21-مايو-2023
الصلح الجزائي

عملت اللجنة خلال عهدتها الأولى في الخفاء وفي ظل حالة ارتباك داخلي (صورة أرشيفية)

 

أتمّت لجنة الصلح الجزائي المدة الرئيسية لعضوية أعضائها المحددة بمدة 6 أشهر انطلاقًا من 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، غير أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد أصدر أمرًا رئاسيًا بتاريخ 12 ماي/أيار 2023 بتجديد مدة العضوية لستة أشهر ثانية وأخيرة في عدد خاصّ في الرائد الرسمي.

التمديد للجنة الصلح الجزائي يعكس حصيلتها السلبية طوال العهدة الأولى، التي عملت خلالها في الخفاء وفي ظل حالة ارتباك داخلي عكستها إقالة رئيسها ومقرّرتها

وإن كان يعدّ هذا التمديد استفراغًا للولاية الزمنية الممكنة لعمل اللجنة بغاية تحقيق أهدافها، فهو يعكس حصيلتها السلبية طوال العهدة الأولى، التي عملت خلالها في الخفاء وفي ظل حالة ارتباك داخلي عكستها إقالة رئيسها ومقرّرتها. وعدا العوائق الجوهرية المتعلقة بمسار الصلح الجزائي طبق المرسوم عدد 13 لسنة 2022، تتعزّز بذلك الشكوك حول قدرة اللجنة على تحقيق السقف الذي حدده الرئيس التونسي وهو استرجاع 13.5 مليار دينار من الأموال المنهوبة، وذلك خلال الفترة المتبقية.

 

 

  • لجنة دون رئيس ودون نظام داخلي مع غياب للشفافية

العنوان الأساسي للارتباك الداخلي صلب لجنة الصلح الجزائي هو إقالة رئيس الدولة قيس سعيّد لرئيسها القاضي العدلي مكرم بن منا بمقتضى أمر رئاسي مؤرخ في 17 مارس/آذار 2023 دون تعويضه مطلقًا، وهو ما يخالف الفصل 11 من مرسوم الصلح الجزائي الذي يُلزم بسد الشغور في أجل أقصاه 10 أيام من تاريخ معاينته.

أقال سعيّد رئيس لجنة الصلح الجزائي القاضي العدلي مكرم بن منا بمقتضى أمر رئاسي في 17 مارس 2023 دون تعويضه مطلقًا إلى حد الآن

فلم يعيّن رئيس الجمهورية رئيسًا جديدًا للجنة، والذي يجب أن يكون منتميًا لصنف القضاة العدليين، وذلك رغم تمديد عهدتها ليظلّ السؤال إذا ما كانت ستواصل اللجنة أعمالها دون رئيس لها، وهو ما يُستبعد مبدئيًا باعتبار مثلًا أن عقد الصلح الجزائي النهائي يستلزم إمضاء رئيس اللجنة.

لم توضّح رئاسة الجمهورية، في الأثناء، الأسباب الكامنة وراء إقالة بن منا، بيد أن هذه الإقالة تزامنت، وقتها، مع زيارة أداها سعيّد لمقرّ اللجنة بتاريخ 16 مارس/آذار 2023، انتقد خلالها بطء عملها وعدم استرجاعها للأموال المنهوبة.

الرئيس المُقال تحدّث، في تصريح إذاعي بعيْد إعفائه، عن وجود "أجندة مافيوزية" تصدّى لها صلب اللجنة، متحدثًا عن سعيها لتمرير أجندات في مسائل المصادرة والضمانات المالية ومعايير التصالح وموضوع التثقيلات على المبالغ، مضيفًا أن "هؤلاء" يعلمون أنه "شخص خطر عليهم". ويكشف هذا التصريح عديد الأسئلة إذا ما كان بن منا يتهم ضمنيًا أعضاء صلب اللجنة بتبني هذه الأجندة "المافيوزية"، وموقف رئيس الدولة بخصوص وعيه بهذه الأجندة والتي يدّعي الرئيس المُعفى وجودها.

 

 

في الأثناء، ليست إقالة بن منا هي الأولى صلب اللجنة، إذ أعفى رئيس الجمهورية قبله مقرّرة اللجنة منية الجويني، وهي مديرة بوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية، بأمر رئاسي بتاريخ 20 جانفي/يناير 2023، وهو أمر منشور بتأخير بمدة ثلاثة أسابيع من تاريخ سريانه الذي يعود لتاريخ 27 ديسمبر/كانون الأول 2022. وتم تعويض المقررة المعفاة بمقرّرة جديدة هي حياة العربي المتصرفة بالإدارة العامة لنزاعات الدولة. ومجددًا، لم يُعلن للعموم خلفيات إعفاء المقررة، بما حوّل اللجنة أشبه بغرفة مغلقة.

