12-يوليو-2023
العدالة الانتقالية

غياب الرافعة السياسية الداعمة لهذا المسار (نيكولا فوكو/Getty)

 

بعد نحو عقد كامل منذ إصدار قانون العدالة الانتقالية (ديسمبر/كانون الأول 2013)، و5 سنوات منذ إتمام هيئة الحقيقة والكرامة أعمالها (ديسمبر/كانون الأول 2018)، ومثلها منذ أول جلسة للدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية (ماي/أيار 2018)، وبعد 3 سنوات منذ نشر الهيئة المذكورة تقريرها الختامي في الرائد الرسمي (جوان/يونيو 2020)، وما يزيد عن سنتين منذ نشر قائمة شهداء الثورة وجرحاها في الرائد الرسمي (مارس/آذار 2021)، لا يزال مسار العدالة الانتقالية في تونس متأزمًا ومعطوبًا.. هو موت سريري مستدام.

لم تنفّذ الحكومات المتعاقبة توصيات هيئة الحقيقة والكرامة ولم تقدم الدولة اعتذارًا رسميًا لضحايا الاستبداد ولم تعوّضهم عبر جبر أضرارهم كما لم تصدر أي دائرة قضائية متخصّصة أي حكم ضد المنسوب إليهم الانتهاكات

فلم تنفّذ الحكومات المتعاقبة توصيات الهيئة، ولم تقدم الدولة اعتذارًا رسميًا لضحايا الاستبداد ولم تعوّضهم عبر جبر أضرارهم ماديًا ومعنويًا، كما لم تصدر أي دائرة قضائية متخصّصة أي حكم ضد المنسوب إليهم الانتهاكات. بل أن السلطة بعد 25 جويلية/يوليو 2021 تجاهلت مسار العدالة الانتقالية برمّته، سواء بعدم التنصيص عليه في دستور 2022 أو بإرساء آليات انتقالية جديدة مثل لجنة الصلح الجزائي التي أعادت تجربة لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة، ويظهر تشابه نتائج كليْهما وهو الفشل في استرجاع الأموال المنهوبة. 

إضافة لذلك، يكشف النكوص عن المسار الديمقراطي عن فشل العدالة الانتقالية في تحقيق أهدافها السامية أمام حقيقة هشاشة الوحدة الوطنية وضرب مقومات بناء دولة القانون وتراجع واقع الحقوق والحريات والعودة للمحاكمات السياسية.

تجاهلت السلطة بعد 25 جويلية 2021، مسار العدالة الانتقالية، بعدم التنصيص عليه في دستور 2022 أو بإرساء آليات انتقالية جديدة مثل لجنة الصلح الجزائي التي أعادت تجربة لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة

 

 

  • جبر الضرر للضحايا: هل تم طيّ الصفحة نهائيًا؟

ظلّ ملف جبر ضرر ضحايا الاستبداد عنوانًا أساسيًا للانقسام السياسي طيلة السنوات الأخيرة، في ظلّ رفض جهات حزبية لجبر الضرر المادي (18 ألف ضحية معنية بالتعويض المادي) تشكيكًا في مبدئه باعتباره ليس إلا مقابلًا عن النضال السياسي، وخاصّة بالنظر لقيمته المالية المرتفعة في ميزانية الدولة.

وهو الموقف الذي لقي صدى شعبيًا في ظلّ الأزمة المعيشية والاقتصادية. ففي هذا الجانب، مثّلت مطالبة القيادي في حركة النهضة عبد الكريم الهاروني أمام جمع من ضحايا الاستبداد للحكومة، في بداية جويلية/يوليو 2021، بتنفيذ مقررات جبر الضرر المادي، في زيادة حالة النفور الشعبي من الطبقة السياسية، خاصة في خضمّ أزمة كورونا حينها. وهو النفور الذي استغله رئيس الجمهورية قيس سعيّد في تأمين حزام داعم للتدابير الاستثنائية التي أعلنها يوم 25 جويلية/يوليو 2021.

