28-نوفمبر-2023
الأموال المنهوبة الأملاك المصادرة الصلح الجزائي

غياب تصوّر شامل لتسوية ملف المصادرة على المستوى العقل السياسي والإداري ليصبح عبئًا أحيانًا أكثر منه فرصة لتمويل خزينة الدولة (صورة توضيحية/ Getty)

 

ليس مستجدًا تحوّل ملفّ مصادرة الأموال والممتلكات العقارية والمنقولة الراجعة للرئيس السابق زين العابدين بن علي وعائلته وحاشيته، إلى ملف تحوم حوله شبهات فساد سياسي وإداري ومالي. والحال كان المؤمل، في البداية، أن يمثّل ضمانة لاسترداد أموال الشعب التونسي. شبهات الفساد متعدّدة سواء فيما يتعلق بتحديد الأملاك المصادرة أو بالتصرّف أو التفويت فيها. وهي التي أسّست لملفات قضائية انتهت لعدد من الإيقافات الأخيرة. والمعضلة المطروحة هي نزاهة المعالجة القضائية والإدارية في السياق الراهن.

ليس مستجدًا تحوّل ملفّ مصادرة الأموال والممتلكات العقارية والمنقولة الراجعة للرئيس السابق زين العابدين بن علي وعائلته وحاشيته، إلى ملف تحوم حوله شبهات فساد سياسي وإداري ومالي

مثّلت المصادرة آلية اعتمدتها الحكومة المؤقتة فجر الثورة ضمن الآليات المعتمدة لاسترجاع الأموال والممتلكات المكتسبة بصفة غير شرعية، في إطار المساءلة ومكافحة الفساد. وتأسست لجنة للمصادرة تابعة لوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية مهمتها نقل الأموال والممتلكات المصادرة لفائدة الدولة، ولجنة أخرى للتصرّف في هذه الأموال والممتلكات تابعة لوزارة المالية. 

كما تم تكليف دائرة الائتمان والتصفية بالمحكمة الابتدائية بتونس بالإشراف على المتصرفين القضائيين والمؤتمنين العدليين المكلفين بالإشراف على ما تمت مصادرته طبق القانون. فيما مثلت شركة الكرامة القابضة التصرف في عدد من الشركات المصادرة. المعضلة ظهرت تباعًا أنها هيكلية، عبر تعدّد اللجان وأحيانًا التداخل بين مهامها.

لم تؤدِّ العدالة الانتقالية، وتحديدًا عبر آلية التحكيم والمصالحة، إلى معالجة ملفات الفساد المالي والإداري لرجال الأعمال المتورطين لأسباب متعددة من بينها غياب الانخراط الجدّي لأجهزة الدولة في هذه الآلية ذاتها

لم تؤدِّ العدالة الانتقالية، وتحديدًا عبر آلية التحكيم والمصالحة، إلى معالجة ملفات الفساد المالي والإداري لرجال الأعمال المتورطين لأسباب متعددة من بينها غياب الانخراط الجدّي لأجهزة الدولة في هذه الآلية ذاتها، وضعف أداء لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة. لكن أصدرت اللجنة بعض قرارات المصالحة التي تضمنت إقحام الأملاك المصادرة ضمن قيمة الأموال المطالبِ بها رجالُ الأعمال المعنيون للاستفادة من آثار المصالحة، وفي مقدمتها إيقاف التتبعات القضائية ضدهم. 

 

 

هذا الإقحام بما يعنيه من عدم حذف الأملاك المصادرة من قيمة المبلغ المطلوب تم دون تقدير قيمة هذه الممتلكات، وهو ما جعل تنفيذ قرارات التحكيم والمصالحة الصادرة معطّلًا دونًا عمّا يحوم حولها من شبهات فساد. 