تعمل لجنة الصلح الجزائي دون نظام داخلي على عكس ما ينص عليه الفصل 13 من مرسوم الصلح وهو ما يعزّز الغموض حول الإطار القانوني المنظم لعملها الداخلي

إضافة لما سبق، تعمل لجنة الصلح الجزائي دون نظام داخلي، والحال أن الفصل 13 من مرسوم الصلح يوجب على اللجنة إعداد نظامها الداخلي في أجل 15 يومًا من تاريخ مباشرتها لمهامها وتتم المصادقة عليه بأغلبية ثلثي أعضائها وينشر بالرائد الرسمي.

المثير للانتباه أن رئيس اللجنة المُعفى سبق وأن قدم النظام الداخلي لرئيس الجمهورية بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول 2022 بيد أن سعيّد لم يأذن بنشره بالرائد الرسمي ربما لطلبه القيام بتعديلات عليه.

لكن بعد نحو ثلاثة أشهر خلال زيارته لمقرها بتاريخ 16 مارس/آذار 2023، انتقد سعيّد استغراق اللجنة وقتًا طويلًا في إعداد النظام الداخلي، معتبرًا ذلك "إضاعة للوقت". اللجنة عملت بذلك طيلة عهدتها الأولى دون نظام داخلي لم ينشر بعد طبق الصيغ القانونية، وهو ما يعزّز الغموض حول الإطار القانوني المنظم لعملها الداخلي. وكانت قد طلبت رئاسة الحكومة في منشور بتاريخ 10 مارس/آذار 2023 من الإدارات والهياكل العمومية تمكين لجنة الصلح الجزائي من الملفات المتعلقة بالجرائم الاقتصادية والمالية.

لم تبدأ لجنة الصلح الجزائي رسميًا في تلقي مطالب الصلح إلا بتاريخ 21 مارس 2023 أي بعد ما يزيد عن 4 أشهر منذ تعيين أعضائها، وهو ما يطرح السؤال حول أسباب هذا التأخر الذي استغرق أكثر من نصف عهدتها الرئيسية

ولم تبدأ اللجنة، في الأثناء، رسميًا في تلقي مطالب الصلح إلا بتاريخ 21 مارس/آذار 2023 أي بعد ما يزيد عن 4 أشهر منذ تعيين أعضائها، وهو ما يطرح السؤال حول أسباب هذا التأخر الذي استغرق أكثر من نصف عهدتها الرئيسية، وبالخصوص حول تحديد المسؤولية عن هذا التأخير. في هذا الجانب، بعد أكثر من شهرين منذ تعيين أعضاء اللجنة، كان رئيسها المعفى، خلال شهر جانفي/يناير 2023، يتحدث عن مراسلات موجّهة لرئاسة الجمهورية للمطالبة بتوفير موارد لوجيستية وبشرية لانطلاق عمل اللجنة على المستوى الفعلي.

في جانب آخر، ظلت اللجنة تعمل، في خضم هذه الفوضى، في غياب مطلق للشفافية وتكريس الحق في المعلومة خاصة وأن الأمر يتعلق بلجنة مكلّفة باسترجاع 13.5 مليار دينار حسب رئيس الدولة، وستُوظّف هذه المبالغ، إن تم تأمينها، في مشاريع جهوية في جميع المعتمديات تحت إشراف لجنة خاصّة. فلم تعلن اللجنة بالخصوص عدد المطالب التي تلقتها، وجهة تعهيدها بها والإجراءات المتخذة بشأنها.

 

 

  • هل ينقذ تمديد عمل اللجنة مهمتها؟

عدا عن الانطلاقة المعطوبة لعمل لجنة الصلح على المستوى اللوجيستي، والأسئلة المشروعة حول كفاءة أعضائها وقدرتهم على معالجة مطالب الصلح، يشوب استرجاع الأموال المنهوبة خاصة بالسقف المحدد من رئاسة الجمهورية خلل جوهري يتعلق أولًا بقاعدة المعطيات حول ملفات الفساد المالي والاقتصادي من جهة وبالتبعية بنجاعة آلية الصلح.

ينطلق سعيّد من تقدير مبلغ 13.5 مليار دينار، من تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد عام 2011، مشيرًا إلى أن الأموال المنهوبة تتعلق بـ460 شخصية مذكورة في التقرير، بيد أن مصادر متعددة تقدّر أن هذه المعطيات غير دقيقة

إذ ينطلق رئيس الدولة من تقدير مبلغ 13.5 مليار دينار، وهو مبلغ مرتفع يقارب ثلث ميزانية الدولة عام 2023، من تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد عام 2011، مشيرًا إلى أن الأموال المنهوبة تتعلق بـ460 شخصية مذكورة في التقرير، بيد أن مصادر متعددة ومتابعة لملف الأموال المنهوبة منذ الثورة، تقدّر أن هذه المعطيات غير دقيقة.

