مؤسسة العارم" وتم نقل الأسهم بمبلغ زهيد بتدخل سياسي نحو عائلة المبروك بالتحديد في السياق الزمني للمصاهرة بين بن علي والمبروك. 

تلاعبت عائلة المبروك بالطبقة السياسية في إطار تجديد نفوذ اقتصاد الريع وتشويه الانتقال الديمقراطي ولعل أهمّ محطة في هذا المسلسل هو أنّ سقوط حكومة إلياس الفخفاخ تم على خلفية فتحها ملف عائلة المبروك والأملاك المصادرة

كان ذلك بمثابة منح حنفية ماء ذهبية دائمة السيلان، وتظهر البيانات المالية وتوالي تضخم ثورة المبروك أنّ ذلك أصبح ممكنًا بالتحديد بعد شراء أسهم شركة توزيع السيارات هذه. 

وأهمّ تحول حصل في منتصف التسعينيات بشراء العائلة أول أسهمها في أهم مؤسسة لديها أي "البنك العربي الدولي" (BIAT)، ومن المعلوم أنّ مسار تغيير حصص الأسهم في هذه المؤسسة البنكية الخاصة وهي الأهمّ في القطاع تم في سياق تدخل سافر من السلطة بدءًا من إجبار مؤسسها منصور معلى على الاستقالة منتصف التسعينات، وهو ما فصل فيه الرجل في مذكراته الصادرة بعد الثورة. 

مسار تراكم الثورة في سياق المصاهرة سيصبح سالكًا جدًا بعدها، بتضخم أسهم العائلة التدريجي في المؤسسة البنكية ليصبح الحصة الأغلب (فوق 30٪) في منتصف الألفينيات، ثم حصولهم في ذات الفترة على الرخصة الثالثة لمؤسسة الاتصال الهاتفية بالشراكة مع شركة "أورنج" الفرنسية، وتم تتويج هذا البروز بالحصول على رخصة إذاعة "شمس أف أم" باسم سيرين بن علي بُعيْد حصول الطرابلسية، أصهار بن علي، على رخصة إذاعة "موزاييك" في إطار التوازن بين أبناء وأصهار الزوجة الأولى والثانية. 

 

 

مرة أخرى، شركة توريد وبيع السيارات كانت، اسمًا على مسمًى، "محركًا" رئيسيًا في تراكم الثروة، ثم كانت الذراع البنكية أداة التوسع في الاقتراض المالي. وحتى الخلاف الذي يبدو أنه قد حصل بين مروان المبروك وصهره الرئيس السابق أشهرًا قليلة قبل الثورة (بسبب خلاف فارق مع زوجته، وهو ما أشار إليه بعد الثورة مروان المبروك) والذي كان يمكن أن يؤدّي إلى تجريد العائلة من أملاكها بقرار كان ينوي اتخاذه بن علي (ونقل أصول الشركات إلى أبنائه من سيرين)، تم تجاوزه بسبب حاجة بن علي إليهم في أيامه الأخيرة في إطار التضحية بجزء العائلة "المحروق" سياسيًا (أي الطرابلسية) والاستثمار في علاقات المبروك بالفرنسيين، ثم سينتهي هذا التهديد مع حدث الثورة ذاتها. 

ما نشهده في علاقة بهذا الملف خاصة مع التأكيدات المتواصلة للرئيس عن "استرجاع كل مليم من أموال الشعب التونسي"، أنّ مصادرة كل الأملاك الخاصة بالعائلة سيصبح أمرًا مفروغًا منه إن لم يتم دفع مبلغ ضخم في إطار الصلح الجزائي يصل إلى آلاف المليارات

للمفارقة كان مروان المبروك في وضع قوي إثر الثورة خاصة بسبب شبكة علاقاته مع نخبة درست أساسًا في فرنسا عبر مؤسسة "Atuge" لخريجي المدارس الفرنسية الكبرى، وعبر أملاكه وأيضًا صورة أنه ليس من العائلة "الأكثر استفادة" حيث تركزت الأضواء على عائلة الطرابلسية التي كانت تمارس محسوبية مفضوحة عكس المحسوبية "الرهيفة" للمبروك، ولكن خاصة عبر العلاقات السياسية.