تفاقم ملف المصادرة الناتج عن الفساد السياسي والمالي قبل الثورة ليتحوّل بذاته إلى ملف فساد بعد الثورة وأدى سوء التصرف والإهمال وعدم جودة أعمال التصرف والائتمان إلى تراجع لافت في قيمة الممتلكات المصادرة

تفاقم تباعًا ملف المصادرة الناتج عن الفساد السياسي والمالي قبل الثورة ليتحوّل بذاته إلى ملف فساد بعد الثورة. إذ سجّلت محكمة المحاسبات في تقريرها عام 2017، على سبيل المثال، تأخر إصدار عدد من قرارات المصادرة بما أدى إلى تفويت أشخاص معنيين بمرسوم المصادرة في ممتلكات دون وجه حق. 

في الجانب المتعلق بالتصرّف، أدى سوء التصرف والإهمال وعدم جودة أعمال التصرف والائتمان إلى تراجع لافت في قيمة الممتلكات المصادرة، بما يشمل عقارات وسيارات. سوء تصرّف مقصود بحسب متابعين للملف غايته التخفيض في قيمة ما هو مصادر لتيسير التفويت فيه إلى جهات مستفيدة. بهذه الصورة، باتت أعمال التفويت بذاتها موضع شبهة.

لم تحقق لجنة الصلح الجزائي، التي استحدثها رئيس الجمهورية، أي نتائج معلنة لافتة لتحقيق مداخيل تنعش المالية العمومية وفشلت في تحقيق ما كان يُنتظر منها مع حديث رئيس الدولة عن عزمه لتعديل مرسوم الصلح

في التقرير السابق ذكره، أكدت محكمة المحاسبات أن عمليات التفويت المنجزة وقتها اعترتها نقائص تعلّقت أساسًا بعدم احترام إجراءات التفويت وبعدم التقيّد بقواعد المنافسة عند الإعلان عن طلبات العروض، دونًا عن النقص في دقة نتائج عمليات التقييم التي يتم اعتمادها كأثمان مرجعية عند التفويت. 

في الأثناء، لم تحقق لجنة الصلح الجزائي، التي استحدثها رئيس الجمهورية، أي نتائج معلنة لافتة لتحقيق مداخيل تنعش المالية العمومية. وكان رئيس اللجنة المُعفى مكرم بن منا تحدث عن "أجندة مافيوزية" أراد البعض، لم يسّمهم، تمريرها تشمل التصرّف في المصادرة حسب تعبيره. إذ تسود حالة من الغموض مسألة التعامل مع الأموال المصادرة منذ ما يزيد عن عقد في إطار صلح جزائي موعود بين الدولة ومرتكب الانتهاك. تباعًا فشلت اللجنة في تحقيق ما كان يُنتظر منها مع حديث رئيس الدولة عن عزمه لتعديل مرسوم الصلح، مع عودة ملف المصادرة بذاته للواجهة في الخطاب الرئاسي. 

غياب تصوّر شامل لتسوية ملف الأملاك المصادرة في تونس على المستوى العقل السياسي والإداري، ليصبح هذا الملف عبئًا أحيانًا أكثر منه فرصة لتمويل خزينة الدولة

في خضم ذلك، تمت إثارة ملفات قضائية بخصوص شبهات الفساد سواء فيما يتعلق بالتصرّف في الأملاك المصادرة أو التفويت فيها يظل مشوبًا بغياب توفر ضمانات المحاكمة العادلة في ظل وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء. هو وضع جعل مراقبين يتحدثون عن توظيف هذه الملفات لدفع رجال أعمال للخضوع لآلية الصلح الجزائي، أو لتصفية الحسابات مع معارضين للسلطة كحالة أمين عام حزب القطب الموقوف رياض بن فضل

يشير المراقبون، في الأثناء، إلى غياب تصوّر شامل لتسوية ملف المصادرة على المستوى العقل السياسي والإداري، وهو الملف الذي أصبح عبئًا أحيانًا أكثر منه فرصة لتمويل خزينة الدولة.