وتجاوزًا لما سبق، خضعت ملفات الفساد طيلة ما يزيد عن 12 عامًا لمعالجة متعددة الأوجه بين التقاضي المحلي والدولي والعدالة الانتقالية، بما يجعل من آلية الصلح بالصيغة المقترحة منقطعة عن الواقع.

يعوّل رئيس الدولة، أيضًا، على الملفات المتعلقة بالجرائم الاقتصادية والمالية الجارية باعتبار أن مرسوم الصلح يشمل الجرائم المرتكبة قبل 2011 إلى تاريخ إصداره أي إلى غاية 20 مارس/آذار 2022، خاصة وأنه يشمل بالخصوص مجالات الصرف والديوانة والجباية، وهو ما يعني توسيع ولاية لجنة الصلح على الملفات المنشورة بالخصوص لدى القطب القضائي المالي والاقتصادي.

خضعت ملفات الفساد طيلة ما يزيد عن 12 عامًا لمعالجة متعددة الأوجه بين التقاضي المحلي والدولي والعدالة الانتقالية، بما يجعل من آلية الصلح بالصيغة المقترحة منقطعة عن الواقع

في هذا الجانب، حدد الفصل 21 من المرسوم أن المشمولين بالفصل 3 من قانون القطب القضائي المذكور مطالبون بتقديم طلبات الصلح في أجل شهر واحد من تاريخ انطلاق نشاط اللجنة، وهو الأجل الذي انتهى عمليًا بتاريخ 20 أفريل/نيسان 2023 باعتبار أن اللجنة بدأت فعليًا بتلقي المطالب بتاريخ 21 مارس/آذار 2023.

الفصل السابق ذكره ألزم اللجنة أيضًا بضبط قائمة المعنيين بالصلح من أجل الأفعال المرتكبة قبل سنة 2011 وإلى حد تاريخ نشر المرسوم بالرائد الرسمي مع دعوتهم إلى إيداع مطلب في الصلح في أجل خمسة عشر يومًا من تاريخ الدعوة. وهو ما لم تقم به اللجنة بما جعلها تعمل خارج الضوابط الزمنية المقيّدة بالمرسوم.

كم عدد مطالب الصلح التي تلقتها اللجنة طيلة عهدتها الأولى؟ لا توجد إجابة، ولكن المعلوم أن صيغة الصلح المقترحة ليست محفّزة للمعنيين به، وهو ما جعل اللجنة تبادر بنفسها لطلب الصلح، وذلك على غرار حالة رجل الأعمال المودع بسجن المرناقية شفيق جراية

كم عدد مطالب الصلح التي تلقتها اللجنة طيلة عهدتها الأولى؟ لا توجد إجابة، ولكن المعلوم أن صيغة الصلح المقترحة ليست محفّزة للمعنيين به، وهو ما جعل اللجنة تبادر بنفسها لطلب الصلح، وذلك على غرار حالة رجل الأعمال المودع بسجن المرناقية شفيق الجراية الذي أكد محاميه أن اللجنة هي من تواصلت معه للخضوع لمسار الصلح الجزائي. ومن المشاكل الجوهرية التي تواجهها اللجنة هي كيفية معالجة مسألة المصادرة، إذا ما كانت الأملاك المصادرة مشمولة بكتب الصلح النهائي أم تعتبر غير معنية بالصلح بالنظر أنها أصلًا بذمة الدولة.

هل تستطيع بالنهاية لجنة الصلح الجزائي إنقاذ مهمتها في الستة أشهر الثانية؟ لا يبدو أن هناك مؤشرات جدية على قدرة اللجنة على تحقيق هدفها المعلن وبالخصوص تعبئة مبلغ 13.5 مليار دينار الذي حدده رئيس الجمهورية، والذي يعوّل عليه وذلك "بدل اللجوء للقروض" حسب قوله.

وباعتبار مرسوم الصلح يمثل، في جانب متصل، العضد التمويلي للشركات الأهلية، باعتبار أن 20 في المائة من عائدات الصلح ستخصص لفائدة الجماعات المحليّة بغاية المساهمة في رأس مال مؤسسات محليّة جهويّة. وعليه، فإن الفشل في توفير التمويلات المأمولة سيؤثر على مشروع الشركات الأهلية، وهو عنوان رئيسي في المشروع الاقتصادي والتنموي لقيس سعيّد.