وكان قد بعث صندوق "الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد" بمقتضى أمر حكومي عام 2018، وتشرف عليه لجنة تصرف تتكون من 8 أعضاء ممثلين لهياكل حكومية. وتتكوّن موارده من نسبة من الأموال الراجعة لميزانية الدولة والمتأتية من تنفيذ القرارات التحكيمية الصادرة عن لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة، والهبات والتبرعات والعطايا غير المشروطة، وأيضًا من كل المصادر الأخرى التي يمكن رصدها لفائدة الصندوق، وفق ما ينصّ عليه الأمر الحكومي.

وسبق وأن رصدت ميزانية الدولة عام 2019 اعتمادات بقيمة 10 مليون دينار لفتح الصندوق. غير أن الصندوق ظلّ مجمدًا واقعًا دون تمكين الضحايا من الحصول على جبر الضرر المادي بحسب المقرّرات المسلّمة إليهم والتي حددت نسبة التعويض بحسب جسامة الانتهاكات التي تعرضوا إليها.

في الوقت الذي يطالب الضحايا فيه بتنفيذ المقررات طبق قانون العدالة الانتقالية، تلتزم السلطة الحالية الصمت المطبق في ظل مؤشرات على رفضها تطبيق هذه المقررات باعتبارها سليلة "العشرية السابقة" التي تعمل السلطة على محو آثارها

وفي الوقت الذي يطالب الضحايا فيه بتنفيذ المقررات طبق قانون العدالة الانتقالية، تلتزم السلطة الحالية الصمت المطبق في ظل مؤشرات على رفضها تطبيق هذه المقررات باعتبارها سليلة "العشرية السابقة" التي تعمل السلطة الحالية على محو آثارها، وهو ما يعني بالنهاية تلاشي آمال ضحايا الاستبداد في الحصول على جبر الضرر المادي.

في المقابل، نحت السلطة بعد 25 جويلية 2021 إلى تبني مبدأ حصر التعويضات في فئتين محددتين، فأرست بمقتضى المرسوم عدد 20 لسنة 2022 مؤسسة "فداء" الخاصة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة من جهة وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها من جهة أخرى.

وهي تتولّى بالخصوص اتخاذ الإجراءات الضامنة لحصولهم على حقوق ومنافع سواء على المستوى المهني أو الصحي أو الاجتماعي مع حفظ ذاكرتهم وتخليد ذكراهم. وعلى عهده في تغيير من يعيّنهم على رأس المؤسسات المستحدثة، أقال رئيس الدولة، في جوان/يونيو 2019، رئيس مؤسسة فداء محمد الطيب الغزي بعد 7 أشهر فقط من تعيينه، معوَضًا إياه بمستشار المصالح العمومية أحمد جعفر، بما يشي عدم تحقيق المؤسسة بعد للأهداف المحددة لها.

لم يتم تبني مقترحات جبر الضرر للمناطق الضحية أي تلك المناطق التي تعرضت للتهميش أو الإقصاء الممنهج، في المقابل، أرسى سعيّد الشركات الأهلية معولّا عليها للتنمية في المناطق المهمشة

ولا يقتصر في الأثناء التخلي عن جبر الضرر المادي الفردي للضحايا، بل لا توجد مؤشرات على تنفيذ الأشكال الأخرى لجبر الضرر: بالخصوص لم يقدم رئيس الدولة اعتذارًا لضحايا الاستبداد ولم يتم تبني مقترحات جبر الضرر للمناطق الضحية أي تلك المناطق التي تعرضت للتهميش أو الإقصاء الممنهج. ففي هذا الجانب، أرسى رئيس الدولة الشركات الأهلية معولّا عليها للتنمية في المناطق المهمشة. بذلك، يتأكد أن جبر الضرر لضحايا الاستبداد، أفرادًا وجماعات ومناطق طبق قانون العدالة الانتقالية، هو صفحة تم طيّها واقعًا.