وهنا شكل لعب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي دورًا أساسيًا في تشكيل تحالف جديد كانت عائلة المبروك أهم عناصره، وهنا كان فصل "على وجه الورث" في مرسوم المصادرة مقومًا أساسيًا لهذه العلاقة. وستعود العلاقة بقوة بعد وصوله إلى الرئاسة من خلال قرار منهجي لتعطيل أعمال "التحكيم والمصالحة" وإعلانه شعار "المصالحة" خارج مسار العدالة الانتقالية وسيواصل يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الأسبق، نفس التوجه عبر تدخله الواضح لإنقاذ الأصول المالية المجمدة للعائلة في فرنسا (فصل تقرير "موقع الكتيببة" الصادر في 12 أكتوبر/تشرين الأول). 

تلاعب المبروك بالطبقة السياسية في إطار تجديد نفوذ اقتصاد الريع وتشويه الانتقال الديمقراطي ولعل أهمّ محطة في هذا المسلسل هو أنّ سقوط حكومة إلياس الفخفاخ تم على خلفية فتحها ملف عائلة المبروك والأملاك المصادرة، وخاصة إصرارها على المحاسبة وفضح تواطؤ القضاء معها (كشف الوزير محمد عبو آنذاك المماطلة في تلخيص أحد الأحكام القضائية في خصوص أملاك العائلة)، والجميع يتذكر الآن البلاغ الشهير لحركة النهضة المدافع عن "رأس المال الوطني" قبيل إسقاط الحكومة. 

الخيار المقدم حاليًا واضح، إمّا الانخراط في "الصلح الجزائي" وبالتالي في المسار السياسي العام للرئيس أو مواجهة السجن والأهم المصادرة

ما نشهده في علاقة بهذا الملف خاصة مع التأكيدات المتواصلة للرئيس عن "استرجاع كل مليم من أموال الشعب التونسي"، أن مصادرة كل الأملاك الخاصة بالعائلة سيصبح أمرًا مفروغًا منه إن لم يتم دفع مبلغ ضخم في إطار الصلح الجزائي يصل إلى آلاف المليارات. ومن ثمة إبطال الصيغة التي تم بها تأويل الفصل المذكور في مرسوم 2011. وإن لم يحصل التجاوب فهذا سيعني مصادرة حصص ضخمة من مؤسسات ضخمة تساهم فيها العائلة، سيكون ذلك فعلًا زلزالًا حقيقيًا. 

أخيرًا، يجب في رأيي أن نضع ما يحصل في علاقة بعائلة المبروك وعدد واسع من رجال أعمال آخرين من ذات الفئة تم إيقافهم أو تم استدعاؤهم للتحقيق أو كانوا في حالة فرار في إطار مرحلة جديدة من منهجية الرئيس في فتح جبهات متتالية ضد طبقات النخبة المختلفة التي يراها معادية للشعب، بدا بالسياسية ثم انتقل إلى القضائية فالنقابية ثم الإدارية ("تطهير الإدارة"). لنبدأ من أنّ الرئيس لا يبدو عمومًا مرتاحًا للعلاقة برجال الأعمال، ولعل أهمّ تصريح يعكس ذلك قاله منذ سنوات تحديدًا بعد انتخابه أنّه لا يقرب منه الأثرياء. 

نظرته "الطهورية" المتعففة من الأموال والتي يعود إلى التذكير بها بشكل دوري ليست منعزلة عن حذر مستبطن تجاه رجال الأعمال. لا يعني أنّه طبعًا معنيٌّ باستعدائهم جميعًا إذ يبدو أيضًا حذرًا من فتح جبهة مفتوحة مع الجميع، لكنه يعامل بكثير من الجفاء منظمة الأعراف، التي لم تعقد مؤتمرها الدوري بعد، والتي توجد أخبار عن فتح ملفات تحقيق بناء على تقارير محكمة المحاسبات مع جزء هام منها، وقرارات منع السفر على جزء من أعضاء مكتبها التنفيذي. 

الخيار واضح، إمّا الانخراط في "الصلح الجزائي" وبالتالي في المسار السياسي العام للرئيس أو مواجهة السجن والأهم المصادرة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"