 

 

  • القضاء المختص والصلح مع "الفاسدين": لا نتيجة ولا آفاق

رغم مرور ما يزيد عن خمس سنوات منذ بدء عقد جلسات الدوائر الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية، الموزعة على 13 محكمة ابتدائية، لم تصدر أي منها أي حكم بعد. إذ تواجه الدوائر معضلة تغيير أعضائها ضمن الحركات القضائية في السنوات الماضية، بما يعني إفراغها من القضاة المتخصّصين في العدالة الانتقالية الذين تم تكوينهم للغرض.

ففي الحركة القضائية الأخيرة عام 2021، جرت نقلة 28 قاضيًا بينهم رئيسيْ دائرة. إضافة لذلك، تواجه الدوائر المتخصصة معضلة عدم حضور عديد المتهمين وبالخصوص الأمنيين في جلسات المحاكمة. ورغم إصدار الدوائر بطاقات جلب ضد هؤلاء، فلم يتم تنفيذها طبق القانون. وهو ما يعرّي، في جانب آخر، زيف خطاب رئيس الدولة حول مكافحة الإفلات من العقاب إذا ما تعلّق بالمتهمين في قضايا العدالة الانتقالية.

الحقيقة البيّنة التي تفسّر عدم إصدار الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية لأي حكم هو غياب الرافعة السياسية الداعمة لهذا المسار

والحقيقة البيّنة التي تفسّر عدم إصدار الدوائر المتخصصة لأي حكم هو غياب الرافعة السياسية الداعمة لمسار العدالة الانتقالية، وهو ما جعل هذه الدوائر، خاصة في سياق استهداف مقومات استقلالية القضاء، غير حريصة على إصدار الأحكام، خاصة وأنها ستكون، وطبق قانون العدالة الانتقالية، باتّة غير قابلة للطعن، بسبب عدم تضمين مبدأ التقاضي على درجتين في القانون المذكور. ولا يُستبعد، في سياق نسف السلطة لأركان العدالة الانتقالية، حلّ الدوائر المتخصّصة برمّتها.

في جانب آخر، القرارات التي أصدرتها لجنة التحكيم والمصالحة صلب هيئة الحقيقة والكرامة المتعلقة بالصلح مع بعض رجال الأعمال المتورطين في الفساد المالي والاعتداء على المال العام، مازالت حتى الساعة مجرّد حبر على ورق. إذ لم تعترف بها الحكومة ولم تطبقها. وهي قرارات تشوبها بذاتها شبهات تتعلق بشفافيتها إضافة لإخلالات عكسها، على سبيل المثال، إبطال المحكمة الابتدائية بتونس في مارس/آذار 2021 لقرار تحكيمي يتعلق برجل الأعمال الموقوف منذ الثورة عماد الطرابلسي. وبالتالي عدا عن محدودية عدد القرارات التحكيمية (9 قرارات فقط) وبالتبعية محدودية أثرها في استرجاع الأموال المنهوبة، فهي تعكس فشل العدالة الانتقالية فيما يتعلق بتسوية ملفات الفساد المالي.

وضمن هذا الإطار، استغلّ سعيّد سلطته في إصدار مراسيم بعد 25 جويلية 2021 ليصدر مرسومًا يتعلق بالصلح الجزائي يقوم على مبدأ العدالة التصالحية، محدثًا لجنة خاصة تضم قضاة وممثلين عن هياكل حكومية. بيد أن اللجنة انتهت لحصيلة سلبية طيلة عهدتها الرئيسية الممتدة على 6 أشهر بما فرض تمديد عملها لعهدة جديدة مع إقالة رئيسها وعضوين اثنين منها.

فشل تسوية الملفات المالية طبق آلية المصالحة لا ينحصر على العدالة الانتقالية فقط قبل 25 جويلية، بل يمتدّ مع سعيّد الذي لا يزال يعوّل على نتائج لجنة الصلح لتعبئة موارد الدولة

ويعوّل سعيّد على تعبئة 13.5 مليار دينار من أعمال اللجنة وهو رقم ضخم يصعب تحقيقه، باعتبار أنه لا يقوم على معايير موضوعية دونًا عن أن المرسوم انطلق من فرضيات غير صحيحة فيما يتعلق بواقع الملفات المعنية بالصلح. وهو ما يبيّن أن فشل تسوية هذه الملفات طبق آلية المصالحة لا ينحصر على العدالة الانتقالية فقط قبل 25 جويلية، بل يمتدّ مع سعيّد الذي لا يزال يعوّل على نتائج لجنة الصلح لتعبئة موارد الدولة.

  • النكوص عن الديمقراطية: عنوان الفشل

يعدّ السعي المستمرّ لغلق قوس المسار الديمقراطي في تونس منذ 25 جويلية بداية من الاستفراد بالسلطة وصياغة دستور لا يضمن مقومات استقلالية القضاء ولا يؤمن التوازن بين السلط، إضافة للتراجع الممنهج في مؤشرات ممارسة الحريات العامة، هو النتيجة العاكسة لفشل مسار العدالة الانتقالية في تونس. إذ أن هذا الصنف من العدالة، الذي تلجأ إليه الدول بعد الانتفاضات والثورات لمعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، يسعى، في جوهره، لضمان عدم تكرار الانتهاكات وفرض إصلاحات تؤمن انتقالًا ديمقراطيًا مع ضمان الوحدة الوطنية. وهو ما لم يتحقق قبل 25 جويلية وما تأكد بعد هذا التاريخ.

تلجأ الدول لمسار العدالة الانتقالية بعد الانتفاضات والثورات لضمان عدم تكرار الانتهاكات وفرض إصلاحات تؤمن انتقالًا ديمقراطيًا مع ضمان الوحدة الوطنية وهو ما لم يتحقق قبل 25 جويلية وما تأكد بعد هذا التاريخ

تتحمّل مختلف الأطراف المعنية بمسار العدالة الانتقالية المسؤولية وبالخصوص الحكومات المتعاقبة التي رفضت تطبيق الإصلاحات خاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والقضائية بما حال دون تفكيك منظومة الاستبداد والفساد.

وأدى تراجع أولوية هذا المسار في أولوية الحكومات السابقة دونًا عن الأحزاب الفاعلة في البلاد، إلى الاستهانة بمآلات عدم تحقيق أهداف العدالة الانتقالية: غياب المصالحة وعدم بناء دولة القانون. إذ تبيّن التفاعلات السياسية والمجتمعية بعد 25 جويلية 2021 هشاشة الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعية وضعف التمسك بالنظام الديمقراطي.

تتحمّل مختلف الأطراف المعنية بمسار العدالة الانتقالية المسؤولية وبالخصوص الحكومات المتعاقبة التي رفضت تطبيق الإصلاحات خاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والقضائية بما حال دون تفكيك منظومة الاستبداد والفساد

في المقابل، أرسى قيس سعيّد آلياته الخاصة للعدالة الانتقالية (مؤسسة فداء ولجنة الصلح الجزائي) وأطلق لوحده إصلاحاته (دستور 2022 والمراسيم المتعلقة بالقضاء كالمرسومين عدد 11 و35 المتعلقين بالمجلس الأعلى المؤقت للقضاء والآخر المتتم له الذي يسمح لرئيس الدولة بإعفاء القضاة)، وهي لا تنطلق من رؤية موحدة وجامعة كما أنها تتعارض مع بناء دولة القانون وتحقيق الوحدة الوطنية.

في الأثناء، إن الانتهاكات الحقوقية والمحاكمات السياسية التي تشهدها تونس اليوم قد تكون، في المستقبل، موضوع عدالة انتقالية جديدة في مرحلة تأسيسية قادمة.